حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
- الاخلاق - الاخلاق الاسلامية - الشهوة - العقل
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
أجناس الفضائل الأربع والأقوال في حقيقة العدالة
قد تبين في العلم الطبيعي أن للنفس الناطقة قوتين: " أولاهما ": قوة الإدراك و " ثانيتهما ": قوة التحريك، ولكل منهما شعبتان: (الشعبة الأولى) للأولى العقل النظري، وهو مبدأ التأثر عن المبادئ العالية بقبول الصور العلمية، و (الشعبة الثانية) لها العقل العملي، وهو مبدأ تحريك البدن في الأعمال الجزئية بالرؤية 1. وهذه الشعبة من حيث تعلقها بقوتي الشهوة والغضب مبدأ " لحدوث " 2 بعض الكيفيات الموجبة لفعل أو انفعال، كالخجل والضحك والبكاء وغير ذلك، ومن حيث استعمالها الوهم والمتخيلة مبدأ لاستنباط الآراء والصنائع الجزئية. ومن حيث نسبتها بالعقل وحصول الازدواج بينهما سبب لحصول الآراء الكلية المتعلقة بالأعمال كحسن الصدق، وقبح الكذب، ونظائرهما. (الشعبة الأولى) للثانية قوة الغضب وهي مبدأ دفع غير الملائم على وجه الغلبة، و (لشعبة الثانية) لها قوة الشهوة وهي مبدأ جلب الملائم.
ثم إذا كانت القوة الأولى غالبة على سائر القوى ولم تنفعل عنها، بل كانت هي مقهورة عنها مطيعة لها فيما تأمرها به وتنهاها عنه، كان تصرف كل منها على وجه الاعتدال، وانتظمت أمور النشأة الإنسانية، وحصل تسالم القوى الأربع وتمازجها، فتهذب كل واحد منها، ويحصل له ما يخصه من الفضيلة، فيحصل من تهذيب العاقلة العلم وتنبعه الحكمة، ومن تهذيب العاملة العدالة، ومن تهذيب الغضبية الحلم وتنبعه الشجاعة، ومن تهذيب الشهوية العفة وتتبعه السخاوة. وعلى هذا تكون العدالة كمالا للقوة العملية.
بطريق آخر قيل:
إن النفس لما كانت ذات قوى أربع العاقلة والعاملة والشهوية والغضبية، فإن كانت حركاتها على وجه الاعتدال، وكانت الثلاث الأخيرة مطيعة للأولى، واقتصرت من الأفعال على ما تعين لها، حصلت أولا فضائل ثلاث هي الحكمة والعفة والشجاعة، ثم يحصل من حصولها المترتب على تسالم القوى الأربع، وانقهار الثلاث تحت الأولى حالة متشابهة هي كمال القوى الأربع وتمامها، وهي العدالة. وعلى هذا لا تكون العدالة كمالا للقوة العملية فقط، بل تكون كمالا للقوى بأسرها.
وعلى الطريقين تكون أجناس الفضائل أربعا: " الحكمة " وهي معرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه والموجودات إن لم يكن وجودها بقدرتنا واختيارنا فالعلم المتعلق بها هو الحكمة العملية. " والعفة " هي انقياد القوة الشهوية للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه حتى تكتسب الحرية، وتتخلص عن أسر عبودية الهوى. " والشجاعة " وهي إطاعة القوة الغضبية للعاقلة في الإقدام على الأمور الهائلة، وعدم اضطرابها بالخوض فيما يقتضيه رأيها حتى يكون فعلها ممدوحا، وصبرها محمودا. وتفسير هذه الفضائل الثلاث لا يتفاوت بالنظر إلى الطريقين.
