حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
هل التدين سمة للعابسين و المتصارعين
المتدينون هم أكثر الناس دفئاً بعقيدتهم ، و أخلصهم في العمل من أجلها ، و أشدهم التزاماً بأوامرها و نواهيها .
هم في الغالب مواظبون على مستحباتها ، بعيدون عن مكروهاتها ، يبحثون على ثواب الله و رضاه ، و إن أوجب لهم مشقة أو تعباً ، كما أنهم يتميزون بالوقار و الهدوء و الأمانة و الخلق الكريم .
البسمة على محياهم « فالمؤمن هشٌ بش » و الطيب سمة قلوبهم ، و التجاوز عن أخطاء الآخرين ديدنهم ، هؤلاء هم المتدينون و المؤمنون كما أشارت لهم الآيات و تحدثت عنهم بإسهاب الروايات .
بيد أن الملاحظ « في بعض الأحيان » أن الإنسان أكثر انفتاحاً و وداً و قبولاً للآخرين قبل أن يلتصق بدينه ، فهو يستطيع العيش و التآلف مع جميع الناس بطبيعته و سجيته و عفويته و إنسانيته ، و يأنس أكثر حين يشتركون معه في قاسم آخر غير قاسم الإنسانية كما لو كانوا من المسلمين بمختلف توجهاتهم المذهبية ، و الأمر كذلك لو اقتربوا منه « بقاسم جديد » كأن يتلاقون معه مذهبياً إذ حينها تكون توجهاتهم و اختلافات مشاربهم أموراً لا تعني بالنسبة إليه موقف عداء من هذا ، و التصاق بذاك ، بل كلهم سواسية كأسنان المشط في تعاطيه و تعامله معهم .
ينقل لي بعض الأصدقاء عن زملاء لهم يخالطونهم بكل محبة و احترام في العمل و المجالس و الملتقيات العامة ، و فجأة ينقلبون في تعاملهم و مواقفهم و بسمتهم و بشاشتهم ، و حين يتقصون السبب وراء ذلك ، يكتشفون أنه تغير يسميه المنقلبون دينياً و التزاماً هداهم الله له .
و هنا تكمن الحيرة فإذا كان الدين بحقيقته و جوهره يفرض سلوكاً راقياً على متبعه ، و يملي على صاحبه التزاماً فاضلاً من شأنه تهذيب خلقه . فكيف يكون الإنسان قبل تدينه و التزامه بعقيدته أكثر رحمة و محبة للناس ، و كيف يكون أشد احتراماً للجميع ، بينما يصبح حين التدين و الالتزام حالة أخرى مغايرة و معاكسة للحالة السابقة ؟
كيف يتبدل الاحترام ؟ و تتغير المحبة ؟ و يبدأ بالتفريق بين توجهه و التوجهات الأخرى ضمن مجتمعه الخاص و العام ؟ مع أن « العقيدة الدينية تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر ، و تحصّن الإنسان بالتقوى و مخافة الله ، و تنمي لديه الشعور بمسئوليته الذاتية تجاه نفسه و تجاه آرائه عن أفعاله كافة ، فيصبح هو الطرف و الحكم فيما يقول و يفعل أي يصبح لديه الضمير الإنساني و الاجتماعي الذي يحاسب على القول و الفعل ، الذي يأمر بالحسنى و ينهى عن المنكر ، يوجهه نحو الخير و يلجم عن الشر متطلعاً نحو إرضاء الخالق و إرضاء النفس بحيث تكون هذه النفس دائماً آمنة مطمئنة على نفسها من حساب الدنيا و الآخرة » كما جاء في كتاب « الأمن الاجتماعي ، مقوماته تقنياته ، ارتباطه بالتربية المدنية » لمصطفى العوجي .
