مجموع الأصوات: 45
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 1438

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

العلم الإلهي

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 1.

ما هو مفهوم العلم الإلهي؟

هل له حدود؟

ما هي خصائصه؟

قبل كل شيء ينبغي البحث في الظرف الزماني والمكاني الذي نزلت فيه هذه الآية المباركة، وهل لها سبب نزول واضح أم لا؟

كان ينبغي التنويه إلى ذلك من مطلع السورة، خصوصاً بعد ملاحظة أن السبب المذكور شامل للآيات الأولى، لكن تعمّد التأخير يرجع إلى الأثر الواضح لذلك السبب في فهم الخط العام للآيتين هنا.

نقل جمع من المفسرين عن الكلبي ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس أن أوائل هذه السورة إلى نيف وثمانين آية نزلت في وفد نجران، وكانوا ستين راكباً، قدموا على رسول الله ﷺ، وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم.

وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده. فقدموا على رسول الله ﷺ المدينة، ودخلوا مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات، جبب وأردية في جمال رجال بلحرث بن كعب.

يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله ﷺ: ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس، وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ﷺ، فقالت الصحابة: يا رسول الله! هذا في مسجدك؟ فقال رسول الله ﷺ: دعوهم. فصلوا إلى المشرق. فتكلم السيد والعاقب إلى رسول الله ﷺ، فقال لهما رسول الله ﷺ: أسلما، قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما، يمنعكما من الاسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير. قالا: إن لم يكن ولد الله، فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى. فقال لهما النبي ﷺ: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت.

وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شئ ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث. قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا. فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية 2.

وروى ذلك أيضاً السيوطي عن مجموعة أخرى منهم ابن جرير عن ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة وابن جريح، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعبد بن حميد عن قتادة وعن الأزرق بن قيس، وابن المنذر عن ابن جريح، وابن سعد عن الأزرق بن قيس، وآخرين 3.

وقد أشكل صاحب الميزان على ذلك بأن الظاهر نزول السورة كاملة دفعة واحدة، بدليل أن «آياتها ظاهرة الإتساق والانتظام من أولها إلى آخرها، متناسبة آياتها، مرتبطة أغراضها» 4، وهو لا يعترض على أصل الحادثة، وإنما على ربطها بنزول أول السورة، واعتبره مجرد اجتهاد من الرواة 5.

وأما سيد قطب فإشكاله يتجه نحو عدم تناسب التواريخ، نظراً لأن الموضوع المعالَج في السورة وطريقة علاجها له يرجِّح أن الآيات نزلت في السنوات الأولى من الهجرة، بينما وفد نجران من وقائع وأحداث السنة التاسعة من الهجرة 6.

وأضاف في حاشية تفسيره عبارة قال فيها «يذكر الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه القيم «سيرة الرسول: صورة مقتبسة من القرآن الكريم» أنه «يستفاد من الروايات أن هذا الوفد قد قدم إلى المدينة في الربع الأول من الهجرة» ولا أدري إلى أي الروايات استند في تحديد هذا التاريخ. فكل الروايات التي رجعت إليها تحدد العام التاسع أو لا تذكر إلا قصة وفد نجران مع بقية الوفود «ومعروف أن عام الوفود هو العام التاسع».

نعم ذكر ابن كثير في التفسير احتمال أن وفد نجران كان قبل الحديبية 7 ولم يقل علام استند في هذا الاحتمال، ولم يحدد رواية عن السلف يستند إليها في هذا الاحتمال.

وعلى أية حال. فإن احتمال نزول هذ الآيات في وفد نجران متعلق باحتمال أن الوفد قدم قبل الحديبية. فإذا صح هذا صح ذلك. وأما إذا اعتمدنا الروايات الكثيرة عن توقيت قدوم وفد نجران عام الوفود في السنة التاسعة، فإننا نجد أنفسنا مضطرين للفصل بين هذه الآيات والمناسبة التي تذكر الروايات أنها نزلت فيها» 8.

من الواضح أن الآيات من الأولى وحتى العشرين بعد المائة فيها لغة حوار ومجادلة مع أهل الكتاب، ومن الآية مائة وواحد وعشرين حتى مائة وخمسة وسبعين حديث حول واقعة أحد، لذلك فإن القول بنزول السورة جملة واحدة في وقت واحد كما احتمله الميزان غير متَّسِق، لعدم التقارب الزمني بين واقعة أحد وحادثة المباهلة، فأُحُد في السنة الثالثة والمباهلة في السنة التاسعة، ولا يُعقَل أن تكون الوصايا والدروس التي توجهها الآيات على أثر واقعة أحد أُخِّرَتْ إلى السنة التاسعة، كما لا يُعْقَل أن يكون نزول الآيات المتعلقة بالمباهلة قبل حصولها بست سنين، لذا فالأقرب أن تكون السورة نُزِّلَتْ تدريجاً.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى هل يمكن القول بالفصل في التنزيل بين القسم الأول من الآيات، أي المائة والعشرين، بأن تكون الآيات المتعلقة بالمباهلة - من 59 إلى 63 - قد نزلت في السنةالتاسعة، بينما نزل الباقي في السنين الأولى من الهجرة؟.

توجد ملاحظتان ينبغي التأكيد عليهما قبل كل شيء:

ورد في سبب النزول المذكور أن الآيات المتعلقة بوفد نجران نيف وثمانون، إلا أن الموضوع الذي تتحدث عنه هذه الآيات لا ينفصل عن التي بعدها حتى الآية مائة وعشرين، فجميعها حوار مع أهل الكتاب، ولذلك يصعب الفصل بينها ما لم يقم دليل صريح.