وأما " العدالة " فتفسيرها على الطريق الأول هو انقياد العقل العملي للقوة العاقلة وتبعيته لها في جميع تصرفاته، أو ضبطه الغضب والشهوة تحت إشارة العقل والشرع الذي يحكم العقل أيضا بوجوب إطاعته، أو سياسة قوتي الغضب والشهوة، وحملها على مقتضى الحكمة، وضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاه. وإلى هذا يرجع تعريف الغزالي " إنها حالة للنفس وقوة بها يسوس الغضب والشهوة، ويحملهما على مقتضى الحكمة، ويضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها " إذ المراد من الحالة والقوة هنا قوة الاستعلاء التي للعقل العملي لا نفس القوة العملية.
وتفسيرها على الطريق الثاني هو إئتلاف جميع القوى، واتفاقها على امتثالها للعاقلة، بحيث يرتفع التخالف والتجاذب، وتحصل لكل منها فضيلته المختصة به. ولا ريب في أن اتفاق جميع القوى وائتلافها هو كمال لجميعها لا للقوة العملية فقط.
اللهم إلا أن يقال إن الائتلاف إنما يتحقق باستعمال كل من القوى على الوجه اللائق، واستعمال كل قوة ولو كانت قوة نظرية إنما يكون من القوة العملية، لأن شأنها تصريف القوى في المحال اللائقة على وجه الاعتدال، وبدونها لا يتحقق صدور فعل عن قوة.
ثم العدالة على الطريق الأول تكون أمرا بسيطا مستلزمة للملكات الثلاث أعني الحكمة والعفة والشجاعة، وعلى الثاني تحتمل البساطة والتركيب على الظاهر، وإن كانت البساطة أقرب نظرا إلى أن الاعتدال الخلقي بمنزلة الاعتدال المزاجي الحاصل من ازدواج العناصر المتخالفة، وقد برهن في أصول الحكمة أن المزاج كيفية بسيطة.
وتفصيل الكلام في المقام أنه إذا حصلت الملكات الثلاث حصل للعقل العملي قوة الاستعلاء والتدبير على جميع القوى، بحيث كانت الجميع منقادة له، واستعمل كلا منها على ما يقتضيه رأيه، فإن جعلت العدالة عبارة عن نفس هذه القوة، أو نفس تدبير التصرف في البدن وأمور المنزل والبلد، دون الملكات الثلاث كانت العدالة بسيطة وكانت كمالا للعقل العملي فقط، وإن جعلت نفس الملكات كانت مركبة، وحينئذ لا يناسب جعلها فضيلة على حدة معدودة في أعداد الفضائل، لأن جميع الأقسام لا يكون قسما منها، وليس الائتلاف والامتزاج هيئة وحدانية عارضة للملكات الثلاث حتى تكون شيئا على حدة ونوعا مركبا.
ثم على الطريقين يتحقق التلازم بين العدالة والملكات الثلاث إلا أنه على الطريق الأول تكون العدالة علة، والملكات الثلاث معلولة، وعلى الطريق الثاني ينعكس ذلك لتوقف حصول العدالة على وجود تلك الملكات وامتزاجها، فهي أجزاء للعدالة أو بمنزلتها.
تكملة
العدالة انقياد العقل العملي للعقل النظري
الحق أن حقيقة العدالة هو التفسير الأول المذكور في الطريق الأول، أعني انقياد العقل العملي للقوة العاقلة، وسائر التفاسير المذكورة في الطريقين لازمة له، إذ الانقياد المذكور يلزمه اتفاق القوى وقوة الاستعلاء والسياسة للعقل: العملي على قوتي الغضب شهوة، أو نفس سياسته إياهما وضبطهما تحت إشارة العقل النظري، وأمثال ذلك، وعلى هذه التفاسير اللازمة للأول يلزم أن تكون العدالة جامعة لجميع الفضائل، ويتحقق معناها في كل فضيلة حتى تكون فردا لها..
