مجموع الأصوات: 110
نشر قبل 17 سنة
القراءات: 15042

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الاسلام و فكرة الزهد

مقال متميز حول فكرة الزهد في الاسلام للعلامة الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية ( رحمه الله ) 1
تعرضت كتب التاريخ و التراجم لسيرة الملوك و الأمراء ، و قادة الجيش ، و لم تتعرض بالذات لحياة الفقراء الكادحين ، و مع ذلك فباستطاعة الباحث أن يتعرف على حياة الجماهير من خلال دراسته لحياة القادة و الحكام ، لأن حياة هؤلاء و تاريخهم يرتبط ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية و تاريخ المجتمع على ، أن المؤرخين و أصحاب السير قد ترجموا لعدد كبير من الشعراء و رجال الدين و علماء اللغة الذين عانوا آلام البؤس و الشقاء ، ترجموا لهم لأنهم من أهل الذكاء و المعرفة ، لا لأنهم من ذوي الفقر و الفاقة ، فمن هؤلاء :
عبد الوهاب بن علي المالكي كان بقية ذوي الفضل ، و قد ضاق به العيش في بغداد فهجرها ، و لدى خروجه شيَّعه خلق كثير من سائر الطوائف ، فقال لهم : لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية .
و منهم الاخفش الصغير علي بن سليمان النحوي عاش أياماً على اللفت النيء حتى انتهت به الحال إلى أن مات جوعاً .
و منهم الخليل بن أحمد النحوي العروضي الشهير كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين ، و الخص خيمة من القصب .
و منهم أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد اللّه ، كان شيخ الشافعية في عصره و بلغ من العمر مائة و ستين سنة صحيح العقل و الفهم و الأعضاء ، يفتي و يقضي و يدرس ، كان له و لأخيه عمامة و قميص ، إذا لبسها هذا جلس الآخر في البيت و إذا أراد غسلها جلسا فيه معاً ، و في ذلك قال الشاعر :
قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم *** لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل
و منهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد اللّه ، كان ينسج و يأكل من كسب يده ، و منهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني ، قيل في سيرته : انه إمام المذهب على الإطلاق و شيخ الإسلام و المسلمين قاطبة ، و كان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه ، كان هذا الشيخ يشتغل حارساً في الليل لبيوت الناس ، و يقرأ و يطالع على ضوء فانوس الحرس .
و منهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم و الفنون ، و قد بلغ به الفقر و الجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها .
و منهم عبد القادر السهروردي كان يبقى اليوم و اليومين لا يذوق الزاد ، و كان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد .
و كان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه و مكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم .
و باع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه ، و يكفي هذا العدد اليسير مثالاً لحياة قادة الفكر و أئمة الدين و اللغة البائسين ، و تمهيداً لبيان فكرة الزهد و أسبابها .
عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين ، و اشتغل شيخ الإسلام و المسلمين حارساً ، و مات الأخفش من الجوع ، عاش هؤلاء و أمثالهم في الحرمان و هم يرون أن الأموال تجبى من العامل و الفلاح و غيرهما في شرق الأرض و غربها ليبذرها الخونة و المقامرون على الحرام و الفسوق ، و يمتلكون بها الدور الشاهقة و الضياع الواسعة ، و كان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط و الاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم ، و الذين لم نأت لهم على ذكر ، و عوضاً عن أن يحملهم هذا الاستياء على النضال و جهاد القائمين على الظلم ، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الإصلاح ، و تبدل الحال و تولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا ، و التهوين من شأنها . و كان لهذه الفكرة خطورتها و تأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين ، فكتب علماؤهم في الزهد و أطالوا ، و دعوا إليه في المساجد و المحافل ، و ألبسوه ثوب الدين و القداسة ، و الزهد بمعنى الإعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم ، و لا في السنة النبوية ، و إنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم و فاقتهم ، إن أفكار الإنسان و رغباته لا تأتيه عفواً ، و لا تهبط عليه من السماء ، و إنما تتولد من واقع حياته ، و الظروف التي تحيط به .
و لولا وجود الفقراء المعذبين في الأرض ، لولا الطمع و ظلم الإنسان للإنسان ، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي ، و المساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد ، لما عرف الناس معنى الزهد ، و لما كان للفظه في قواميس اللغة عين و لا أثر ، و يكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام علي عليه السلام ، و أبي ذر ، و غيرهما من أنصار الحق ، و دعاة العدالة .
قال الإمام : هيهات أن يغلبني هواي ، و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، و لعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، و لا عهد له في الشبع .
و قال أبو ذر : عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعُمُّ كل معوز .
أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة و طيباتها لا رغبة عنها ، بل احتجاجاً على من استأثر بها ، و احتكرها لنفسه دون سواه . أرادوا أن تكون الحياة و خيراتها للجميع ، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة ، أرادوا القضاء على الفوارق و الامتيازات ليعيش الجميع في أمن و سلام ، فلا تكالب و لا تطاحن على أرزاق الشعوب ، و لا حقد و لا حسد على الرغيف .
زَهَد الإمامُ في لذائذ العيش ، و هو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع ، و فيهم جائع واحد .
إن الإعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها ، كما فعل الإمام ، إن دل على شيء فإِنما يدل على قيمة الحياة و أهميتها لا على احتقارها و ازدرائها ، و قد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء ، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه و حياته ، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب و موارد ثرواتهم !
أما الآيات و الروايات التي استدل بها بعض الزهاد ، فلا تدل على الترغيب في التقشف و الإعراض عن اللذائذ ، إِنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات ، و الكف عن السلب و النهب ، و الخيانة و الكذب ، على أن يضحي الإنسان بالنفس و المال في سبيل الحق ، و لا يؤثر الخبيث على الطيب .
قال اللّه سبحانه و تعالى : ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 2
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ ... 3
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 4
المُحَرَّم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه و تهاونه بنصيبه من هذا الحق .
و قد جاء في الحديث الشريف : " ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ، و لا الآخرة للدنيا ، و لكن خيركم من أخذ من هذه و هذه - المؤمن القوي خير و أحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف " .
و لا ريب أن الإنسان يقوى بالمادة ، و ما تقدمت الإنسانية إِلا بعد أن كشف العلم عن حقيقتها ، و سلك بها سبيل الخير و العمار ، لا سبيل الشر و الدمار .
و بعد ، فإن الإسلام دين القوة و العمل ، لا دين الرهبانية و الكسل .