الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

آيات الهدى و الضلال

كثر السؤال من بعض الأبناء عن آيات الهدى والضلال في القرآن الكريم ، وكثر الاستفهام عن معناها ، وعمّا يتلقفه بعض الأذهان من دلالتها على معنى الجبر على الهدى لبعض الناس ، والجبر على الضلال لبعضهم .

كثر السؤال عن هذا في مناسبات شتى ، وهي شبهة أثارها القائلون بالجبر يقيمون عليها مذهبهم ، ويؤلّفون من هذه الآيات بحسب ما يتراءى لهم من معناها حجتهم . وحديثي الليلة سيكون حول عقيدة العدل في الإسلام ، وبعض مثبتاتها ، وأنوارها وظلالها .وسأتعرّض ـ في خلال ذلك ـ لمذهب الجبر ، ومذهب التفويض ، وحديث الأمر بين أمرين أو المنزلة بين منزلتين ، الذي يقول به أهل البيت ( عليهم السلام ) ، و بالأحرى : الفكرة التي يقوم عليها الإسلام وتبتني حقائقه ، وترتبط بها مناهجه وغاياته ، وسأتعرض في خلال ذلك لهذه الآيات التي يسأل عنها السائلون ، و نتبين بمشيئة ـ الله تعالى ـ معناها .
وعقائد الإسلام لا تبتني إلا على برهان منير ، ولا تقوم إلا على سندٍ متين ، ولا يمكن مطلقاً أن تؤخذ من نظرات ابتدائية في ظواهر ألفاظ من آياتٍ . . من نظرات ابتدائية لا إصالة لها ولا ثبات ، ولا يقّرها منطق ، ولا تسندها حجة ، وخصوصاً في مثل هذه العقيدة التي تمّس جوهر الدّين ، وتلّون حقائقه ، وتحكم بالعقم أو الإنتاج على مناهجه .

إله الكون منّزه عن النقائص

ينظر العقل الحصيف الواعي في أغوار هذا الكون ، وفي مظاهر الإبداع والجمال فيه ، فيستيقن أن كل ما هنا آية بيّنة ، وحجة قاطعة ، وبرهان منير .
إن كل ما هنا أثر يدّل على مؤثر ، وكل ما هنا حركة تدلّ على محّرك ، وكل ما هنا إبداع وتكوين يدلّ على مكونّ مبدع .
وينظر العقل الحصيف الواعي في أغوار هذا الكون ، وفي آفاقه وأبعاده ، فيرى لهذا الكون وحدة كبرى تربط بين أشيائه وأجزائه ، فكل أشيائه و أبعاضه تسير في مدى واحد إلى اتجاه واحد ، ولا اختلاف ولا تباين ، ولا تصادم في القوانين ، ولا تخالف في الغايات ، فيعلم ـ حق العلم ـ أن الإرادة التي تسيّر الكون ، وتحكم قوانينه وموازينه إرادة واحدة .
إن العقل يرى مياه البحر اللجّي تسير كلها بحركة واحدة ، وتتجه إلى وجهة واحدة ، فيوقن ولا يشك أن القوة التي سيّرت هذه المياه قوة واحدة .
ويرى الجيوش العظيمة تتحرك متفقة في الجهة ، وفي المدى ، وفي الغرض ، فيعلم أن القيادة التي توجّه هذه الجيوش الكثيرة وتشرف على حركتها قيادة واحدة .
ويرى المصنوعات الكثيرة المتنوعة تحمل طابعاً واحداً ، وتتميز بعلامة معّينة ، فيعلم انها من إنتاج مصنع واحد ، ولا يمتري في شيء من هذه النتائج وأمثالها ، ولا يقبل جدلاً من مجادل .
وقد أرجعه القرآن إلى هذه الركيزة ليستدل بوحدة الكون على وحدة مكوّنه العظيم . 

﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ 1.

