لابد من وقفة مهمة مع معنى كلمة الجود أولا ليتبين لنا تمييزها عن بقية مستويات العطاء والبذل، فالعطاء هو بذل شيء من فاضل المال لمواساة المحتاجين وتخفيف وطأة الاعتياز عنهم، ولكن مرتبة الجود تتميز بمبادرة المنفق للبحث عن حالات الآخرين حتى يجد الفقير منهم فيقدم له ما أمكنه.
لقد كانت عيشة الإمام الجواد بسيطة وبعيدة عن كل مظاهر التزين والتفاخر بزخارف الدنيا، فزهد الإمام تأكيد على صدقية شخصيته وتوافق كلامه وفعله، وارتبط هذا الزهد بانفتاح واسع على العطاء والإنفاق المادي على المحتاجين.
لا بد في نظرنا المعرفي وبيان الوجه العقائدي والتربوي لزيارة الإمام الحسين الخروج من الإطار التقليدي والنظر لها كوجه فقهي مستحب، إذ هذه الزيارات الشريفة تحمل بين طياتها الكثير من المعاني والمضامين العالية والتعريف بالإمام المعصوم وبيان جزء مهم من سيرته الشريفة، وهي برنامج روحي وأخلاقي تدريبي يستقي من خلاله الزائر مجموعة من المفاهيم والقيم التي تتحول إلى سلوكيات وتصرفات، يسير فيها على نهج الإمام الحسين .
لقد تجلت في شخصية الإمام الصادق تلك الكمالات التي تذكر من سمع ومن قرأ جانبا من سيرته بمنهج وعظمة جده المصطفى ﷺ وآبائه الأئمة الطاهرين ، والذين أشرقت الدنيا بأنوار انقطاعهم لله تعالى والخشية منه والزهد في هذه الدنيا وقطع العلاقة مع مظاهرها الخداعة، وفي المقابل كان الناس ينهلون من عطائهم المعرفي وبث العلوم الفقهية والقرآنية والعقائدية والأخلاقية.
حقيقة الشخصيات وتمييزهم يتكيء على تلك السيرة التي سطروها في هذه الدنيا ومواقفهم التي يقيمها مجهر التحليل لمواقفهم، والتقييم العقلائي البعيد عن العواطف والأهواء هو ما يعتمد عليه ونتبناه، وهذا كتاب التاريخ قد كتبت فيه سيرة مختلف الشخصيات المتباينة في اتجاهاتها وأفكارها وقيمها، وعندما نضع معيار الإنسانية والرفعة التكاملية في الصفات اللائقة بالإنسان المكرم بعقله الواعي، سنجد شخصيات تجسدت في سلوكياتها كل معاني الرقي والنزاهة من النقائص.
ورد عن الرسولِ الأعظم ﷺ أنَّه سُئِلَ: أينَ الله؟ فقال ﷺ: «عندَ المُنكسرةِ قلوبُهم».
لا يسأل عن الله تعالى في وجود مادي وهو تعالى الذي لا يحويه مكان فهو معكم أينما كنتم، وإنما السؤال فيه حذف كلمة الرحمة واللطف، أي أي المواضع والأفعال التي نجد فيها لطفا إلهيا يخفف عنا أعباء ذنوبنا الثقال ونحظى من خلاله بالقرب منه سبحانه.
لهذا الشهر الكريم مكانته المتعددة الجهات والتي بملاحظتها يمكننا أن نعطيه شيئا من استحقاقاته ومكانته الرفيعة، ففي زمن الجاهلية المنغمسة في شتى الانحرافات والضلالات كانت تولي هذا الشهر الكريم حرمة ومقاما، وذلك أنهم يوقفون كل أشكال النزاعات والحروب فيه وكأنه قانون سن بينهم فلا ينتهكونه.
تلك الدرة الزاهرة والحوراء الأنسية خزانة الأسرار ومجمع الكمالات والفضائل، تتلقف عطاءها والقيم التي تدعو إليها تلك النفوس المهذبة والساعية إلى مدارج الترقي في فهم وتطبيق فكرها وتعاليمها، ولكل من السالكين درجات وتفاضل وتمايز بقدر ما تحلوا به من قدر تدبرهم وتأملهم في معارف ومضامين كلماتها الزاهرة، ومن ثم انطلقوا في تجسيدها والتالق في درجات العمل درجة تلو الأخرى.
