مجموع الأصوات: 19
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 1326

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

إذا كان كلّ شيء يتقدّر بليلة القدر إلى العام المقبل، فما فائدة دعائنا خلال السنة أو في ليلة القدر؟

كما أنّ الله قدّر أن تنكسر رجل زيد عندما يرمي بنفسه من شرفة المنزل إلى الأرض، كذلك قدّر أن يرتفع الغمّ عن زيد إذا دعا ربّه برفع الغمّ، بحيث لو لم يدعه قد لا يرفع الله الغمّ عنه، فالدعاء هو جزء من القانون السببي في حصول ما قضى به الله أو قدّر، فعندما ندعو الله خلال العام أو في ليلة القدر نكون قد حقّقنا ما قدّر في ليلة القدر، ففي هذه الليلة جرى تقدير أن يدعو الإنسان ربّه بعد شهرين مثلاً، فعندما تقوم بالدعاء باختيارك ومن كلّ قلبك فأنت عمليّاً تكون قد حقّقت ما قسمه الله لك من الدعاء، وما بعد ذلك من الإجابة المسبّبة عن دعائك هذا.

ومسألة الدعاء مسألة طويلة، في علاقته بقضيّة القضاء والقدر، وكثير من العلماء يرون أنّ هناك ـ لو أردت التبسيط ـ (دفترين للحساب) عند الله تعالى، فهناك دفتر توضع فيه الأشياء التي لا تقبل التغيير ولا التعديل، وهناك دفتر آخر تكتب فيه الأشياء التي يمكن أن يحصل عليها تحوّل، والدفتر الأوّل يسمى أمّ الكتاب، والدفتر الثاني يسمّى لوح المحو والإثبات، فخلال السنة القادمة يكتب الله في الدفتر الثاني مجموع ما سيحصل، لكنّ هذا الدفتر نمطه تعليقي، أي هو يقول بأنّه سيحصل كذا وكذا على تقدير أن لا يحصل كذا وكذا، فلو حصل كذا وكذا فسوف تتغيّر الأمور، فعندما تقوم أنت بالدعاء فإنّك تُحدث تغييراً في هذا الدفتر ومساحة مدوّناته، لكنّ ما في هذا الدفتر وتمام تغييراته إلى جانب أمور أخرى تكون مكتوبةً في الدفتر الأوّل منذ البداية، وكتابتها في الدفتر الأوّل منذ البداية وبشكل نهائي هو الذي يفتح على قضيّة الجبر والتفويض. هذه صورة مبسّطة للغاية عن القضيّة، إلا أنّ هذا الموضوع له دراسات مطوّلة جدّاً في البحوث الفلسفيّة والكلاميّة عند المسلمين، فهي لا تختصّ بليلة القدر، بل تشمل كلّ هذا الوجود منذ ما قبل خلقه إذا صحّ التعبير.

ولابدّ لي أن ألفت النظر هنا بنحو الإشارة للتفكير والتداول دون أن أجزم بالموضوع، وهو أنّه لا يوجد في القرآن الكريم ما يشير إلى حصول تقديرات أو قضاء إلهي جديد للناس في ليلة القدر يتعلّق بالسنة القادمة، بمعنى لا وجود لفكرة تقول بأنّه في ليلة القدر تحصل قرارات جديدة، كلّ ما في الأمر أنّ هذه الليلة يبيّن فيها ما تمّ تقريره إلهيّاً منذ الأزل بشكل غير واضح، فالله وصف هذه الليلة بأنّها يُفرق فيها كلّ أمر حكيم، والفرق بمعنى التمييز والفصل، ففي هذه الليلة يصار إلى تمييز الأمر الحكيم وتبيين هذا الأمر، فلو فرضنا أنّ ليلة القدر هي نقطة انطلاق نزول الروح والملائكة لبداية عام جديد، فهذا ليس معناه بالضرورة أنّه تمّ تقرير أوضاع جديدة بقدر ما يعني أنّه تمّ البدء بتطبيق وتمييز وتبيين ما قرّر من قبل، فهنا لو أردت أن أستخدم التشبيه فإنّ الأمر يُشبه حالة اتخاذ القيادة العسكرية لمجموعة قرارات اليوم، ثم إعلان هذه القرارات وتحويلها إلى حيّز التنفيذ من الغد، حيث تقوم القوات المختصّة بالانتشار لبدء عملية فرز القرارات وتطبيقها بشكل منتشر وموزّع كلٌّ في موضعه المحدّد، فليلة القدر هي ليلة التنزيل والفرق والإعلان وإصدار الأوامر بإخراج ما تمّ تقريره إلى حيّز الوجود، فكأنّك وضعت خمس خطط، وفي كلّ عام تبلّغ القوات المعنيّة بالبدء بتنفيذ الخطّة رقم واحد أو اثنين، فتبدأ الملائكة بإطلاق الخطّة رقم اثنين مثلاً والشروع بتنفيذها على الأرض، وفي العام القادم يتمّ إبلاغها ببدء الخطّة رقم ثلاثة وهكذا.. فليس في ليلة القدر قرارات جديدة أو ما يشبه ذلك، بل هناك انطلاقة مرحلة جديدة من النشاط التكويني التنفيذي تحدّد بمدّة عام بناء على دوام وتكرّر ليلة القدر كلّ سنة كما عليه مشهور الإماميّة، وخلافاً للقول بعدّم تجدّد هذه الليلة كلّ عام وأنّها ليلة واحدة في التاريخ هي التي نزل فيها القرآن الكريم كما يراه بعض علماء أهل السنّة، ففي ليلة القدر تبرز اللوائح لتنفيذها وتتحرّك جيوش الملائكة وقوانين العالم لتطبيقها. وهذا ما ينسجم أيضاً مع بعض الروايات الموجودة عند الإماميّة، والتي تقول بأنّ ليلة القدر تتنزّل فيها الملائكة على المعصوم كلّ عام لإبلاغه بالقرارات المتّخذة لهذا العام، فهي لا تنزل بقرارات اتخذت حديثاً، بل تبلِّغ عن القرارات المتعلّقة بهذا العام والتي يمكن أن تكون قد اتخذت منذ الأزل، وكأنّ المعصوم ـ وفقاً لهذه الروايات ـ لا يعلم قادم الأمور مطلقاً، بل هو يبلَّغ بها عاماً بعد عام.

هذا، وكلامي هنا قرآنيٌّ فقط، وتفصيل البحث في هذه القضية حديثيّاً وقرآنيّاً يحتاج لمجال أوسع، أكتفي هنا بطرح هذه النقطة بنحو الإثارة للتفكير، فإنّها لو صحّت لغيّرت مفهومنا الشعبيّ كلّه عن ليلة القدر. والله العالم 1.

  • 1. المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ حيدر حب الله حفظه الله.