حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
التشيع عراقي النشوء والنمو
قد عرفت أنّه لمّا غادر الإمام المدينة المنوّرة متوجّهاً إلى العراق واستوطن الكوفة هاجر كثير من شيعته معه واستوطنوا العراق، فصار ذلك أقوى سبب لنشوء التشيّع ونموّه في العراق، ولا سيما في الكوفة، فصارت معقل الشيعة، ولمّا قضى الإمام نحبه حاولت السلطة الأُموية وعمّـالها استئصال التشيّع منها بأبشع صورة مستخدمة في ذلك شتّى الأساليب الإجرامية الرهيبة من دون أيّ وازع من ضمير.
وبالرغم من أنّ العراق وأخصّ منه الكوفة كان علوي النزعة هاشمي الولاء، إلاّ أنّ الحسين ابن الإمام عليّ_ عليهما السلام _ قتل بسيف الكوفيين، وسقط عطشان وحوله أجساد أبنائه وأبناء أخيه وأصحابه،إلاّ أنّ ذلك لا يدلّ على انسلاخهم عن التشيّع; لأنّ الشيعة يوم ذاك كانوا بين مسجون في زنزانات الأُمويين، أو مرعوب متخاذل فاقد للتصميم والحمية، أو منتظر لما تؤول إليه الأُمور، أو ناصر التحق بالحسين في أحلك الظروف. هؤلاء هم الشيعة.
وأمّا الذين شاركوا في قتل الحسين فلم يكونوا من الشيعة أبداً، بل كانوا أتباع الأُمويين والمنضوين تحت راياتهم. فلما قتل الحسين أثار قتله شجون الشيعة، وبقوا يتحيّنون الفرص للانقضاض على الحكم الأُموي الفاسد وأتباعه، حتّى تهيّأت الفرصة عند خروج المختار من سجنه، فالتفوا حوله في ثورة كبيرة اقتلعت جذور الاُمويين واقتصّت من أعوانهم قتلة الحسين وأهل بيته وأصحابه.
وقد حاول الأُمويون جعل العراق أُموياً، وبذلوا جهوداً حثيثة في سبيل هذا الأمر، إلاّ أنّ جهودهم ذهبت أدراج الرياح، وبقي العراق هاشمياً وعلوياً، حتّى أنّ دعوة العباسيين نجحت في بداية الأمر في العراق في ظلّ طلب ثأر الحسين وأهل بيته، وكانت الدعوة للرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
لقد تبلور التشيّع بعد حادثة الطفّ بقليل واتّسع نطاقه وصار العراق مركزه، وكانت القوافل من أنحاء العراق وغيره من بلاد المسلمين تؤمّ قبر الحسين وأصحابه، فصارت مشاهد أهل البيت فيها معمورة بالزائرين والمجاورين، وكانت المآتم تقام في حواضرها تخليداً لذكرى استشهاد الإمام الحسين المفجع، واتّخذت الشيعة قرب مشاهد أئمّتهم، حوزات علمية ومعاهد فكرية، فازدهر العراق بعمالقة الفكر، وأساتذة الفقه، وأساطين الكلام، وأعان على نشر التشيّع ونموّه في العراق نشوء دول وإمارات للشيعة في القرن الرابع وما بعده.
يقول الشيخ المظفّر 1: وساعد على نمو التشيّع وانتشاره في العراق، أن تكوّنت من الشيعة فيه سلطنات دول وإمارات كسلطنة آل بويه، وإمارة بني مزيد في الحلّة والنيل، وبني شاهين في البطائح، وبني حمدان وآل المسيّب في الموصل، ونصيبين، وكدولة بعض المغول أمثال محمّد خدابنده وابنه أبي سعيد، وأمّا محمود غازان فقد قيل بتشيّعه وهناك أمارات عليه إلاّ أنّه لم يصارح به، وكدولة الجلائرية التي أسّسها الشيخ حسن الجلائري أحد قوّاد المغول وابن أُخت محمود غازان ومحمّد خدابنده، وكانت بغداد عاصمة ملكه، وكالدولة الصفوية التي ناصرت التشيّع ونشرته في البلاد بشتّى الطرق، فكأنّما هي دولة دينية تأسّست لنشر مذهب أهل البيت.
وأيّد مذهب التشيّع أيضاً أن انعقدت عدّة وزارات من رجاله، فقد استوزر السفاح أوّل ملوك بني العباس أبا سلمة الخلاّل الكوفي الهمداني داعية أهل البيت، وقتله على التشيّع.
واستوزر المنصور: محمّد بن الأشعث الخزاعي.
واستوزر المهدي: أبا عبد الله يعقوب بن داود، وحبسه لتشيّعه، واستوزر الرشيد: عليّ بن يقطين، وجعفر بن الأشعث الخزاعي.
