الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نصرة الحق و عدم الحياد

في ضرورة اتخاذ الإنسان للموقف الشرعي الصحيح وهو لزوم الحق و صف الحق و جبهة الحق و الانحياز لها، و رفض صف و جبهة الباطل روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «خَذَلُوا الْحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ»1 و قوله عليه السلام «لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ وَ لَمْ يَخْذُلَا الْبَاطِلَ»2.
و نصرة الحق بمعنى مؤازرة أو مساندة أو مساعدة أو تأييد أو دعم الحق، و كل ما من شأنه تقوية الحق و جبهة الحق، و خذلان الحق هو عدم ذلك كله -من المؤازرة و المساندة و المساعدة و التأييد و الدعم-، و كل ما من شأنه تضعيف الحق من توهين و تهويل و غيره.

و في الحروب و القتال و الصراعات، جبهتان تتقابلان أو تتقاتلان، أحداهما على الحق و الأخرى على الباطل، الأشخاص والأطراف الأخرى إما:
1- أن تنصر الحق، و تحارب الباطل أو تخذل الباطل.
2- و إما أن تنصر الباطل، و تحارب و تخذل الحق.
3- أو تخذل الحق و لا تنصر الباطل ، وهو ما يعبر عنه اليوم بالحياد و عدم الانحياز.
و يمكن تصور حالة رابعة وهي:
4- حالة تصارع جهتين أو جبهتين باطلتين.

و المطلوب اتخاذ موقف نصرة الحق دائما، و مجابهة و محاربة الباطل دائما، و الحكمتان و إن كانا بصيغة الخبر إلا أنّ روحهما الأمر و النهي، الأمر بلزوم الحق و نصرته، و النهي عن لزوم الباطل، أي انصروا الحق و اخذلوا الباطل.

و المعنى في كلامه عليه السلام «خَذَلُوا الْحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ» أي خذلوا أمير المؤمنين و هو الحق بعدم القتال معه و نصرته، و لم يحاربوا مع معاوية، و معاوية باطل.
و هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في الذين اعتزلوا القتال معه، منهم سعد بن أبي وقاص، و عبد الله بن عمر، و أسامة بن زيد، و محمد بن مسلمة، و أنس بن مالك، و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وجماعة غيرهم.

و الكلام «خَذَلُوا الْحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ» يشتمل على الذم و التنديد و التقبيح لهؤلاء الذين خذلوا الحق و لم ينصروا الباطل، و الحياة موقف، و من لا موقف له لا مبدأ له، و هؤلاء تهيأت لهم الأسباب الكافية الوافية لمناصرة الحق وخذلان الباطل، ومع هذا تجاهلوا و امتنعوا عصيانا.
و الدين يدعوهم و يلزمهم بالقتال مع أمير المؤمنين ضد الباطل، ولا مجال هنا للاعتزال أو عدم الانحياز أو للصمت أو بشعار و بتعبير «النأي بالنفس» أو السكوت، و الرواية عن النبي صلى الله عليه و آله «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ إِنِ اِسْتَطَاعَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، فَحَسْبُهُ أَنْ يَعْلَمَ اَللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لِذَلِكَ كَارِهٌ»3.

و أمير المؤمنين عليه السلام مع الحق دائما و روايات المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله واضحة «عَلِيٌّ مَعَ اَلْحَقِّ وَ اَلْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدُورُ حَيْثُ مَا دَارَ»4.
و «عَلِيٌّ مَعَ اَلْحَقِّ وَ اَلْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ»5.
فعلي عليه السلام الحق، و جبهته جبهة الحق، و معسكره معسكر الحقّ،  كما أكدّ رسول الله في عدة مواطن، ومن يحاربه يكون على باطل، ومنها قول رسول الله(ص) «يَا عَمَّارُ إِنْ رَأَيْتَ عَلِيّاً قَدْ سَلَكَ وَادِياً وَ سَلَكَ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِياً فَاسْلُكْ مَعَ عَلِيٍّ»6.

فلا مجال للتذرع بالحذر و الاحتياط مع جهة و جبهة أمير المؤمنين إذ هو الحق و الإيمان، و تقابله جبهة الباطل و النفاق، و كان هذا واضحا غير خافيا، إنّما الخذلان لعدم الإيمان الكامل و عدم البصيرة، أو توهم حصول منافع أو مصالح شخصية أو فئوية لا لعدم التشخيص.

و الموقف أو اللاموقف أو الموقف القويّ أو الضعيف أو المتردد أو الحائر أو المتخاذل كله يتعلق بإيمان و تقوى و وعي و بصيرة و قوة صاحبه، شخص أو جهة أو مجموعة أو سلطة بلد، و لكن الموقف الصحيح هو الوقوف بجانب الحق ضد الباطل أي نصرة الحق و خذلان الباطل.