ويرى العقل الحصيف الواعي حياة فيعلم أنها من صنع حّي ، لأن غير الحّي لا ينتج حياة . ويرى تصويراً وتقديراً فيعلم أنهما من فعل عالم قدير . ويرى اتقاناً في التكوين ، وفي الغاية ، فيعلم انه من إيجاد حكيم خبير .
ويرى في الأشياء كمالاً بعد نقص ، وغنى بعد فقر ، وقوّة بعد ضعف ، فيعلم أنها من آثار كامل غني قوي ، لأن الفقر لا ينتج غِنى ، والعدم لا يُثمِر وجوداً ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، وكل هذه أمور يُدركها العقل ببداهته ، وكلّها من أبعاد قانون السببيّة .
ثم إن الحياة في هذا الكون تدّل على أن موجد الحياة حيّ بالذّات ، وأن بدائع القدرة فيه تدل على أن مصدر هذا البدائع قديرٌ بالذات ، ومجالي العلم والحكمة تدّل على أن مبدأها عالم وحكيم بالذات ، وشواهد الغنى والاستكمال فيه تدّل على أن سببها غني وكامل بالذات ، لأن إله الكون لو لم تكن له هذه الصفات بالذات لكان ناقصاً ومحتاجاً في حياته وفي قدرته وعلمه وحكمته وغناه وكماله ، فيكون محتاجاً إلى من يسدّ له هذا العوز ، ويتم له هذا النقص ، فيكون مدبّراً مربوباً . وتعالى الله عن سمات النقص ولوازمه .
إله الكون موجود بذاته لا بعلّة سواه ، وهو حيّ وقدير وعالم وحكيم وغني وكامل بذاته لا بعلّة سواه ، ولا بصفات زائدة على ذاته توجب له هذه المعاني .
إله الكون يجب أن يسدّ عوز الكون المطلق ، ولا يمكن أن يكون محتاجاً إلى سواه في وجه من الوجوه ، ولا في مجال من المجالات ، فله الغنى المطلق والكمال الأعلى ، فهو منزه عن الحاجة ، منزه عن النقائص ، منزه عن الحدود في معاني كماله وغناه ، منزّه بذاته حتى عن الصفات الزائدة على ذاته .
هذه نتائج ينساق إليها العقل ، ويثبتها بثاقب الفكرة ، وصحيح النظرة ، وهذا هو القول الفصل في التوحيد الخالص الذي يمتاز به مذهب أهل البيت ( عليهم وعلى جدهم الرسول أفضل الصلاة والسلام ) .

العدل الإلهي

ومن أبعاد هذا التنزيه الكامل لله ، وهذا التوحيد الخالص لجلاله الذي يعترف به العقل الواعي ، حينما يفكّر تفكيراً سليماً ، وينساق مع البرهان انسياقاً طبيعياً لا تكلف فيه ولا عناء . أقول : ومن أبعاد هذا التنزيه الكامل لله : إثبات صفة العدل له ـ سبحانه ـ .
وفي القرآن الكريم :

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ 2.

وهذه هي شهادة الله ، وشهادة الملائكة ، وشهادة اولي العلم من خلقه ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ... 2، والقيام بالقسط كلمة أخرى عن صفة العدل .

ويعنى بصفة العدل التي يجب إثباتها لله ، أنه ـ سبحانه ـ لا يُهمل واجباً ولا يُخلّ بحكمة . .
لا يهمل فعلاً تحتّمه المصلحة ، ولا يصدر قبيحاً تمنعه الحكمة .
فأن إهمال ما تحتّم المصلحة فعله ، وفعل ما تمنع الحكمة وجوده ، إما أن يكون السبب فيهما حاجة في الفاعل تدفعه إليهما فتضطره إلى أن يترك ما توجبه المصلحة ، أو يفعل ما تمنعه الحكمة ، وقد عرفنا أن إله الكون منزّه عن أي حاجة واضطرار .
وإما أن يكون السبب فيهما جهل الفاعل بما تقتضيه الحكمة في ذلك ، فهو حينما ترك الشيء الأول لم يكن يعلم أنه ممّا توجب المصلحة فعله ، وحينما فعل الشيء الثاني لم يكن يعلم أنه مما تمنع الحكمة وجوده ، وقد عرفنا أن إله الكون عالم بالذات ، منزّه عن الجهل .
وإما أن يكون السبب فيهما هو ابتغاء العبث واللهو ، فالفاعل حينما ترك ما تُوجبه المصلحة أو فَعَل ما تمنعه الحكمة ، كان لاغياً عابثاً في فعله ، وقد عرفنا ان إله الكون حكيمٌ بالذات ، منزّه عن ابتغاء اللهو والعبث في جميع أفعاله وشؤونه .﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ 3.

من مجالي عقيدة العدل

هذه حصيلة عقيدة العدل ، وبعض براهينها . إنها ترتبط بعقيدة التوحيد الخالص ارتباط الجزء بكله . ومن مجالي هذه العقيدة : قيام كل شيء في التكوين على مبدأ العدل والتوازن الكامل ، فقد وفّرت القدرة الخالقة لكل موجود صغيرٍ أو كبيرٍ في هذا الكونِ كلّ ما يستدعيه التوازن الخلقي الدقيق ، فلم تُنقِصه شيئاً تقتضيه حكمة التكوين ، ولم تزد فيه أمراً لا تستدعيه المصلحة ، بل استواء واتزان ، وإبداع و إتقان .

