الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

موقف الحسين من معاوية و تحركاته

لقد اتخذ معاوية و غيره من الحاكمين الأمويين من الإسلام طلاء خفيفاً يسترون به نزعاتهم الجاهلية التي كانوا يعملون لإحيائها و تحوير الإسلام إلى مؤسسة تخدم مصالحهم و أهوائهم و كان المجتمع الإسلامي يتململ تحت وطأة الظلم و الاضطهاد الذي عبرت عنه مواقف حجر عن عدي و عمرو بن الحمق الخزاعي و أصحابهما الذين قاوموا ظلم معاوية و أنصاره، و لكن تلك المقاومة لم تأخذ مداها و لم تضع حداً لتصرفات الحاكمين و جورهم بل سرعان ما كانت تهمد أو تموت في مهدها عندما يلاحق أولئك الجزارون طلائعها بقتلهم أو زجهم في السجون و المعتقلات بدون أن يحرك المجتمع ساكنا، و إذا تحرك انسان أغدقوا عليه الأموال و أغروه بالوعود كما حدث لمالك بن هبيرة السكوني الذي غضب لمصرع حجر بن عدي و أصحابه و راح يستعد للثورة و لما علم بتحركه معاوية ارسل إليه معاوية مائة ألف درهم فأخذها و طابت نفسه.
لقد عاصر الحسين (عليه السَّلام) جميع تلك التحركات التي قام بها الأمويون و الحاقدون على الإسلام و مبادئه الإنسانية العادلة، لقد عاصرها منذ أن نشئت مع أبيه و أخيه و أصحابهما الكرام، و ها هو بعد إستشهاد أخيه بجنود العسل التي أعدها معاوية لكل من كان يخشى منه على دولته و أمويته، يقف وحيداً في وجه معاوية و أجهزة حكمه الإرهابي، و يرى بعينيه أولئك الصفوة بقية السيف من شيعة أبيه و أخيه يساقون أفواجا إلى الجلادين و الجزارين في مرج عذراء و قصر الخضراء، و يرى منهج معاوية و حواشيه الذي اعتمدوه للوصول بالأمة إلى هذا المصير الكالح و كيف يطاردون و يضطهدون العشرات و المئات من المسلمين عندما ينكرون ظلماً و عد و أنا على القيم و المقدسات و كرامة الإنسان.
لقد عاصر مع أبيه و أخيه جميع تحركاتهم المعادية للإسلام و بقي وحيداً في ساحة الصراع مع معاوية و أجهزة حكمه الإرهابي المستبد الذي أراد للأمة أن تتحول عن أهدافها و للإسلام أن ينحرف عن مسيرته و رآهم كيف يحورون الإسلام و يزوّرون مبادئه الإنسانية التي جاء بها محمد بن عبد الله رحمة للعالمين، و رأى حملة التخدير على حساب الدين و الكذب على رسول الله و كيف يبيع المسلم نفسه و حياته و حريته و كرامته بحفنة من الدراهم للحاكمين الظالمين و يرضى بحياته على ما فيها من نكد و قسوة و حرمان.
لقد رأى كل ذلك و كان القلق يستبد به و الألم يحز نفسه و قلبه لمصير الرسالة و الإنسانية في ظل هذا التحول الخطير الذي كان الأمويون يعملون على تعميقه و إستئصال الشخصية الإسلامية ليطمئن الحاكمون ان تصرفاتهم لن تثير أي استنكار لدى الجماهير و يختفي من ضمائرهم الشعور بالإثم الذي يدفع المسلم إلى الثورة على الظلم و الظالمين.
لقد استخدم الأمويون لإستئصال الروح الإسلامية و الشخصية الإسلامية بالإضافة إلى الأموال و جميع وسائل الإرهاب، مدرسة الرواة و المحدثين و القصاصين و على رأس هذه المدرسة أبو هريرة و كعب الاحبار و سمرة بن جندب و غيرهم ممن استخدموهم لصنع الأحاديث و أفرزت مصانعهم أل و أنا من الأحاديث نسبت إلى النبي (صلى الله عليه و آله) افتراء و بهتاناً، و من ابرزها و أرضاها لمعاوية و الحزب الأموي ما كان يتضمن القدح في علي و آل علي.
