حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
الصدِّيقة عليها السلام تلتحق بوالدها صلى الله عليه واله
كان النبي صلى الله عليه واله يتقلب على فراش المنيّة، وكانت فاطمة تجلس بجانبه فيسارُّها النبي فتبكي، ثم يسارُّها ثانية فيتهلل وجهها الكريم. وحين تُسأل عن السر الأول تقول: إنه أسَرَّ إليها بأن جبرائيل كان يعرض عليه القرآن كل عام مرة واحدة. فعرض عليه هذا العام مرتين، وما ذلك إلَّا لاقتراب أجله.
أما السر الثاني فإنها ستكون أول من تلتحق به.
وهكذا، ظلت فاطمة تعزي نفسها رغم شدة الظروف المحيطة بها، بأنها ستكون أول من يلتحق برسول الله صلى الله عليه واله.
أما الظروف التي عاشتها فاطمة عليها السلام بعد وفاة الرسول، فكانت صعبة جدًّا، لأنها وقفت وحدها تتحدى العواصف العاتية. وحتى الإمام علي عليه السلام بطل الإسلام الأول لم يكن من الحكمة أن يشاطرها الجهاد، فكان عليها أن تتصدَّى لذلك وحدها، وهي امرأة لَمَّا تبلغ العشرين ربيعاً.
ولكل تلك الظروف يكفينا أن نستمع إليها وهي مفجوعة تشكو إلى علي عليه السلام حالها بكلمات تتقطر ألماً وتحدياً:
لما انصرفت فاطمة من عند أبي بكر أقبلت على أمير المؤمنين عليه السلام فقالت له:
«يَا بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْكَ السَّلَامُ، اشْتَمَلْتَ شَمْلَةَ الجَنِينِ، وَقَعَدْتَ حُجْرَةَ الظَّنِينِ، نَقَضْتَ قَادِمَةَ الْأَجْدَلِ، فَخَانَكَ رِيشُ الْأَعْزَلِ، هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ يَبْتَزُّنِي نَحِيلَةَ أَبِي وَبُلْغَةَ ابْنَيَّ، لَقَدْ أَجْهَرَ فِي خِصَامِي، وَأَلْفَيْتُهُ أَلَدَّ فِي كَلَامِي، حَتَّى حَبَسَتْنِي قَيْلَةٌ نَصْرَهَا، وَالمُهَاجِرَةُ وَصْلَهَا، وَغَضَّتِ الجَمَاعَةُ دُونِي طَرْفَهَا، فَلَا دَافِعَ وَلَا مَانِعَ، خَرَجْتُ كَاظِمَةً، وَعُدْتُ رَاغِمَةً، أَضْرَعْتَ خَدَّكَ يَوْمَ أَضَعْتَ حَدَّكَ، افْتَرَسَتِ الذِّئَابُ وَافْتَرَشْتَ التُّرَابَ، مَا كَفَفْتَ قَائِلًا، وَلَا أَغْنَيْتَ بَاطِلًا، وَلَا خِيَارَ لِي، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَنِيئَتِي [هَيْنَتِي]، وَدُونَ زَلَّتِي، عَذِيرِي اللهُ مِنْكَ عَادِياً، وَمِنْكَ حَامِياً، وَيْلَايَ فِي كُلِّ شَارِقٍ، مَاتَ الْعَمَدُ، وَوَهَتِ [وَهَنَتِ] الْعَضُدُ، شَكْوَايَ إِلَى أَبِي، وَعَدْوَايَ إِلَى رَبِّي، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَشَدُّ قُوَّةً وَحَوْلًا، وَأَحَدُّ بَأْساً وَتَنْكِيلًا.
فأجابها أمير المؤمنين: لَا وَيْلَ عَلَيْكِ، الْوَيْلُ لِشَانِئِكِ، نَهْنِهِي عَنْ وَجْدِكِ يَا بْنَةَ الصَّفْوَةِ، وَبَقِيَّةَ النُّبُوَّةِ، فَمَا وَنَيْتُ عَنْ دِينِي، وَلَا أَخْطَأْتُ مَقْدُورِي، فَإِنْ كُنْتِ تُرِيدِينَ الْبُلْغَةَ، فَرِزْقُكِ مَضْمُونٌ، وَكَفِيلُكِ مَأْمُونٌ، وَمَا أُعِدَّ لَكِ أَفْضَلُ مِمَّا قُطِعَ عَنْكِ، فَاحْتَسِبِي اللهَ. فَقَالَتْ: حَسْبِيَ الله» 1.
وحان ميعاد اللقاء، واستعدَّت الصديقة للقاء الله والالتحاق برسول الله، وكان لذلك قصة تروى: فلقد «مَرِضَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام مَرَضاً شَدِيداً، وَمَكَثَتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي مَرَضِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَتْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا نُعِيَتْ إِلَيْهَا نَفْسُهَا دَعَتْ أُمَّ أَيْمَنَ وَأَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَوَجَّهَتْ خَلْفَ عَلِيٍّ وَأَحْضَرَتْهُ، فَقَالَتْ يَا بْنَ عَمِّ! إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي وَإِنِّي لَا أَرَى مَا بِي إِلَّا أَنَّنِي لَاحِقٌ بِأَبِي سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ، وَأَنَا أُوصِيكَ بِأَشْيَاءَ فِي قَلْبِي.