فهل الالتزام والتدين هما السبب في ذلك ؟
قد يكون الأمر مختلطاً فيعتقد الإنسان أن الالتزام هو السبب ، و أن التدين هو الممزق والمفتت للمجتمعات ، و المفرق بين القلوب المتحابة ، و الداعي للكثير من الصراعات التي تحدث في أوساط المتدينين ، و يعود هذا التصور لأسباب عدة منها :
ا ـ الواقع الذي رسمه المتدينون عن أنفسهم ، فالصراعات محتدمة بينهم في كل الساحات ، و على أمور لا تساوي مكانتهم و تدينهم و احترام الناس لهم ، صراع على مسجد و حسينية و لقب و تقليد إلى آخر الآفاق المغلقة التي تتصاغر كلما تصاغر المفتعلون لها و إن كبرت مسمياتهم .
من جهة أخرى هناك الأسوار العالية الارتفاع التي ضربوها بينهم ، و كأن كل توجهه فكري أو سياسي أو مرجعي هو كيان لا علاقة لها بالكيانات الأخرى من أهل وطنه و ديانته ، و لا بشركائه في الإنسانية ، أسوار يرسمها في مخيلته بأدوات ظاهرها ديني و قيمي ، و يُدخل المتأثرين بها من أتباعه في سياج يشعرون فيه بعد حين بغربة حقيقية عن الآخرين ، فيصبح مع أتباعه معنياً بمصالحه ، من دون أن يفكر بسعة في التقاطع مع مصالح الآخرين و الفاعلين في ساحته و إن اختلفوا معه .
ب ـ صبغ المتدينين لخلافاتهم و تباين وجهات نظرهم بالصبغة الدينية ، فما أن يحتدم الصراع السلبي بينهم ، و يختلفون في شأن من الشئون ، أو قضية من القضايا ، حتى يسارع كل طرف لإلباس نفسه بلباس الدين ، و تعرية الآخرين عن كل فضيلة ، و أحياناً إخراجهم من الملة و الدين و القيم و المبادئ ، فهو ينطلق من ثابت ديني بحسب تصوره بينما ينطلق الآخرون من الهوى و الشهوات ، و يتحركون بإيماء مباشر من الشيطان و من فساد العقيدة والضلال .
و على الضفة الأخرى حيث الخصم الآخر « المتدين » لن يقبل السكوت بل سيتماهى مسفاً في تبرير صراعه بالمنطلقات نفسها و الأسلوب ذاته مستخدماً سلاح الدين في حسم صراعه مع خصمه .
لا أدري إن كنت مصيباً إذا قلت أن السبب يرجع إلى تصور كل طرف إنه إنما يقوم بهذا الدور انطلاقاً من الواجب الشرعي و إنفاذاً لأمر الله سبحانه و تعالى ﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا ... ﴾ 1 .
هذان السببان « الواقع الفعلي لصراعات المتدينين ، و صبغهم لصراعاتهم بالصبغة الدينية » هما اللذان أوحيا للناظر في الصراعات و الاختلافات الدينية بنظرة مشوشة عن التدين و الالتزام جعلته يعتقد أن سبب الصراع و التنازع هو الدين .
و لنا أن نتساءل : لماذا يلصق المتدينون صراعاتهم و اختلافاتهم بالدين و بالقيم و المبادئ ؟ و يحولون قضاياهم و مشكلاتهم و شجاراتهم حتى الطفولية منها إلى صراع بين الحق و الباطل ، فيتبدل الصراع و التقاتل ، من شيء منبوذ في الشريعة الإسلامية ، إلى واجب من واجبات الدين ؟ السؤال مهم و لقاؤنا في الأسبوع المقبل إن شاء الله ، مع شكري للقارئ الذي يقطع أنني لا أعمم مقالي على كل المتدينين 2 .
- 1. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 28 ، الصفحة : 153 .
- 2. الشيخ محمد الصفار ـ « صحيفة الوسط البحرينية » ـ 5 / 6 / 2007 م ـ 7:44 م .