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ 4.

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ 5.

فكل شيء كائن وفق ما تدعو الحكمة ، وما يقتضي النظام ، وما يحقّق الإبداع ، دون زيادة ودون نقص ، بل اتزان شامل ، وإتقان كامل . ومن مجالي هذه العقيدة : قيام الشريعة على مبدأ العدل ، فكل حكم من أحكامها ، وكل تشريع من تشريعاتها لم يوضع إلا وفق موازنة دقيقة وكاملة ، بين دوافع المرء وحاجاته ، وغرائزه ومتطلّباته ، وضروراته المختلفة ونواحيه المتعددة ، ثم بين مطاليب الفرد و مطاليب الأمة ، و إعطاء كل جهة من هذه الجهات المختلفة ما تستحق دون سرف ولا تقتير ، فهي عدل في كل مجال من مجالات الحياة .

﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... 6

.﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ... 7.

﴿ وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ 8.

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ... 9.

﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 10.

من توابع عقيدة العدل

ومن توابع هذه العقيدة ، بل ومن محققات معناها ، تنزيه الإله عن الظلم والحيف ، فانه قبيح تمنع منه الحكمة ، ويجّل عنه الحكيم ، وظلم العبد الضعيف الذي لا يملك حولاً ولا قوة ، ولا سنداً أمام القوة القاهرة التي بيدها الحول والقوة أكثر قبحاً ، وأعظم مباينة للحكمة ، وأشدّ منافاة للعدل ، وللقيام بالقسط الذي دلّت عليه الآيات .

﴿ ... وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 11.

﴿ ... وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا 12.

ولنسلّم ـ ولو موقتاً ـ بما يقوله بعض الفرق الاخرى من المسلمين : إن العقل لا يحكم بحُسنٍ ولا قُبح ، وإن الأمر في ذلك بيد الشرع ، فالحَسَن هو ما أمر به الشرع ، والقبيح هو ما نهى عنه ، ولا حَسَن ولا قبيح غير ذلك .
لنسلّم ذلك لهم ـ وِلو موقتاً ـ ، فانه تعنت ظاهر ، وتحّدٍ لكرامة العقل ، بل وإنكار لما هو معلوم بالبداهة ، فان العقل يستقّل بقبح كثير من الأفعال والمظاهر ، وبحسنِ كثيرٍ منها ، ولا يرتاب ولا يتردّد في حكمه بذلك .
أقول لنسلّم بما يقوله بعض الفرق الأخرى من المسلمين : إن العقل لا يحكم بحَسَنٍ ولا قبيح ، وإن أمر التحسين والتقبيح بيد الشرع وحده ، أفليس الظلم مما نهت عنه الشريعة ، ودلت على قبحه ؟! . أفلا يكون قبيحاً على الحكيمِ ـ سبحانهِ ـ ومنافياً لحكمتهِ ، ومما يجب تنزيهه عنه ؟ .
وخصوصاً بعد أن دلت الآيات الوافرة العدد على أنه (تعالى) القائم بالقسط ، وانه لا يظلم أحداً ، وانه ليس بظلام للعبيد ، وانه لا يأمر بالسوء ، ولا يأمر بالفحشاء ، وانه لا يحب الظالمين .
والتفرقة بين الإرادة التشريعية و الإرادة التكوينية في هذا المجال مما لا يمكن أن يقول به عقل رصين .

تنزيه الله عن الجبر

ومن توابع هذه العقيدة ، بل ومن محققات معناها : تنزيه البارئ ( تعالى ) عن الجبر في الأفعال : فانه نحو من الظلم ، ومن الظلم الشديد ، ومن منافيات الحكمة .
وأي ظلم ، وأي غشم هو أبشع من أن يقتسر السيد عبده الضعيف اقتساراً ، ويجبره على معصية أمره ، وتعدّي حدوده إجباراً ، وهو لا يقدر على الفعل ، ولا يقدر على الامتناع ، ثم يحّمله تبعة هذا العصيان ، فيرصد له أليم العذاب ، وشديد النكال على فعلته التي لم يفعلها باختياره ، ولم يمكنه الامتناع عنها بإرادته ؟؟ .
وهو من منافيات الحكمة من ناحيتين :
فهو مناف للحكمة من حيث أنه ظلم والظلم قبيح ، ﴿ ... وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا 12، وقد أسلفت القول عن هذه الناحية .

وهو مناف للحكمة من التشريع ، فإن الغاية من جعل الدين ، ومن تشريع أحكامه ، هي الارتقاء ـ بسببها ـ في مراقي الخير ، والاستكمال ـ بإطاعتها ـ من حظوظ السعادة ، والفوز بتطبيقها ـ في حلبات التقوى ، وتنظيم هذي الحياة ، وحلّ مشكلاتها بحلول الإسلام وتطبيق مناهجه .

