مجموع الأصوات: 19
نشر قبل 5 أشهر
القراءات: 1126

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

عبادة الامام الباقر عليه السلام

كان الامام ابو جعفر (ع) من أئمة المتقين في الاسلام ، فقد عرف الله معرفة استوعبت دخائل نفسه ، فاقبل على ربه بقلب منيب ، واخلص في طاعته كاعظم ما يكون الاخلاص ، اما مظاهر عبادته.

مظاهر عبادته

أ ـ خشوعه فى صلاته

وروى المؤرخون أنه اذا اقبل على الصلاة اصفر لونه 1 خوفا من الله وخشية منه ، فقد عرف عظمة الله تعالى ، خالق الكون وواهب الحياة فعبده عبادة المتقين والمنيبين.

ب ـ كثرة صلاته

وكان كثير الصلاة فكان ـ فيما يقول الرواة ـ يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة 2 ولم تشغله شئونه العلمية ، ومرجعيته العامة للأمة عن كثرة الصلاة ، فقد كانت اعز شيء عنده لانها الصلة بينه

وبين الله.

ج ـ دعاؤه فى سجوده

جاء في الحديث أقرب ما يكون العبد الى ربه وهو ساجد ، فكان الامام (ع) في سجوده يتجه بقلبه وعواطفه نحو الله ويناجيه بانقطاع واخلاص ، وقد أثرت عنه بعض الادعية وهذه بعضها.

١ ـ ما رواه اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال :كنت أمهد لأبي فراشه فانتظره حتى يأتي ، فاذا آوى الى فراشه ونام قمت الى فراشي ، وقد ابطأ علي ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعد ما هدأ الناس ، فاذا هو في المسجد ساجد ، وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول : « سبحانك اللهم ، أنت ربي حقا حقا ، سجدت لك يا ربي تعبدا ورقا ، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي .. اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ، وتب عليّ انك أنت التواب الرحيم .. » 3.

٢ ـ ما رواه أبو عبيدة الحذاء قال : سمعت أبا جعفر يقول وهو ساجد: « أسألك بحق حبيبك محمد (ص) إلا بدلت سيئاتي حسنات ، وحاسبني حسابا يسيرا. » ثم قال في السجدة الثانية: « اسألك بحق حبيبك محمد (ص) إلا ما كفيتني مؤونة الدنيا ، وكل هول دون الجنة ».

ثم قال في الثالثة : « اسألك بحق حبيبك محمد لما غفرت الكثير من ذنوبي والقليل ، وقبلت مني العمل اليسير ». ثم قال في الرابعة : « اسألك بحق حبيبك محمد (ص) لما ادخلتني الجنة ، وجعلتني من سكانها ، ولما نجيتني من سفعات النار » 4 برحمتك ، وصلى الله على محمد وآله .. » 5.

وكشفت هذه الادعية عن شدة تعلقه بالله ، وعظيم انابته إليه ، وتمسكه بطاعته.

د ـ دعاؤه فى قنوته

وأثرت عنه بعض الأدعية التي كان يدعو بها فى قنوته وهي :

١ ـ « اللهم ان عدوي قد استسن في غلوانه ، واستمر في عدوانه ، وأمن بما شمله من الحلم عاقبة جرأته عليك ، وتمرد في مباينتك ، ولك اللهم لحظات سخط بياتا وهم نائمون ، ونهارا وهم غافلون ، وجهرة وهم يلعبون ، وبغتة وهم ساهون ، وان الخناق قد اشتد ، والوثاق قد احتد ، والقلوب قد محيت ، والعقول قد تنكرت ، والصبر قد أودى ، وكادت تنقطع حبائله ، فانك لبالمرصاد من الظالم ، ومشاهدة من الكاظم ، لا يعجلك فوت درك ، ولا يعجزك احتجاز محتجز ، وانما مهل استثباتا ، وحجتك على الاحوال البالغة الدامغة ، وبعبيدك ضعف البشرية وعجز الانسانية ، ولك سلطان الإلهية وملكة البرية ، وبطشة الاناة ، وعقوبة التأبيد.

اللهم ان كان في المصابرة لحرارة المعان من الظالمين ، وكمد من يشاهد من المبدلين لك ، ومثوبة منك فهب لي مزيدا من التأييد ، وعونا من التسديد الى حين نفوذ مشيئتك فيمن اسعدته واشقيته من بريتك ، وامنن علي بالتسليم لمحتومات أقضيتك ، والتجرع لصادرات اقدارك ، وهب لي محبة لما احببت في متقدم ومتأخر ، ومتعجل ومتأجل ، والايثار لما اخترت في مستقرب ومستبعد ، ولا تخلنا مع ذلك من عواطف رحمتك ... وحسن كلائتك .. » 6.

