حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
الشيخ مرتضى الأنصاري
من سلسلة حماة الإسلام 1: الشيخ مرتضى الأنصاري
الشيخ مرتضى الأنصاري وحيد عصره ونابغة زمانه، قدوة الفقهاء، ومظهر الورع والتقوى والعبادة، شمس شعَّت على كل العلماء والفقهاء لينهلوا من فيضه وعلمه، ويدرسوا كتبه ومؤلفاته، يطوون بذلك مدارج الفضل والكمال. ولطالما استفادت الحوزات العلميَّة وما زالت من هذا الموجود المقدس... فما زال الشيخ الأنصاري حيَّاً.
من هو؟
ولد الشيخ مرتضى محمد أمين الأنصاري يوم عيد الغدير 18 ذي الحجة من عام 1214هـ في ديزفول، ولعل لهذا الاتفاق بين ولادته وعيد الغدير أثراً معنوياً في حياته. غير أن الوقائع تشير إلى أن الأثر الأول في ذلك يعود إلى التربية التي تلقَّاها من والديه.
فقد ذكر أن أمه لم ترضعه يوماً بدون وضوء، وكان يعيش في محيط مليء بالعلم والفضيلة حتى أصبح العلم والتقوى في نفسه ملكات راسخة تبعده عن كل سوء ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... ﴾ 2.
يرجع نسب الشيخ الأنصاري إلى جابر بن عبد الله الأنصاري الذي كان من أصحاب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومن الأشخاص المعدودين الذين بقوا أوفياء لأهل البيت عليهم السلام حتى آخر حياتهم.
والدته ابنة الشيخ يعقوب الأنصاري، كانت امرأةً تقيَّةً عابدة لم تترك صلاة الليل حتى آخر حياتها. غير أنها مرضت في السنوات الأخيرة فكان الشيخ الأنصاري يأتيها بماء الوضوء، حتى إذا ما فقدت بصرها أصبح يحملها إلى مصلاَّها لتؤدي صلاة الليل.
الهجرة العلميَّة
تلقَّى الشيخ الأنصاري مقدَّماته العلمية على يد عمّه الأكبر الشيخ حسين الأنصاري الذي كان عالماً فاضلاً في ديزفول. ثم تابع دراسة الفقه والأصول على يد علماء تلك المنطقة حتى استطاع بنبوغه وتفوقه أن يصل إلى أعلى المراتب فيها.
كان سفره الأول خارج ديزفول مع والده لزيارة مرقد سيد الشهداء عليه السلام في هذه الزيارة قصداً بيت السيد محمد مجاهد رضوان الله تعالى عليه لإلقاء التحية عليه، وفي هذا المجلس يخاطب السيد مجاهد الشيخ محمد أمين الأنصاري مستنكراً بقوله: "لقد سمعت أن أخي الشيخ حسين (الأنصاري) يقيم صلاة الجمعة في ديزفول. فتقدم الشيخ مرتضى الأنصاري، وكان عمره حينها، ثمان عشرة سنة، وسأله: "ألديكم شك في وجوب صلاة الجمعة؟" ثم شرع بإعطاء حوالي 12 دليلاً على وجوب إقامة صلاة الجمعة ممَّا أدى إلى تراجع السيد مجاهد عن رأيه واقتناعه مع الحاضرين بما قيل له بشكل قطعي. فما كان من الشيخ مرتضى إلاَّ أن قام مجدداً وقدم أدلة أخرى تناقض كلامه السابق بحيث حير الحاضرين وأذهلهم. فسأل السيد الشيخ محمد أمين: "لماذا أحضرت ابنك معك؟" قال: "من أجل الزيارة"، فقال السيد: "لديه استعدادات عظيمة وينبغي أن يبقى في كربلاء لإكمال تعليمه. وأنا أؤمّن له مصاريفه وأتعهده"، فقبل الشيخ الوالد وبدأت في كربلاء رحلة الشيخ مرتضى العلمية الثانية.
قضى الشيخ الأنصاري أربع سنوات كاملة في كربلاء استفاد فيها من محضر السيد مجاهد ومن شريف العلماء المازندراني استفادات عظيمة. ولكن بعد أن هجم العثمانيون على كربلاء واحتلّوها اضطر العلماء ومن بينهم الشيخ الأنصاري إلى ترك الديار المقدسة والهجرة إلى الكاظمين.