﴿ ... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ... 13.

أجل ، هذه هي الغاية ،  ﴿ ... لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ... 13، فالدين وأحكام الدين دربة وامتحان ، تنال الدرجات فيه بالإطاعة أو العصيان ، ومن الضروري ان ذلك يقوم على الاختيار و الإرادة ، وأي حكمة وأي بلاغ في أن يشرع الله حكماً لا يمكن أن يمتثل؟! .

وأي حكمة وأي بلاغ في أن يشّرع الله شريعة ثم لا يترك لعباده الخيرة في أن يطيعوها أو يعصوها مختارين ؟؟! .
والجبر وهمٌ سبق إلى أذهان بعض الناس فحسبوه حقيقة ، ثم بالغوا في الأمر فاعتبروه عقيدة من عقائد الإسلام ، وهي فكرة حرفت خطاً كبيراً من خطوط الإسلام في أذهان فريق من المسلمين ، فأتت أكلها مراً مضاعفاً في سلوكهم فجمدت حركة الإسلام في نفوسهم وفي قلوبهم .
وماذا يستطيع الرجل أن يصنع في إصلاح نفسه ، وتوعية ضميره وتهذيب إرادته ، فضلاً عن إصلاح غيره إذا أيقن أنه مُجبر على كل عمل يعمله ، مقسور في كل صنع يصنعه . . أنه آلة صمّاء بكماء بيد محركها ، ولا حيلة له في جلب خير ، أو دفع شر ، أو إصدار حركة ، أو توجه إلى غاية .
هكذا يعتقدون . ويدينون لله بهذه العقيدة ، ويتعبّدون له بها ، والمخلص في هذه العقيدة هو من يذهب بها إلى أبعد شوط وأبعد غاية ، ونتيجة ذلك جمود وهمود .
وأي انحراف في خط الإسلام يكون اكبر من هذا الانحراف ؟ ، ولا أطيل ولا أتوّسع في بيان ذلك .

من ادلة القائلين بالجبر

ومجال القول بالجبر والقول بالتفويض هو أفعال الإنسان التي يُصدرها ويعملها بإرادته ، وقد ذهب القائلون بالجبر إلى أن الإنسان لا يمكن أن يكون مختاراً في فعله أبداً . والعلّة التي يحتجون بها لذلك : هي أن الإنسان لو صّح أن يكون مختاراً في أعماله التي يعملها لأصبح شريكاً لله في التكوين ، والله عام القدرة على كل شيء ، فلا قدرة للإنسان ولا خيرة .
ويقف العقل حول هذه الفكرة ،فيتساءل : لماذا يكون الإنسان شريكاً لله في التكوين إذا كان مختاراً في فعله ، اَلأِنه اوجد فعله باختياره ؟! .
إن الله سبحانه قد جعل هذا الكون الطبيعي كلّه مسرحاً للأسباب والمسبّبات ، وربط النتائج بأسبابها وعِلَلها ربطاً كاملاً ، فلا شيء يحدث دون علّة ، وهذا واضح لا ينكره أحد ، فلماذا لا تكون هذه الأسباب الطبيعية شريكة لله في الإيجاد ـ على ما يزعمون ـ ؟! .
إن الله سبحانه هو الذي أوجد الأسباب بقدرته ، وهو الذي أعطاها الطاقة المؤثّرة ، وهو الذي ربط المسببات بها ، وأعدّ بقدرته كلاً لما خُلِق له ، فالسبب إنما يؤثّر في مسبّبه بقدرة الله و إرادته ، فلا يكون شريكاً لله ، و إنما هو مجرى لفيضه وأثر قدرته .
وكذلك الإنسان بعض مخلوقيه ، والله هو الذي آتاه القدرة والعقل والإرادة والاختيار والطاقة ، والإنسان إنما يصدر فعله بإقدارٍ من الله ، ومددٍ متّصل من رفده ، ولو انقطع مدد الله عنه لم يستطع أن يعمل ، ولم يستطع ان يتحرك فكيف يكون شريكاً لله إذا كان مختاراً فعله ؟! .
وقد شاءت الحكمة أن تكرّم ابن آدم هذا التكريم ، فتجعل له جهاز الاختيار ، فيُصدر عملَه أو يتركه مختاراً ، ليستكمل سعادته باختياره ، ويخطّط مصيره بإرادته ، فيستوجب جزاء المطيعين أو العاصين ، وهذا كله واضح أتمّ الوضوح .
ان الرجلين يكونان على سطح المنزل ، فيهبط أحدهما في السلّم ويسقط الآخر من جانب السطح هاوياً ، فان العقل لا يشّك أبداً في معرفة أيهما المجبر و أيهما المختار ، وهذا يعني أن التمييز بين الجبر والاختيار بَدهيّ من بدهيّات العقول لا خفاء فيه ولا غموض .