لا اكاد أعرف وثيقة سياسية حفلت بتحديد الاوضاع الراهنة في البلاد في ذلك العصر ، كهذا الدعاء الذي تحدث فيه الامام عن الازمات السياسية التي عاناها المسلمون أيام الحكم الاموي المعاصر له خصوصا عهد الطاغية عبد الملك بن مروان الذي جهد على اذلال المسلمين ، وارغامهم على ما يكرهون ، وقد سلط عليهم الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي الذي عاث في دينهم ودنياهم ، وسعى في الارض فسادا ، فلم يترك لونا من الوان الظلم إلا صبه على المسلمين حتى طاشت الاحلام ، وبلغت القلوب الحناجر ، وأودى الصبر ، وانقطعت حبائله ، والامام يطلب من الله ان ينقذ المسلمين من محنتهم ، وينزل عقابه الصارم بالمردة الظالمين.

٢ ـ كان (ع) يدعو بهذا الدعاء في قنوته « بمنك وكرمك يا من يعلم هواجس السرائر ومكامن الضمائر ، وحقائق الخواطر ، يا من هو لكل غيب حاضر ، ولكل منس ذاكر ، وعلى كل شيء قادر ، والى الكل ناظر ، بعد المهل وقرب الاجل ، وضعف العمل ، وأراب الامل.

وأنت يا الله الآخر كما أنت الاول مبيد ما أنشأت ، ومصيرهم الى البلى ، وتقلدهم أعمالهم ، ومحملها ظهورهم الى وقت نشورهم من بعثة قبورهم عند نفخة الصور ، وانشقاق السماء بالنور ، والخروج بالمنشر الى ساحة المحشر ، لا ترتد إليهم أبصارهم وافئدتهم هواء ، متراطمين في غمة مما أسلفوا ، ومطالبين بما احتقبوا ، ومحاسبين هناك على ما ارتكبوا ، الصحائف في الاعناق منشورة ، والاوزار على الظهور مأزورة ، لا انفكاك ولا مناص ولا محيص عن القصاص قد اقحمتهم الحجة وحلوا في حيرة المحجة وهمس الضجة ، معدول بهم عن المحجة ، الا من سبقت له من الله الحسنى فنجا من هول المشهد وعظيم المورد ، ولم يكن ممن في الدنيا تمرد ، ولا على أولياء الله تعند ، ولهم استعبد ، وعنهم بحقوقهم تفرد.

اللهم : فان القلوب قد بلغت الحناجر ، والنفوس قد علت التراقي والاعمار قد نفذت بالانتظار لا عن نقص استبصار ، ولا عن اتهام مقدار ، ولكن لما تعاني من ركوب معاصيك ، والخلاف عليك في أوامرك ونهيك ، والتلعب باوليائك ، ومظاهرة اعدائك.

اللهم : فقرب ما قد قرب ، وأورد ما قد دنى ، وحقق ظنون الموقنين وبلغ المؤمنين تأميلهم من اقامة حقك ونصر دينك واظهار حجتك .. » 7.

وحفل هذا الدعاء الشريف باعطاء صورة عن سعة علم الله ، واحاطته بكل شيء الظاهر والخفي ، كما حفل بذكر المعاد ، وحشر الناس جميعا يوم القيامة لعرضهم للحساب أمام الله ، وهم يحملون على ظهورهم وزر ما عملوه في دار الدنيا ، وانهم مطالبون بما اقترفوه ، ومحاسبون على ما عملوه ، ولا ينجو من أهوال ذلك المشهد الرهيب إلا من سبقت له من الله الحسنى ، ولم يكن من المتمردين في دار الدنيا ، ولا من المستعبدين لعباد الله ، وفيه تعريض بحكام الامويين الذين اتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، وان القلوب قد بلغت الحناجر ، من ظلمهم وجورهم حسبما يقول (ع).