رجع الشيخ بعد سنة إلى كربلاء حيث استفاد من محضر شريف العلماء سنة أخرى ثم هاجر بعد ذلك إلى النجف الأشرف والتحق بدروس الفقيه المحقق الشيخ موسى كاشف الغطاء ليبقى هناك مدة قصيرة قبل أن يعود إلى ديزفول.
في سنة 1240 هـ قرر الشيخ الأنصاري التوجه إلى إيران لزيارة الإمام الرضا عليه السلام وللاستفادة من علمائها بعد أن أخذ ما كان يريده من علماء العراق. إلا أن والدته التي عانت الكثير من فراقه الطويل لم ترضَ بذلك، ولكن بعد إصرار الابن اتفقا أن يحيلا الأمر إلى الاستخارة. فجاءت هذه الآية الشريفة: ﴿ ... وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ 3.
فسكنت هذه الآية من روع الوالدة وتم سفر الشيخ إلى إيران.
وصل الشيخ إلى كاشان وهناك قابل الملأ أحدم النراقي رضوان الله تعالى عليه حيث درس على يديه لمدة أربع سنوات، وفي ذلك يقول الملأ النراقي: "إن الاستفادة التي حصلت عليها من هذا الشاب أكثر مما استفاده مني"، وفي قول آخر له: "لقد قابلت أكثر من 50 مجتهداً مسلماً باجتهاده، ولكني لم أشاهد مثل الشيخ مرتضى".
ومما يُروى أن الشيخ الأنصاري كان في كاشان نازلاً عند أحد طلاب الحوزة العلمية، فطلب منه مرة أن يحضر معه خبزاً في طريق عودته إلى الغرفة. وعندما رجع الطالب وجده الشيخ قد أحضر نوعاً من الخبز تعلوه طبقة من الحلوى، فسأله: "من أين لك المال حتى أحضرت هذه الحلوى؟" فقال له: "حصلت عليه بعنوان قرض". فلم يأكل الشيخ شيئاً منها وقال: "لست مطمئناً من أنني سأعيش لأسدد هذا الدين". وعندما وصل الشيخ إلى مقام المرجعية والزعامة للشيعة، التقى بذلك الطالب القديم الذي سأله: "قل لي، كيف وصلت إلى هذا المقام العظيم"؟
فأجاب الشيخ رضوان الله عليه:
"لأنني لم أجرؤ على أكل ذلك الخبز الذي علته الحلوى، بينما أنت تجرأت على ذلك".
بعد مكوثه مدة في كاشان رجع الشيخ إلى ديزفول للتصدي لخدمة الناس هناك في الأمور الشرعية. وقد حدث أن وقع نزاع بين شخصين ذات مرة، فجاءا إليه يشتكيان ويطلبان حل خلافهما، ولكن الشيخ أرجأ حل المشكلة إلى اليوم التالي. في ليلة ذلك اليوم أرسل أحد وجهاء ديزفول إلى الشيخ رسالة يطلب منه فيها أن يؤيد أحد الرجلين لأنه قريب منه. فانزعج الشيخ كثيراً وقرر من حينها الهجرة من تلك المدينة معلقاً على هذا الأمر بقوله: "إن المدينة التي يتدخل أصحاب النفوذ في أحكامها الشرعية لا صلاح في البقاء فيها".
هاجر الشيخ الأنصاري إلى النجف الأشرف التي كان يتقاسم الزعامة فيها شخصيتان مرموقتان هما: الشيخ علي كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر.
جاور الشيخ الأنصاري الشيخ كاشف الغطاء لعدة سنوات استفاد منه كثيراً خلالها، إلا أن الشيخ كاشف الغطاء كان يقول للشيخ جعفر الشوشتري "لا تتخيَّل أن الشيخ مرتضى يحضر درسنا للاستفادة، بل لأنه سمع أن الحلقات العلمية فيها تحقيقات فهو يحضر من أجل تحصيلها".
وبعد انقضاء كل تلك السنوات، لم يعد الشيخ يحضر أي درس بل بدأ هو بالتدريس والتأليف بنفسه.