آيات الهدى والضلال

واحتج القائلون بالجبر بآيات الهدى والضلال وهي كثيرة العدد منها قوله ( تعالى ) : ﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ 14.

وقوله تعالى : ﴿ ... فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 15.

و امثالها من آيات الكتاب الكريم .

الهدى والضلال لا يكونان إلا بعد إقامة الحجة من الله ، وإيضاح السبيل ، وتبين المعالم :﴿ ... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا 16.

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ 17.

﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ 18.

وهما بعد ذلك انما يكونان باختيار الإنسان واتباعه أي السبيلين شاء :

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... 19.

أما بعد أن يختار الإنسان بإرادته أحد السبيلين ، ويدأب عليه ويصرّ على اتباعه ، فان هداية الله تعني توفيقه ومدده لمن اختار طريق الحق وسار عليه ، وإضلاله يعني خذلانه لمن اختار طريق الباطل وسار عليه ، وكلاهما ـ وكما قلنا ـ بعد بيان الحق وبيان الباطل لهما أتم البيان ، وتعريفهما أوضح التعريف ، و إتمام الحجة عليهما أبلغ الإتمام . والسائر على الهدى ـ بعد وضوح الأمر ـ مستحق للمدد والتوفيق من الله ، ولا ريب . والسائر على الضلال ـ بعد وضوح الامر ـ مستوجب للخذلان من الله ، وإيكاله إلى نفسه ، ولاشك ، وهذا هو معنى الآيات الكريمة المسؤول عن معناها ((من يشأ الله)) وهو الذي اختار الضلالة بعد وضوح البيان و إقامة الحجة عليه ((يضلله)) فيوكله إلى نفسه فتصل به إلى أبعد المهاوي من الضلال ، ((ومن يشأ)) وهو الذي اختار الهدى بعد وضوح البيان و إقامة الحجة ((يجعله على صراط مستقيم)) بمدده بتوفيقه وبعونه فيرتقي في مسالك الهدى حتى يصل الى الغاية . ومثلها الآيات الكريمة الأخرى .

والتفويض

وذهب القائلون بالتفويض إلى ان الإنسان حر تام الحرية ، مختار تام الاختيار في أفعاله ، ولا سلطان لأي أحدٍ عليه ، ولا على إرادته حتى لله خالقه ، الذي كوّنه وبرأه وصوّره . وهذا القول ـ كما نراه ـ يتضمن سلب سلطان الله على عبده ، وهي نتيجة معاكسة للقول بالجبر . وكأنهم عرفوا من معنى الاختيار للإنسان انه لا يكون إلا حين يسلب أي سلطان عنه ، حتى سلطان خالقه العظيم . وهذا القول يعادل الجبر في الشذوذ وفي البعد عن سمة الحق .

الامر بين الامرين

والحق هو الاعتدال بين التفريط و الإفراط . بين الجبر والتفويض ، ( فلا جبر و لا تفويض و لكن منزلة بين منزلتين ) .
إن الله خلق الإنسان وآتاه القدرة والخيرة ، فهو يفعل ـ حين يفعل ـ مختاراً ، ويترك ـ حين يترك ـ مختاراً ولا نقص في موازين اختياره أبداً . هذا من ناحية . .
ومن ناحية أخرى ، فان الله هو الذي خلق الإنسان ، وهو الذي خلق له جهاز الاختيار ، من عقل وتصميم و إرادة وقوى مختلفة ، يوازن بها ويُصمّم ويختار ويفعل ، وهو الذي يمدّه بالطاقة والنشاط طوال حياته وفي كل حركاته وسكونه ، فهو لا يفكّر ، ولا يوازن ، ولا يُصمّم ، ولا يختار ، ولا يعمل الا بمدد من الله ، ولو أن المدد انقطع عنه آناً ما لوقف كّل ذلك .
فلا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين منزلتين ، وهذا هو المعنى الذي تجتمع عليه آيات الكتاب ونصوص السنة ، وهو الذي يقوم على أُسس المنطق والبرهان الصحيح .
عرّفنا الله وإياكم معالم الحق وهدانا سواء السبيل وكفانا مزالق الفكر ومزالق النفس ومزالق القلب ومزالق الإرادة . . انه سميع عليم 20 .