قَالَ لَهَا عَلِيٌّ عليه السلام: أَوْصِينِي بِمَا أَحْبَبْتِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ. فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا وَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ. ثُمَّ قَالَتْ: يَا بْنَ عَمِّ! مَا عَهِدْتَنِي كَاذِبَةً وَلَا خَائِنَةً، وَلَا خَالَفْتُكَ مُنْذُ عَاشَرْتَنِي، فَقَالَ عليه السلام: مَعَاذَ اللهِ! أَنْتِ أَعْلَمُ بِاللهِ وَأَبَرُّ وَأَتْقَى وَأَكْرَمُ، وَأَشَدُّ خَوْفاً مِنْ اللهِ مِنْ أَنْ أُوَبِّخَكِ بِمُخَالَفَتِي، قَدْ عَزَّ عَلَيَّ مُفَارَقَتُكِ وَتَفَقُّدُكِ، إِلَّا أَنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَاللهِ جَدِّدْتِ عَلَيَّ مُصِيبَةَ رَسُولِ اللهِصلى الله عليه واله، وَقَدْ عَظُمَتْ وَفَاتُكِ وَفَقْدُكِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَفْجَعَهَا وَآلَمَهَا، وَأَمَضَّهَا وَأَحْزَنَهَا، هَذِهِ وَاللهِ مُصِيبَةٌ لَا عَزَاءَ لَهَا، وَرَزِيَّةٌ لَا خَلَفَ لَهَا.
ثُمَّ بَكَيَا جَمِيعاً سَاعَةً، وَأَخَذَ عَلَى رَأْسِهَا وَضَمَّهَا إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ:
أُوصِينِي بِمَا شِئْتِ فَإِنَّكِ تجدني [تَجِدِينِي] فِيهَا أَمْضِي كَمَا أَمَرْتِنِي بِهِ وَأَخْتَارُ أَمْرَكِ عَلَى أَمْرِي.
ثُمَّ قَالَتْ: جَزَاكِ اللهُ عَنِّي خَيْرَ الجَزَاءِ. يَا بْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ! أُوصِيكِ أَوَّلًا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدِي بِابْنَةِ أُخْتِي أُمَامَةَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لِوُلْدِي مِثْلِي، فَإِنَّ الرِّجَالَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
ثُمَّ قَالَتْ: أُوصِيكَ يَا بْنَ عَمِّ أَنْ تَتَّخِذَ لِي نَعْشاً، فَقَدْ رَأَيْتُ المَلَائِكَةَ صَوَّرُوا صُورَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: صِفِيهِ لِي، فَوَصَفَتْهُ، فَاتَّخَذَهُ لَهَا، فَأَوَّلُ نَعْشٍ عُمِلَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ذَاكَ.
ثُمَّ قَالَتْ: أُوصِيكَ أَلَّا يَشْهَدَ أَحَدٌ جِنَازَتِي مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُونِي وَأَخَذُوا حَقِّي؛ فَإِنَّهُمْ عَدُوِّي وَعَدُوُّ رَسُولِ اللهِصلى الله عليه واله، وَلَا تَتْرُكُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَادْفِنِّي فِي اللَّيْلِ إِذَا هَدَأَتِ الْعُيُونُ وَنَامَتِ الْأَبْصَارُ.
ثُمَّ تُوُفِّيَتْ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهَا وَعَلَى أَبِيهَا وَبَعْلِهَا وَبَنِيهَا.
فَصَاحَتْ أَهْلُ المَدِينَةِ صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَاجْتَمَعَتْ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ فِي دَارِهَا فَصَرَخُوا صَرْخَةً وَاحِدَةً كَادَتِ المَدِينَةُ أَنْ تَتَزَعْزَعَ مِنْ صُرَاخِهِنَّ، وَهُنَّ يَقُلْنَ: يَا سَيِّدَتَاهْ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ مِثْلَ عُرْفِ الْفَرَسِ إِلَى عَلِيٍّ عليه السلام وَهُوَ جَالِسٌ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ عليهما السلام بَيْنَ يَدَيْهِ يَبْكِيَانِ، فَبَكَى النَّاسُ لِبُكَائِهِمَا.
وَخَرَجَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ وَعَلَيْهَا بُرْقُعَةٌ وَتَجُرُّ ذَيْلَهَا مُتَجَلِّلَةً بِرِدَاءٍ عَلَيْهَا تُسَبِّجُهَا، وَهِيَ تَقُولُ: يَا أَبَتَاهْ يَا رَسُولَ اللهِ! الْآنَ حَقًّا فَقَدْنَاكَ فَقْداً لَا لِقَاءَ بَعْدَهُ أَبَداً.
وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَجَلَسُوا وَهُمْ يَضِجُّونَ وَيَنْتَظِرُونَ أَنْ تُخْرَجَ الْجِنَازَةُ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهَا، وَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَقَالَ: انْصَرِفُوا فَإِنَّ ابْنَةَ رَسُولِ اللهِصلى الله عليه واله قَدْ أُخِّرَ إِخْرَاجُهَا فِي هَذِهِ الْعَشِيَّةِ، فَقَامَ النَّاسُ وَانْصَرَفُوا.
فَلَمَّا أَنْ هَدَأَتِ الْعُيُونُ وَمَضَى شَطْرٌ مِنَ اللَّيْلِ أَخْرَجَهَا عَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ عليهم السلام وَعَمَّارٌ وَالْمِقْدَادُ وَعَقِيلٌ وَالزُّبَيْرُ وَأَبُو ذَرٍّ وَسَلْمَانُ وَبُرَيْدَةُ وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَخَوَاصُّهُ، صَلَّوْا عَلَيْهَا وَدَفَنُوهَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَسَوَّى عَلِيٌّ عليه السلام حَوَالَيْهَا قُبُوراً مُزَوَّرَةً مِقْدَارَ سَبْعَةٍ حَتَّى لَا يُعْرَفَ قَبْرُهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنَ الخَوَاصِّ: قَبْرُهَا سُوِّيَ مَعَ الْأَرْضِ مُسْتَوِياً فَمَسَحَ مَسْحاً سَوَاءً مَعَ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يُعْرَفَ مَوْضِعُهُ» 2.
ثم إن عليًّا عليه السلام حوّل وجهه إلى قبر رسول الله ثم قال:
«السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِّي، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ عَنِ ابْنَتِكَ وَزَائِرَتِكَ وَالْبَائِتَةِ فِي الثَّرَى بِبُقْعَتِكَ وَالمُخْتَارُ اللهُ لَهَا سُرْعَةَ اللِّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَعَفَا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِسُنَّتِكَ فِي فُرْقَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وَفَاضَتْ نَفْسُكَ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي.
بَلَى، وَفِي كِتَابِ اللهِ لِي أَنْعُمُ الْقَبُولِ إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ، وَأُخْلِسَتِ الزَّهْرَاءُ، فَمَا أَقْبَحَ الخَضْرَاءَ وَالْغَبْرَاءَ يَا رَسُولَ اللهِ.
أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، وَهَمٌّ لَا يَبْرَحُ مِنْ قَلْبِي أَوْ يَخْتَارَ اللهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مُقِيمٌ، كَمَدٌ مُقَيِّحٌ، وَهَمٌّ مُهَيِّجٌ. سَرْعَانَ مَا فَرَّقَ بَيْنَنَا وَإِلَى اللهِ أَشْكُو.
وسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الحَالَ، فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّهِ سَبِيلًا، وَسَتَقُولُ، وَيَحْكُمُ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ» 3.
وظلت فاطمة الزهراء شعلةَ الحب التي لا تخبو في صدور المؤمنين، ورايةَ الكفاح التي لاتسقط عن يد الرساليين، وقبسةَ الخلق الرفيع، وظُلامةَ الحق التي تصبغ صفحات الشفق بلون الدم الموتور، والحقَّ المغدور، فتتحول نبضة ثورية في عروق فتيان المروّة، يتزودون بها عبر مسيرتهم الجهادية ضد المتسلطين والانتهازيين والقشريين.
وما أحوج أمتنا اليوم إلى تجديد ذكرى فاطمة، ليقتدي بها النساء، بل الرجال أولًا. صلي عليها، وعلى أبيها، وعلى بعلها وبنيها، كما صلّى الله عليها، وملائكته، والمؤمنون.
ولقد بلغ من التزامها بتطبيق الإسلام على نفسها تطبيقاً حرفيًّا، ما روي من أنّه لما نزلت الآية المباركة: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ... ﴾ 4.
صار اللازم على المسلمين أن يغيروا خطابهم مع الرسول، من قولهم: يا محمد!! إلى قولهم يا رسول الله، الكلمة التي شاعت بعد نزول هذه الآية باعتبار ذكر الرسول في الآية، تعبيراً عن النبي- محمد-.
وكان هذا الدستور مختصاً بالذين كانوا يستخفون باسم النبي ويدعونه باسمه المدعوِّ به، دون أي احترام.
ولكنَّ فاطمة، لما سمعت نزول هذه الآية، غيّرت أيضاً طريقة خطابها مع النبي صلى الله عليه واله فبينما كانت تقول لوالدها: يا أبتاه!! أضحت تناديه بقولها: يا رسول الله. فلما سمع النبي منها ذلك، تساءل عن وجه ذلك، فقالت: إطاعة لحكم الله. فقال النبي: إني أحبّ من فمك كلمة «يا أبتاه» 5.