واستوزر المأمون: الفضل بن سهل ذا الرياستين لجمعه بين القلم والسيف، وقتله عندما أحسّ بميله إلى الرضا_ عليه السلام _، واستوزر من بعده أخاه الحسن بن سهل.
واستوزر المعتزّ والمهتدي: أبا الفضل جعفر بن محمود الإسكافي.
واستوزر المقتدي: أبا شجاع ظهير الدين محمّد بن الحسين الهمداني، وعزله لتشيّعه.
واستوزر المستظهر: أبا المعالي هبة الدين بن محمّد بن المطلّب، وعزله لتشيّعه، ثمّ أعاده على أن لا يخرج من مذهب أهل السنّة، ثمّ تغيّـر عليه وعزله.
واستوزر الناصر والظاهر والمستنصر: مؤيّد الدين محمّد بن عبد الكريم القمّي من ذريّة المقداد ـ رضوان الله عليه ـ.
واستوزر المستعصم آخر ملوك بني العباس: أبا طالب محمّد بن أحمد العلقمي الأسدي، وأقرّه هولاكو على الوزارة، ولمّا مات ـ رحمه الله ـ استوزر: ولده أبا الفضل عزّالدين. إلى ما سوى هؤلاء.
وأمّا الإمارات، والقيادات، والكتابة، والخزانة، فما أكثرها، أمثال: إمارة آل قشتمر، وآل أبي فراس الشيباني، وآل دبيس كما أشرنا إليهم.
وقيادة طاهر بن الحسين الخزاعي، وقيادة أولاده كابنه عبد الله، ومحمّد بن عبد الله وغيرهما، وتولّيهم إمارة هراة.
وكان عبد الله بن سنان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد، وكان من ثقات الرواة لأبي عبد الله الصادق_ عليه السلام _. إلى ما يعسر استقصاؤه.
وكفاك برهاناً على أنّ التشيّع كان ضارباً أطنابه على بسيطة العراق، ما كان من نقابة الطالبيين في بغداد، فما أكثر ما كان يتولاّها الشيعة، أمثال الشريف الرضي وأبيه وابنه وأخيه المرتضى، وقد تولّوا المظالم أيضاً، وتولّى الشريف الرضي وأبوه أيضاً إمارة الحاج، كما تولاّها ثلاث عشرة حجّة حسام الدين أبو فراس جعفر بن أبي فراس الشيباني.
وتولّى آل طاووس نقابة الطالبيين في العراق عامة، تولاّها منهم السيّدان العلمان رضي الدين وغياث الدين عبد الكريم 2.
كما تولّى الأوقاف في العراق وغيرها ممّا كان تحت حكم المغول الخواجا نصير الدين الطوسي ـ طاب ثراه ـ وعندما قبض عليها، أقام ببغداد، وتصفّح الأوقاف، وأدار أخبار الفقهاء والمدرّسين، وقرّر القواعد في الوقف، وأصلحها بعد اختلالها 3، ومن بعده تولاّها ابنه أحمد فخر الدين، ولمّا وليها حذف الحصّة الديوانية في الوقوف، ووفّرت على أربابها 4.
وهكذا فإنّ الاستقراء الموضوعي لسكان العراق يكشف بوضوح التفوّق الكبير في عدد الشيعة على ماعداهم، فجنوب العراق يغلب على سكّانه الشيعة بشكل واضح جدّاً، وأما وسطه فتتركّز شيعته في أغلب محافظاته أمثال محافظة النجف وكربلاء وبابل وواسط والسماوة والديوانية وغيرها، وأما شمال العراق فتقلّ نسبة الشيعة فيه بشكل ملحوظ، إلاّ أنّ هناك أعداداً لا بأس بها في محافظتي الموصل وكركوك 5.
- 1. انظر: محمد حسين المظفر، تاريخ الشيعة: 69ـ71 و 110 ـ 111.
- 2. انظر: الحوادث الجامعة، في حوادث عام (661هـ ) وما ذكره فيها من تولّي السيد رضي الدين بن طاووس نقابة الطالبيين بالعراق، وذكر أنّ وفاته عام (664هـ )، وفي حوادث عام (693هـ ) قال: وفيها توفّي النقيب غياث الدين عبد الكريم بن طاووس.
- 3. انظر: تاريخ مختصر الدول، للعبري: 500 ; والحوادث الجامعة، في حوادث عام (672هـ ).
- 4. انظر: الحوادث الجامعة، في حوادث عام (683هـ ).
- 5. دور الشيعة في بناء الحضارة الاسلامية، لآية الله الشيخ جعفر السبحاني، ص99-103، بيروت: دار الاضواء، 1993م.