المسئولية الأسرية الملقاة على عاتق الوالدين اليوم ليست بالسهلة، ومرد ذلك إلى تعقد مشهد الحياة وتدخل عوامل مؤثرة وبقوة سلبية باتجاه انحراف الأبناء وتشويش أفكارهم، ولنا أن نتخيل صعوبة الظروف في عصرنا الحاضر كأب يقود سيارته في وسط شارع متعرج مع صعوبة في الحركة وازدحام وتشكل الضباب المعيق للرؤية، أو كقبطان سفينة يسير بها وسط بحر تتلاطم فيه الأمواج وتتلاعب به الرياح الهائجة، ولا مصدر أمان ونجاة وسلامة من أخطار الحياة إلا من خلال مهارة السائق أو الربان في تفادي انفلات زمام الأمور.
يفتتح العبد يومه بتلبية نداء ربه فتتحفز قواه لأداء صلاة الفجر؛ ليتكامل بالطمأنينة والخشوع ويتزود بالورع، بما يمنحه المنعة أمام مغريات الدنيا المتزينة والحذر من خطوات الشيطان الرجيم، وذلك القلب الطاهر المتولع بصاحب الزمان والمتحرق لرؤيته وقد حفته رايات العدل والإصلاح لا يخفف اللوعة منه إلا بالتواصل مع الإمام.
تتحدث الآية الكريمة عمن امتلك زمام نفسه وضبط حركتها في الحياة وفق عقله الواعي، والذي يتجه دوما نحو رضا المعبود وتحقيق إرادته في الأرض، وهذا الكمال الذي يحوزه تنتشر أنوار إشراقاته بكل اتجاه في حقل العطاء وبذل المكنة وكل ما يستطيع من قدراته ليسخرها في طريق العون والمساعدة، فتعبر الآية الكريمة عن روح التفاني والتضحية والتجرد من حب الذات الأناني ببيع النفس ليكون ثمنها رضا الله تعالى.
مدرسة الصوم التربوية لا تشمل ضبط النفس وكبح جماحها من الإفراط والاستجابة السريعة للأهواء والشهوات، وإنما تتسع الدائرة التهذيبية إلى كل جوانب شخصية الصائم وأهمها الجانب الأخلاقي.
من أبرز الطرق التربوية تقديم تلك النماذج الرائعة التي امتازت بالرشد والنضج الفكري ففاضت بالمنطق الحكيم من جهة، وبما برز من مواقف رائعة تشكل أوج الكرامة والتألق الإنساني الذي يحيا بإرادة قوية وهمة عالية يخوض بها غمار العمل في الحياة من جهة أخرى.
والدعاء للإمام المهدي في شهر رمضان بالخصوص يرتبط بتلك الحالة الروحية التي تستجلي وتظهر بأروع صورها، والمؤمن يعيش بين حلل الإيمان ومضامين العبادة الواعية وروح الإخلاص ومراقبة نفسه وتصرفاته، وقد انطلق في عملية الإصلاح والتهذيب بادئا بنفسه؛ ليكون عنصرا فاعلا وناشطا في النهضة الإصلاحية الكبرى التي يقودها المخلص العظيم ويقضي على مظاهر الانحلال والفساد والظلم على مستوى المعمورة.
الشهر الكريم صناعة للإنسان في فكره الواعي ولقلبه السليم جنة من الكراهيات ولخلقه وتعامله مع الناس صبغة الحسن والطيب، فجني ثماره ونيل جوائزه لا يكون بالتوقف عن الطعام والشراب مع بقاء نقطة سوداء في قلبه، فيمارس العدوان والقطيعة والتجاهل لمن اختلف معه في موقف، وإنما هو تطهير للنفس من أسر الشهوات والأهواء وتنقية علاقاته من الخصومات.
وهذا الكرم الإلهي الذي يترفع عن معاقبة المسيء على ما فعل ينبغي أن يكون مدعاة للأوبة، لا للتمادي والتجريء على المحارم اعتقادا بأن هذا الكرم بلا قيود أو شروط، هذا الكرم هبة ربانية غايته أن يستشعر المذنب نسمات الأمل ولا يفقد التطلع إلى يوم يتخلص فيه مما هو عاكف عليه، يسارع إلى التوبة هاربا من كل ما يلحق به الأذى وسخط مولاه، ويستحث الخطى نحو تنزيه نفسه ومواقفه من السقوط في وحل الشهوات.
النفس كالفرس الجامحة تسير بكل اتجاه ولا تقف عند حد معين، ولا يأمن صاحبها عند ركوبها إلا بكبح جماحها بلجام يضبط خطاها لئلا تقذف به بعيدا، وللنفس ميول ورغبات ونزوات وما لم يضبطها الإنسان بضوابط الشرع والعقل لتنتهي عن كل ما يلحق به العيب فإنها سترديه، وهذا الضبط يتمثل بجهاد النفس والوقوف بعزم أمام نزواتها المتفلتة.