وتحقيق المقام أن انقياد العقل العملي للعاقلة يستلزم ضبط قوتي الغضب والشهوة تحت إشارة العقل، وسياسته إياهما، واستعلائه عليهما. وهذا يستلزم اتفاق جميع القوى وامتزاجها. فجميع الفضائل الصادرة عن قوتي الغضب والشهوة، بل عن العاقلة أيضا إنما تكون بتوسط العقل العملي وضبطه إياها، إلا أن ذلك لا يوجب كونها كمالا له حتى يعد من فضائله، ووجهه ظاهر، ولا كون الضبط المذكور عدالة.
فالحق أن حقيقة العدالة هو مجرد انقياد العاملة للعاقلة، ومثل الضبط والاستعلاء والسياسة من لوازمه، والفضائل الصادرة عن القوى الأخرى بتوسط العقل العقلي إنما تندرج تحت لازم العدالة، لا عينها. فمن أدرج جميع الفضائل تحت العدالة نظره إلى اعتبار ما يلزمها، ومن لم يدرجه تحتها نظره إلى عدم اعتباره وعلى هذا لا بأس بأن يقال أن للعدالة إطلاقين (أحدهما) العدالة بالمعنى الأخص (وثانيهما) العدالة بالمعنى الأعم.
ثم إن القوم ذكروا لكل واحد من الفضائل الأربع أنواعا، فكما أدرجوا تحت كل من الحكمة والعفة والشجاعة أنواعا، فكذا أدرجوا تحت العدالة أيضا أنواعا كالوفاء والصداقة والعبادة وغيرها.
وأنت - بعد ما علمت أن العدالة بالتفسير الأول هو انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوتي الغضب والشهوة - تعلم أن الفضائل بأسرها إنما تحصل باستعمال العاملة القوى الثلاث، فكل فضيلة إنما تتعلق حقيقتها بإحدى الثلاث، وإن كان حصولها بتوسط العاملة وضبطها الثلاث، إذ كون الاستعمال والضبط منها لا يقتضي استناد ما يحصل من الفضائل باستعمالها إليها مع صدورها حقيقة عن سائر القوى. وكذا لا يقتضي استناد ما يحصل من الرذائل لعدم انقيادها للعاقلة إليها. ومعلوم أنه لا يترتب على مجرد انقيادها أو عدمه لها فضائل ورذائل لم يكن لها تعلق بالثلاث أصلا، إذ كل فضيلة ورذيلة إما متعلق بالقوة العقلية، أو بقوتي الغضب والشهوة بتوسط العاملة، وليس لها في نفسها فضيلة ورذيلة على حدة كما لا يخفى.
مع أنه لو كان الاستعمال والضبط منشأ لاستناد ما يحصل من الفضائل إليها لزم أن تستند إليها جميع الفضائل، فكان اللازم إدخال جميع الفضائل تحت العدالة. وكذا الحال على تفسير العدالة بالطريق الثاني كما ظهر.
وعلى هذا فيلزم من عدهم بعض الفضائل أنواع العدالة دون بعض آخر تخصيص بلا مخصص، فالفضائل التي جعلوها أنواعا مندرجة تحت العدالة بعضها من أنواع الشجاعة أو لوازمها، وبعضها من أنواع العفة أو آثارها، وإن كان للعاملة من حيث التوسط مدخلية في حصول الجميع. فنحن لا نتابع القوم، ونجري على مقتضى النظر من جعل أنواع الفضائل والرذائل وأصنافها ونتائجها متعلقة بالقوى الثلاث دون العقل العملي، وإدخال جميعها تحت أجناسها على ما ينبغي من دون إدخال شئ منها تحت العدالة وضدها.