لم يُذكَر في سبب النزول الوقتُ الذي نزلت فيه هذه الآيات، وإنما ادعاه الأستاذ محمد عزة، وذكره ابن كثير على سبيل الإحتمال فقط.

لذلك نحن أمام احتمالين، أحدهما نزول الآيات المائة والعشرين دفعة واحدة في السنة التاسعة بحيث يكون جميعُها متعلقاً بحديث المباهلة، والثاني التفصيل بين الآيات الخمس المتعلقة بالمباهلة وبقية الآيات، بأن تكون الأخيرة نزلت في السنوات الأولى من الهجرة، وآيات المباهلة في السنة التاسعة، ومقتضى الإحتمال الثاني حصول حادثتين متشابهتين لوفد نجران، بأن يكونوا قد جاءوا إلى المدينة في السنوات الأولى ودار بينهم وبين النبي الأكرم ﷺ الحوار المذكور من غير اللجوء إلى المباهلة، ثم جاءوا مرة أخرى في السنة التاسعة وتكرر الحوار نفسه بضميمة المباهلة. بينما مقتضى الإحتمال الأول حصول حادثة واحدة فقط في التاسعة التي تم اللجوء فيها إلى المباهلة، وهي سبب نزول الآيات المائة والعشرين.

والظاهر أن الإحتمال الأول هو الأقرب للصحة، إذ لا وجود لنص روائي ولا قرينة تاريخية يدلّان على تكرار الحادثة، بل النص على خلاف ذلك، فقد ورد عن أهل البيت  أخبار صحيحة تحكي ما هو قريب جداً من سبب النزول المذكور عند الحديث عن آيات المباهلة، وذلك يشير إلى أن السبب المذكور سلفاً هو عينه المذكور في كلام أهل البيت ، وغاية ما في الأمر أن الذين رووا ذلك السبب لم يذيِّلوه بالمباهلة إما غفلة أو اشتباهاً، بينما ذكر أهل البيت  السبب مشفوعاً بالمباهلة.

فقد ورد في خبر صحيح عالي الإسناد عن علي بن إبراهيم قال حدثني أبي عن النضر بن سويد عن ابن سنان عن أبي عبد الله : أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله ﷺ، وكان سيدهم الأهتم والعاقب والسيد، وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلوا، فقال أصحاب رسول الله ﷺ: هذا في مسجدك؟!، فقال: دعوهم.

فلما فرغوا دنوا من رسول الله ﷺ فقالوا: إلى ما تدعون؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث، قالوا: فمن أبوه؟، فنزل الوحي على رسول الله ﷺ فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم  أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب وينكح، فسألهم النبي ﷺ، فقالوا: نعم، فقال: فمن أبوه؟ فبهتوا فبقوا ساكتين، فأنزل الله «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون... الآية»، وأما قوله: «فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم...» إلى قوله «فنجعل لعنة الله على الكاذبين» فقال رسول الله ﷺ: فباهلوني فإن كنت صادقاً أنزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً نزلت علي، فقالوا: أنصفت. فتواعدوا للمباهلة.

فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس بنبي، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله فإنه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادق، فلما أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله ﷺ ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فقال النصارى: مَنْ هؤلاء؟، فقيل لهم: هذا ابن عمه ووصيه وختنه علي بن أبي طالب، وهذه بنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين ، فعرفوا وقالوا لرسول الله ﷺ: نعطيك الرضى فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله ﷺ على الجزية وانصرفوا 9.

فهذه الرواية تحكي في الجملة الحادثة نفسها المذكورة في سبب النزول، وواضح أنها متعلقة بالمباهلة، مما يدلل على أن الآيات المائة والعشرين بأجمعها لها سبب نزول واحد وهو المباهلة وما رافقها من حوار بين النبي الأكرم ﷺ ووفد نصارى نجران.

ومن ذلك يتضح أمامنا بأن السورة نزلت تدريجاً، فالآيات المائة والعشرون الأولى نزلت في السنة التاسعة، بينما نزلت الآيات من 121 إلى 175 وربما إلى آخر السورة بعد واقعة أحد، وهذا لعله كان السبب في حصول الخلط والاشتباه عند بعض المفسرين، فوجود آيات متعلقة بواقعة أحد التي حصلت في السنة الثالثة جعل البعض يتصور بأن السورة بأكملها نزلت في ذلك الوقت، بينما الأصح التفصيل بين الآيات في تاريخ النزول بالطريقة التي حققناها 10.

 

  • 1. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 5 و 6، الصفحة: 50.
  • 2. أنظر، مجمع البيان، مصدر سابق، ج2 ص523. وتفسير البغوي، البغوي، ج1 ص276، دار المعرفة - بيروت.
  • 3. الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، ج2 ص37، دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت.
  • 4. الميزان، مصدر سابق، ج3 ص5.
  • 5. المصدر نفسه ص16.
  • 6. في ظلال القرآن، سيد قطب، ج1ص357، دار العلم للطباعة والنشر - جدة، الطبعة الثانية عشرة 1986م.
  • 7. تفسير ابن كثير، أبو الفداء اسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي، ص370، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى 2004م. وللعلم فإن ابن كثير لا يظهر منه الركون إلى هذا الاحتمال، بل لقد نص في موضعين على أن هذا الوفد قدم في السنة التاسعة. أنظر ص346 وص369.
  • 8. المصدر نفسه.
  • 9. تفسير القمي، مصدر سابق، ج1 ص104.
  • 10. المصدر: الموقع الرسمي لسماحة الشيخ فيصل العوامي حفظه الله.