حجه

وكان الامام أبو جعفر (ع) اذا حج البيت الحرام انقطع الى الله واناب إليه وتظهر عليه آثار الخشوع والطاعة ، وقد روى مولاه أفلح قال : حججت مع أبي جعفر محمد الباقر فلما دخل الى المسجد رفع صوته بالبكاء فقلت له : « بأبي أنت وأمي إن الناس ينتظرونك فلو خفضت صوتك قليلا. »

فلم يعن به الامام وراح يقول له :

« ويحك يا أفلح اني ارفع صوتي بالبكاء لعل الله ينظر إلي برحمة فافوز بها غدا .. »

ثم انه طاف بالبيت ، وجاء حتى ركع خلف المقام ، فلما فرغ واذا بموضع سجوده قد ابتل من دموع عينيه 8 وحج (ع) مرة وقد احتف به الحجاج ، وازدحموا عليه وهم يستفتونه عن مناسكهم ويسألونه عن أمور دينهم ، والامام يجيبهم ، وبهر الناس من سعة علومه ، وأخذ بعضهم يسأل بعضا عنه فأنبرى إليهم شخص من اصحابه فعرفه لهم قائلا :

« إلا ان هذا باقر علم الرسل ، وهذا مبين السبل ، وهذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة ، هذا ابن فاطمة الغراء العذراء الزهراء ، هذا بقية الله في أرضه ، هذا ناموس الدهر ، هذا ابن محمد وخديجة وعلي وفاطمة ، هذا منار الدين القائمة .. » 9.

ولم تذكر المصادر التي بأيدينا عدد حجه الى بيت الله الحرام ، فقد أهملت ذلك.

مناجاته مع الله

كان الامام (ع) يناجي الله تعالى في غلس الليل البهيم ، وكان مما قاله في مناجاته :

« أمرتني فلم آتمر ، وزجرتني فلم انزجر ، ها أنا ذا عبدك بين يديك. » 10.

ذكره لله

ويقول المؤرخون : إنه كان دائم الذكر لله ، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته ، فكان يمشي ويذكر الله ، ويحدث القوم ، وما يشغله ذلك عن ذكره تعالى ، وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس كما كان يأمرهم بقراءة القرآن ، ومن لا يقرأ منهم أمره بذكر الله 11.

زهده في الدنيا

وزهد الامام أبو جعفر (ع) في جميع مباهج الحياة وأعرض عن زينتها فلم يتخذ الرياش في داره ، وإنما كان يفرش في مجلسه حصيرا 12.

لقد نظر الى الحياة بعمق وتبصر فى جميع شئونها فزهد في ملاذها ، واتجه نحو الله تعالى بقلب منيب ، يقول جابر بن يزيد الجعفي : قال لي محمد ابن علي : « يا جابر إني لمحزون ، واني لمشتغل القلب .. »

فأنبرى إليه جابر قائلا : « ما حزنك ، وما شغل قلبك؟ » فاجابه (ع) بما احزنه وزهده في هذه الحياة قائلا :

« يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عز وجل شغله عما سواه ، يا جابر ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون ، هل هي إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها .. »  13.

وأثرت عنه كلمات كثيرة في الحث على الزهد ، والاقبال على الله ، والتحذير من غرور الدنيا ، وآثامها يعرض لها هذا الكتاب ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مظاهر شخصيته المشرقة 14.

 

  • 1. تاريخ ابن عساكر ٥١ / ٤٤.
  • 2. تذكرة الحفاظ ١ / ١٢٥ ، تأريخ ابن عساكر ٥١ / ٤٤ ، حلية الاولياء ٣ / ١٨٢.
  • 3. فروع الكافي ٣ / ٣٢٣.
  • 4. سفعات النار : هي لفحات السعير التي تغير بشرة الانسان لشدة حرارتها.
  • 5. فروع الكافي ٣ / ٣٢٢.
  • 6. مهج الدعوات ( ص ٥١ ).
  • 7. مهج الدعوات ( ص ٥٢ ).
  • 8. صفة الصفوة ٢ / ٦٣ ، تأريخ ابن عساكر ٥١ / ٤٤ ، مرآة الزمان ٥ / ٧٩ نور الابصار ( ص ١٣٠ ).
  • 9. مناقب ابن شهرآشوب ٤ / ١٨٣.
  • 10. حلية الاولياء ٣ / ١٨٢ ، صفة الصفوة ٢ / ٦٣ ، نور الابصار ( ص ١٣٠ ).
  • 11. اعيان الشيعة ٤ / ق ١ / ٤٧١.
  • 12. دعائم الاسلام ٢ / ١٥٨.
  • 13. البداية والنهاية ٩ / ٣١٠.
  • 14. المصدر: كتاب حياة الإمام محمّد الباقر دراسة و تحليل، لشيخ باقر شريف القرشي رحمه الله.