ثم إن الرذائل والفضائل مع مدخلية القوة العملية فيها بالاستعمال، إما متعلقة بمجرد إحدى القوى الثلاث، أو باثنتين منها، وبالثلاث. ومنال المتعلق بإحداها ظاهر كالجهل والعلم المتعلقين بالعاقلة، والغضب والحلم المتعلقين بالقوة الغضبية، والحرص والقناعة المتعلقين بالقوة الشهوية، أما ما يتعلق باثنتين منها أو الثلاث، فأما إن يكون له أصناف يتعلق بعضها ببعض وبعضها ببعض آخر، كحب الجاه أعني طلب المنزلة في القلوب: فإنه إن كان المقصود منه الاستيلاء على الخلق والتفوق عليهم، كان من رذائل قوة الغضب. وإن كان المقصود منه طلب المال ليتوسل به إلى شهوة البطن والفرج، كان من رذائل قوة الشهوة، وكذا الحسد أعني تمني زوال النعمة عن الغير: إن كان باعثه العداوة كان من رذائل القوة الغضبية. وإن كان باعثه مجرد وصول النعمة إليه كان من رذائل القوة الشهوية. أو يكون للثلاث أو الاثنتين مدخلية بالاشتراك في نوع الفضيلة والرذيلة أو بعض أصنافه، كالحسد الذي باعثه العداوة، وتوقع وصول النعمة إليه معا، وكالغرور وهو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، وتمييل النفس إليه بخدعة من الشيطان، فإن النفس إن كانت مائلة بالطبع إلى شئ من مقتضيات الشهوة، واعتقدت جهلا كونه خيرا لها كان ذلك من رذائل قوتي العاقلة والشهوة، وإن كانت مائلة إلى شئ من مقتضيات قوة الغضب. واعتقدت جهلا كونه خيرا لها كان ذلك من رذائل قوتي العاقلة والغضب، وإن كانت مائلة إلى شئ من مقتضياتهما معا مع اعتقادها كونه خيرا لها كان من رذائل الثلاث معا.
ثم مرادنا من تعلق صفة بالقوى المتعددة وكونها معدودة من رذائلها أو فضائلها أن يكون لكل منها تأثير في حدوثها وإيجادها، أي يكون من جملة عللها الفاعلة الموجدة، بحيث لو قطع النطر عن فعل واحدة منها لم تتحقق هذه الصفة، فإن الغرور يتحقق بالميل والاعتقاد، بمعنى أن كلا منهما مؤثر في إيجاده وإحداثه، ولو لم يكن الاعتقاد المتعلق بالعاقلة والميل المتعلق بالشهوة والغضب لم يوجد غرور. فلو كانت مدخلية قوة في صفة بمجرد الباعثية، أي كانت باعثة لقوة أخرى على إيجاد هذه الصفة وإحداثها، بحيث أمكن تحقق هذه الصفة مع قطع النظر عن هذه القوة بباعث آخر لم تكن متعلقة بها، ولم نعدها من رذائلها أو فضائلها، بل كانت متعلقة بالقوة الأخرى التي هي مباشرة لإحداثها وإيجادها، مثل الغضب الحاصل من فقد شئ من مقتضيات شهوة البطن والفرج، وإن كان باعثه قوة الشهوة إلا أنه ليس لقوة الشهوة وفعلها شركة في إحداثه وإيجاده، بل الإحداث إنما هو من القوة الغضبية، ومدخلية الشهوية إنما هو بتحريكها وتهييجها الغضبية للإحداث والإيجاد، ولا ريب في أن للعاقلة هذه الباعثية في صدور أكثر الصفات مع عدم عدها من رذائلها " أو فضائلها " 3.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أنا نذكر أولا ما يتعلق بالعاقلة من الرذائل والفضائل ثم ما يتعلق بالقوة الغضبية منهما، ثم ما يتعلق بالشهوية منهما، ثم ما يتعلق بهما أو الثلاث4.
- 1. إذا كان العقل العملي مبدأ لتحريك البدن فهو قوة تحريك لا قوة إدراك وفي الحقيقة أن غرضهم من العقل العملي هو إدراك ما ينبغي أن يعمل.
- 2. وفي النسخة المخطوطة عندنا " الحصول ".
- 3. لم توجد في نسختنا الخطبة لكنها موجودة في نسخة خطية أخرى وفي المطبوعة.
- 4. المصدر: كتاب جامع السعادات، العلامة محمدمهدي النراقي رحمه الله.