و ذكرت مناسبة الحكمة «لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ وَ لَمْ يَخْذُلَا الْبَاطِلَ» حيث قِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ أتَى أمير المؤمنين عليه السلام فَقَالَ لَهُ - أَ تَرَانِي أَظُنُّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ؟ فَقَالَ عليه السلام يَا حَارِثُ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ - إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أتَاَهُ - وَلَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أتَاَهُ - فَقَالَ الْحَارِثُ - فَإِنِّي أَعْتَزِلُ مَعَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - فَقَالَ عليه السلام إِنَّ سَعْداً وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ - وَلَمْ يَخْذُلَا الْبَاطِلَ»7، فالمطلوب ابتداء معرفة الحق و تأييده و نصرته و مؤازرته، و معرفة الباطل و محاربته و خذلانه.

وفي رواية «إِنَّ رَجُلاً قَدِمَ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقَالَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُحِبُّكَ وَ أُحِبُّ فُلاَناً وَ سَمَّى بَعْضَ أَعْدَائِهِ، فَقَالَ عليه السلام أَمَّا اَلْآنَ فَأَنْتَ أَعْوَرُ، فَإِمَّا أَنْ تَعْمَى وَ إِمَّا أَنْ تُبْصِرُ»8. فالمطلوب معرفة و تشخيص الحق و الباطل، و نصرة الحق و محاربة الباطل دائما في كل زمان و مكان، أما محبة الحق و الباطل في نفس الوقت فذلك يعني عدم القدرة على التشخيص، أو عدم القدرة على اتخاذ الموقف الصحيح بالوقوف مع الحق.

و قد يتذرع الإنسان بالحياد كاذبا و في نفسه انحيازا لأحد الأطراف عمليا أو قلبيا، و هذا كان في زمن الإمام عليه السلام، و كمثال له أبو موسى الأشعري (عبد الله بن قيس) فلم يشارك في معركة صفين فلما دُفع للتحكيم و ما بعد التحكيم -و لم يكن ذو حنكة و حكمة و بصيرة- ظهر وضعه و بان انحيازه، و قال أمير المؤمنين عليه السلام فيه في أحدى خطبه و قد تحدث في شأن الحكمين و ذم أهل الشام «وَ إِنَّمَا عَهْدُكُمْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِالْأَمْسِ يَقُولُ إِنَّهَا فِتْنَةٌ، فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَ شِيمُوا سُيُوفَكُمْ، فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ، وَ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَةُ»9.

و ليس حالة الحياد و عدم الانحياز هي ميزة إيجابية حتى يُتمسك  و يُتشبث بها حينما تدور الحرب بين جبهة الحق و جبهة الباطل، بل وحتى في زمن الصلح و السلام، و في أزمنة اللاحرب و اللاسلم، أو في فترة الحروب الباردة، ففي كل ذلك ينبغي الوقوف مع جبهة الحق، و في أضعف أحوالها بالقلب فـ «إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَ السُّخْطُ»10.

و أحد مشاكل العالم التي تتكرر في الأزمنة هي في حالة الحياد و التفرج و خذلان الحق، و بسببها يتقوى الباطل و تنشب الحروب و الفتن ولو أنّ النّاس نصروا الحق و خذلوا الباطل بصدق و جدّ لما كثرت الفتن و المصائب و اتسعت رقعة الباطل، كان هذا في عصر الإمام عليه السلام و بقية العصور.
و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر لابد له من الاصطفاف مع الحق و جبهة الحق و يناصرها، و إنّه مسؤول أمام الله سبحانه و تعالى.

و  في الدّعاء عن الإمام الصادق عليه السلام 11.
اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ، وَ أَرِنِي اَلْحَقَّ حَقّاً حَتَّى أَتَّبِعَهُ، وَ أَرِنِي اَلْبَاطِلَ بَاطِلاً حَتَّى أَجْتَنِبَهُ، وَ لاَ تَجْعَلْهُ عَلَيَّ مُتَشَابِهاً فَأَتَّبِعَ هَوَايَ بِغَيْرِ هُدًى مِنْكَ، وَ اِجْعَلْ هَوَايَ تَبَعاً لِرِضَاكَ وَ طَاعَتِكَ، وَ خُذْ لِنَفْسِكَ رِضَاهَا مِنْ نَفْسِي، وَ اِهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

  • 1. نهج البلاغة-حكمة 18.
  • 2. نهج البلاغة-الحكمة 262.
  • 3. التفسير العسکری (ع)،ج1ص480.
  • 4. الفصول المختارة، ج1، ص339، ج1، ص211.
  • 5. بحار الأنوار،ج38ص39.
  • 6. بحار الأنوار،ج38ص38.
  • 7. نهج البلاغة-حكمة262.
  • 8. بحار الأنوار،ج27ص٥٨.
  • 9. نهج البلاغة-خطبة238.
  • 10. نهج البلاغة، خطبة 201.
  • 11. المصباح للكفعمي،ج1ص42.