لقد بذل معاوية ما يعادل نصف المليون من الدراهم لسمرة بن جندب ليروي له عن الرسول ان الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ 1 نزلت في علي بن أبي طالب، و أن الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ... 2نزلت في قاتله عبد الرحمن بن ملجم فروى له ما أراد، إلى كثير من أمثال ذلك حتى أصبح تسخير المحدثين لهذه الغاية من السنن المتبعة عند من جاء بعده من الأمويين و العباسيين.
فقد جاء عن هشام بن الحكم انه طلب من شهاب الزهري أو غيره من الرواة ان يروي له عن الرسول أن الآية ﴿ ... الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ 3 نزلت في علي بن أبي طالب فروى له ما أراد و عندما أوعز الحاكمون لأنصارهم بتدوين الحديث دونوا جميع هذه الأنواع من المخترعات و لم يأذنوا لهم بتدوين ما جاء عن النبي في فضله، فقد جاء في المجلد الثاني من ضحى الإسلام لأحمد امين ان خالد بن عبد الله القسري طلب من الزهري ان يكتب سيرة النبي، فقال له الزهري: ان سيرة النبي يمر بها الكثير من سيرة علي و مواقفه الخالدة في خدمة الإسلام فما أصنع بهذا النوع من المرويات ؟ فلم يأذن له بتدوين شيء يشير إلى فضل علي و تمجيده إلا إذا تضمن قدحا أو ذما.
و من تلك الألوان التي افرزتها تلك المدرسة ما يرجع إلى تمجيد بني أمية و بلاد الشام و ما إلى ذلك مما يتعلق بعثمان بن عفان و معاوية بن هند و اعطائهما صفات القديسين كالذي رواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنه قال: ان الله ائتمن على وصيه ثلاثة انا و جبرائيل و معاوية، و أنه قال: إذا لقيتم بعدي اختلافاً فعليكم بالأمين عثمان بن عفان.
و من تلك المرويات ما يرجع إلى تخدير المسلمين عن الثورة و التحرك ضد الحاكمين مهماً بالغوا في الجور و الظلم و أن مقاومتهم لإستبدالهم بغيرهم حتى و لو كان البديل من أعدل الناس و أحرصهم على مصالح المسلمين و على مسيرة الإسلام لا يقرها الإسلام.
فمن ذلك ما رواه أصحاب الصحاح عن النبي (صلى الله عليه و آله) انه كان يقول: من رأى من اميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فان من فارق الجماعة شبرا و مات مات ميتة جاهلية، و أنه كان يقول: ستكون بعدي هنات و هنات فمن اراد أن يفرق أمر هذه الأمة و هي جمع فاضربوه بالسيف كائنا من كان و من خرج على إمام زمانه فاقتلوه، إلى غير ذلك مما رواه البخاري في صحيحه و غيره من محدثي السنة في مجاميعهم.
و إلى جانب ما انتجته مصانع أبي هريرة و غيره من تلك العصابة اخترع الحاكمون لونا آخر من ألوان التضليل الديني و هو تأسيس الفرق الدينية التي تقدم للجماهير تفسيرات للدين تخدم تسلط الحاكمين و تبرر جورهم و ظلمهم كفرقتي المرجئة و المجبرة اللتين ظهرتا في عهد معاوية و ساعد على دعمهما و انتشارهما حتى اصبحتا من أوفر المذاهب حظا لدى الحاكمين و فراعنة العصور، هذا بالإضافة إلى عدالة الصحابة التي لا تقل خطراً عن فكرتي الإرجاء و الجبر و التي تجعله و اباه و المروانيين الاوزاغ من الكذبة و المجرمين في صفوف الصلحاء و لا تسمح لا حد أن ينالهم بسوء.