لم يكن الشيخ الأنصاري وحيد عصره في مقام التحقيق والدراسة وحل مشكلات الفقه والأصول فحسب، بل يندر أن نجد له مثيلاً عبر التاريخ.
يقول العلامة النوري في مستدرك الوسائل:
"يكفي جابر بن عبد الله الأنصاري فخراً أنّ الله تعالى من عليه أن جعل رجلاً من صلبه ينصر الدين، ولم يصل أحد من العلماء الماضين إلى مرتبته في العلم والتحقيق والتدقيق وفي الورع والعبادة والكياسة، بل إنّه لن يصل أحد من بعده إلى ذلك".
وفي مدحه يقول الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري:
"لقد لقب الشيخ الأنصاري الفقهاء والمجتهدين وكان من أولئك الأشخاص الذين يندر أن نجد مثلهم في الدقة وعمق النظر، وصاحب ابتكارات لا سابقة لها".
ومن ألقابه المعروفة "المؤسّس" نظراً لأنّه كان أحد أعظم المؤسّسين لعلم الفقه والأصول في تجديده وابتكاراته.
وعندما يقال "الشيخ" فذلك إشارة إلى الشيخ الأنصاري.
لم يحظ الشيخ باحترام وتقدير تلامذته فحسب وإنما تعداه إلى أساتذته الذين لم يخفوا إعجابهم الكبير به.
فهذا صاحب الجواهر رحمه الله الذي كان مرجعاً دينياً لعامة الشيعة في زمانه، وفي سنة 1266 عندما شعر باقتراب أجله دعا جميع علماء النجف الأشرف ومجتهديه. وبعد الاجتماع لم يجد صاحب الجواهر الشيخ الأنصاري بينهم فأرسل إليه. وعندما بحثوا عنه وجدوه في حرم أمير المؤمنين عليه السلام مستقبلاً القبلة وهو يسأل الله شفاء صاحب الجواهر.
لما وصل طلب منه أن يجلس إلى جانبه ثمّ أخذ بيده ووضعها على صدره وقال: "الآن طاب لي الموت" ثمّ التفت إلى الحاضرين وقال: "هذا مرجعكم من بعدي".
أخلاقه وسيرته
لم يكن الشيخ الأنصاري سبّاقاً في مضمار العلم وحده وإنما حاز شرف العمل أيضاً. فقد كان مواظباً على حلّ مشاكل الناس وتقصّي أحوال الطلاب والتشجيع وتقصّي أحوال الطلاب والتشجيع على العلم ونشر الدين. ومما يروى عنه أنّه كان يرفض استقبال الحقوق المالية التي تأتيه من المدن الأخرى إذا كان فيها طلاب علم أو علماء.
ينقل صاحب كتاب "حياة الشيخ الأنصاري" أنّ شخصاً جاءه في أحد الأيام وقال له: إنّ الطالب الفلاني يشرب الشاي (وكان الشاي في ذلك الزمان يعد من الأمور الكمالية) وكان يريد بهذا الكلام أن يسقطه في عن الشيخ. فقال الأنصاري: - رحمك الله – إنّك أخبرتني بهذا الأمر حتّى أزيد له من حقوقه المالية ليدرس براحة.
وجاء في "لؤلؤ الصدف": "... كانت أغلب عطايا ذلك المرحوم في السر وكان يخصّص الكثير من الفقراء بمرتبات شهرية أو سنوية يوصلها إليهم في الأسحار والليالي.وعندما توفي علم الناس من كان يهتم بهم".
وذكر أنّ رجلاً مدحه على هذا العمل الإنساني (مساعدة الفقراء) فقال له الشيخ: ليس هذا مدعاة للفخر والكرامة، لأنّ كلّ إنسان مكلف أن يوصل الأمانة إلى أهلها، وليست هذه الحقوق إلاّ أمانة عندنا نوصلها إلى أصحابها.
لقد كانت ملكاته الفاضلة وأخلاقه السامية على درجة لا يمكن وصفها. فعندما كان مرجعاً للأمة وإماماً للجماعة كان يحل مشاكل الناس ويعيش همومهم ويعود مرضاهم ويشيّع جنائزهم. في ذلك الوقت ينقل أحد العلماء أنّه قدِمَ إلى الشيخ وقال له: أنّ السيد الفلاني طالب علم وهو مديون ومسكين لو تتفضلون عليه بشيء. فقال الشيخ: ليس لديّ إلاّ ثمان تومات هي أجرة سنتي صلاة وصيام. فأعطه إيّاها وقل له أن يؤديهما عني. فقال ذلك العالم: ولكنّه رجل محترم ومن العائلات المميزة ولم يفعل هذا الأمر من قبل (صلاة الاستيجار). فسكت الشيخ قليلاً ثم أجاب: "خذ هذه النقود إلى السيد وأنا أؤديها عنه".
وقد ذكر في كتاب "دار السلام": مع أنّه كان يصله كلّ عام أكثر من مئة ألف تومان من الحقوق، فقد توفي، الشيخ الأنصاري وهو لا يملك ديناراً واحداً، وكان في حياته يكتفي بأقل ما يمكن".
وكان يقول: إنّني فرد فقير، وينبغي أن أعيش كالفقراء.
ويروي صاحب كتاب "شخصية الشيخ الأنصاري" أنّ الشيخ عندما أراد تزويج ابنته إلى صهره الشيخ محمد حسن الأنصاري، تقدم الحاج محمد صالح الكبّة (وكيله في بغداد) يطلب منه أن يجيزه في تولّي مصاريف هذا العرس على نفقته، ولكن الشيخ رفض ذلك وزوّج ابنته بجهاز بسيط جداً.
مسجد الشيخ الأنصاري
لقد بنى الشيخ الأنصاري مسجداً في حياته، وقصة هذا المسجد أنّ رجلاً من الأثرياء الإيرانيين قدم له مبلغاً من المال ليبني بيتاً لنفسه. فاشترى الشيخ أرضاً وبنى فيها مسجداً. وعندما رجع ذلك الثري أحضره الشيخ إلى المسجد وقال له: "هذا هو بيتي الذي بنيته لي".
مؤلفاته
رغم ما ألّفه الشيخ الأنصاري لم يكن كثيراً إلاّ أنّه فاق آلاف الكتب العلمية قوة وعمقاً. ويكفي أن نلقي نظرة على كتابيه "الرسائل" و "المكاسب لندرك درجة من مقامه العظيم.
ونحن هنا نذكر أسماء بعض مؤلفاته:
1-رسائل الشيخ بعنوان "فرائد الأصول" وفيه أسّس الشيخ علم الأصول.
2-المكاسب أو المتاجر في الفقه.
3-رسالة في الإرث.
4-رسالة في التقية.
5-رسالة في الخلل.
6-الحاشية على استصحاب القوانين.
7-كتاب الرجال.
وغيرها.
توفي العلامة الأكبر بعد عمر قضاه بالعلم والعمل وربى فيه عشرات العلماء الذين سطعوا في سماء العلم والفضيلة منهم الميرزا محمد حسن الشيرازي المشهور بالمجدّد الشيرازي. والميرزا محمد حسن القمّي. وجمال الدين الأفغاني والعلامة النوري والآخوند الخراساني وغيرهم.
وكانت سنة وفاته 1281 هــ ليلة الثامن عشر من جمادى الثانية، ودفن في جوار حرم أمير المؤمنين قرب الشيخ حسين النجف.
رحمه الله ووفقنا للسير على هداه 4.
- 1. لقد كانت الحوزات العلمية الإسلامية وخاصة الشيعية أهم القواعد الإسلامية عبر التاريخ التي ربّت "حماة الإسلام" وسوف تبقى. وإذا كان الإمام الخميني قدس سره يقول: "لو لم يكن أولئك العلماء لما كان لدينا اليوم أي إطلاع على الإسلام" فإنَّه يتحدَّث بعمق عن واقع يدل عليه النظر إلى التاريخ وحالات العلماء العظام الذين قاموا بنقل تعاليم الإسلامية والدفاع عنها وتهذيبها من كل دخيل وقدموا لذلك كل ما لديهم في سبيل إعلاء كلمة الله على الأرض. مجلة بقية الله تفتح صفحاتها للحديث عنهم عرفاناً للجميل وتعريفاً له.
- 2. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 69، الصفحة: 404.
- 3. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 7، الصفحة: 386.
- 4. المصدر: مجلة بقية الله، العددان: 7 و 8.