لقد رافق أبو عبد الله كل ذلك و كان يتلوى و يتألم للمصير السيء الذي ينتظر الإسلام من معاوية و غيره من القردة الذين سينزون على منبر الرسول و يستخدمون الإسلام لجاهليتهم الأولى، و كانت مبررات الثورة على الحكم الأموي موفورة في عهد معاوية و الحسين يدركها و يعرفها و أحيانا كان يعبر عنها في المجالس و المجتمعات و المناسبات و يصارح بها معاوية في الرسائل التي كان يوجهها إليه بين الحين و الأخر.
و جاء في بعض اجوبة رسائله إليه: و هيهات هيهات يا معاوية لقد فضح الصبح الدجى و بهرت الشمس أنوار السراج لقد فضلت حتى افرطت و استأثرت حتى اجحفت و منعت حتى بخلت و صبرت حتى جاوزت ولم تبذل لذي حق حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان منك حظة الاوفر و نصيبه الأكبر.
و في رسالة ثانية وجهها إليه جاء فيها: أولست المدعي لزياد بن سمية المولود على فراش عبيد من ثقيف و زعمت انه إبن ابيك و رسول الله يقول: الولد للفراش و للعاهر الحجر فتركت سنة رسول الله و اتبعت أهواءك بغير هدى من الله، و لم تكتف بذلك حتى سلطته على المسلمين يقطع أيديهم وأرجلهم و يسمل عيونهم و يصلبهم على جذوع النخل حتى كأنك لست من هذه الأمة و ليسوا منك.
أولست يا معاوية صاحب الحضرميين الذين كتب فيهما إبن سمية انهما على دين علي (عليه السَّلام) فكتبت إليه ان يقتل كل من كان على دين علي فقتلهم و مثَّل فيهم بأمرك و دين علي هو دين إبن عمه الذي كان يضربك و يضرب عليه آباءك و به جلست مجلسك الذي أنت عليه، و قلت فيما قلت: انظر لنفسك و لأمة جدك و لدينك أن تشق عصا هذه الأمة و أن تردهم إلى فتنة، و أني يا معاوية لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها و لا أعظم نظرا لنفسي و لديني و لأمة جدي من ان أجاهدك.
و كان معاوية يتمنى عليه ان يخفف من أسلوبه معه و يتوسل لذلك و بالشدة حينا و باللين و المغريات حيناً آخر و بخاصة عندما عزم على البيعة لولده من بعده، لأن سكوته يؤمن له انقياد الامة و يمكنه من ممارسة سياسته بدون خشية و لكن الشدة لم تكن لتحد من نشاطه و لا المغريات لتخدعه عما يؤمن به و يعمل من أجله لأن دوره الرسالي يفرض عليه ان لا يسكت و لا يهادن و أن يثور راجياً ان تهز ثورته ضمير الأمة التي انحنت و خضعت لجبروت السلطة زمنا طويلاً، و لأن المجتمع الذي خضع طويلاً لجبروت الأمويين و انحنى لكبريائهم لم يعد يصلحه الكلام و لا بد له من شيء جديد يهزه و يحركه.
هذا الواقع الكالح الذي كانت تتخبط فيه الأمة وضع الحسين (عليه السَّلام) وجهاً لوجه امام دوره التاريخي و رسالته النضالية و فرض عليه أن يثور من أجل وكامة الأمة و انقاذ شريعة جده من اعدائها الألداء عندما يجد ان ثورته ستعطي ثمارها المرجوة و أن شهادته ستقضّ مضاجع الظالمين و الطغاة المستبدين و تبقى المثل الغني بالعطاء لكل ثائر على الظلم و الجور و الطغيان في شرق الأرض و غربها 4.

 

لمزيد من المعلومات يمكنكم مراجعة الروابط التالية: