الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

وهكذا بُعث النبي بالرسالة

العالم في ذلك الوقت أحوج ما يكون إلى رسالة، وإلى رسول.

فهذي عربٌ تَئِدُ البنات وتقول: نِعْمَ الصهرُ القبر. وتُكثر الحرب، وتحسب أنها مفخرة للإنسان. وتؤمن بالخرافات: بالكهّان والعرّافين، وتعبد الأصنام، وقد شاع فيها اً وتُستثمر قواهم استثماراً. وهذه سائر مناطق الأرض في مملكة الروم، وفي إمبراطورية الفرس، شاع فيها الفساد والعدوان، وكثرت فيها الفواحش والموبالظلمُ، فهناك طائفة من المستغلين الذين لا يعرفون للطمع حدوداً، ولا للاستغلال قيوداً، وهناك طائفة من الكادحين الذين تُستنزف جهودهم استنزافقات.

وهؤلاء حكماء العرب الذين يطَّلعون على الكتب السماوية مثل: ورقة بن نوفل وعبد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وغيرهم، يبشِّرون بنبيٍّ يُبعث، ويُنقذ الإنسانية من هذه الهاوية السحيقة.

وهؤلاء يهود يثرب يتطاولون على العرب بنبيٍّ يُبعث فيهم، ويأتي بكتاب عظيم، ويخضع لدعوته العالم، فيصبحون أعزاء في الحياة.

وهؤلاء الكهنة والعرّافون لايزالون ينتظرون النبيّ الذي يكون خاتم النبيين، وسيَّدهم.

فمن هو هذا النبيُّ، ومتى يُبعث؟؟.
هنا في بيت خديجة- بمكة وفي أرض الحجاز- يُعرف رجل لم يشترك في باطل قط، ولم يعزف عن حق قط، ولم يَعرف الإثم جنابه ولا غاب الخير والصلاح عن رحابه.

إنَّ هذا الرجل تجتمع فيه جميع مؤهلات الرسالة، وكل ما ذكر في الكتب من علائمها؛ فهو من أعرق العرب فخراً ومجداً، ومن أسمى أُسَر العرب شرفاً وكَرماً، وهو أحسن الناس خُلقاً، وأفضلهم عملًا، وأقربهم إلى الحق وابعدهم عن الباطل.

وقد حدث مرات عديدة أن فقدته مكة فَوُجِدَ في غار حِراء يعبد الله ويطيعه، ويمارس نُسكاً خاصة لايعرفها أهل مكة.

ففي الشمال الشرقي من مكة يرتفع جبل النور، وفيه غارٌ أعتاد النبيّ صلى الله عليه واله أن يظلّ فيه أياماً يواصل فيها عبادةً مجهولة عند الناس.

وذات يوم يروح محمدٌ صلى الله عليه واله إلى حِراء فيرى كلَّ شيء قد تبدّل. فإن روحانية جديدة تشمل كيانه، وتستوعب شعوره، وإذا به يرى السماء قد فتحت أبوابها، والمَلَك على أرجائها، وجبرائيل يهبط إليه ويقول له: اقرأ .. فيقول له النبيّ صلى الله عليه واله: ما أقرأ؟

فقال له جبرائيل عليه السلام: ﴿ ... اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 1.

وكان هذا الحادث في السابع والعشرين من شهر رجب حيث يحتفل المسلمون بعيد (المبعث النبويّ) باعتباره بدْءَ حياة الخير والسعادة للإنسان على وجه الأرض.
وهكذا بُعث النبي بالرسالة، وابتدأت مرحلة جديدة من حياته الكريمة، حيث لم يعد الإنسان الطيب الذي يعمل المعروف فقط، ويؤدي الأمانة ويصدق الحديث، ويُعيل الأقرباء، بل أصبح الآن البشير النذير الذي يحمل على كتفه مسؤولية قيادة الإنسان الى كل خير، وصيانته من كل شر.

كما أنها ابتدأت بالبعثة مرحلة جديدة للجزيرة العربية، بل للعالم كله. فسوف لا يبقى العالم يسوده الظلم والظلام، والشر والطغيان، بل ستفتح فيه أبواب الخير التي تنتهي إلى سيادة العدل والنور والخير والمعروف.

ورجع النبي إلى مكة فبلَّغ خديجة ما جرى له، وقصَّ عليها القصة فآمنت به، كما أنه حدَّث بها ابن عمه عليًّا- وهو فتى مراهق كان النبي قد تكفَّل تربيته- فآمن ثم آمن كذلك جعفر أخو علي. ثم أعلن النبي صلى الله عليه واله دعوته حينما نزلت هذه الآية: ﴿ ... يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 2.

وابتدأ بعشيرته حيث نزلت عليه آية أخرى تقول: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ 3.

فجاء النبيُّ صلى الله عليه واله حتى وقف على الصفا فنادى:

«يَا صَبَاحَاهْ.

فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟.

فَقَالَ صلى الله عليه واله:

أَرَأَيْتُكُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ أَوْ مُمْسِيكُمْ مَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي.
قَالُوا بَلَى.

قَالَ صلى الله عليه واله: فَإِنِّي: (نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).

قَالَ أَبُو لَهَبٍ- أحد أعمام النبيّ- تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا جَمِيعاً!» 4.

وخطب فيهم مرةً أخرى وقال صلى الله عليه واله:

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَلَوْ كُنْتُ كَاذِباً لَمَا كَذَبْتُكُمْ، وَالله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ حَقًّا خَاصَّةً وَإِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَالله لَتَمُوتُونَ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُونَ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُونَ كَمَا تَعْمَلُونَ، وَلَتُجْزَوْنَ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَاناً وَ بِالسُّوءِ سُوءاً، وَإِنَّهَا الجَنَّةُ أَبَداً وَالنَّارُ أَبَداً، وَإِنَّكُمْ أَوَّلُ مَنْ أُنْذِرْتُمْ» 5.

. ولكن لم تكن تلبية القوم إلَّا مثل تلبية أبي لهب. فقد أعرضوا عنه، واستهزؤوا به، وسخروا بدعوته. أما هو فقد ظلَّ يواصل دعوته بشتى الأساليب، حتى اشتهر خبرها في مكة وما حولها. وبلغت دعوته بعض النفوس النيِّرة الخيِّرة التي كانت تريد الحق والخير، فآمنت بها، واتَّبعتها. بيد أن أكثرية التابعين لها كانوا من الطبقة الفقيرة التي لم تكن تملك لنفسها نفعاً ولاضرًّا.

أما سادة قريش وأشرافها، أما المستغلون المرابون، أما الذين كانت مصالحهم ترتبط بالأصنام والأزلام، أما ذوو العقول المتحجرة، والنفوس المتصلبة، أما هؤلاء فقد اعتبروا هذه الدعوة شرًّا يجب أن يقاوَم وأن يحاربّ بكل وسيلة.
ولذلك فهؤلاء لم يمتنعوا عن قبول الدعوة فقط، بل أخذوا يسلكون معها مسلكاً معادياً، وساروا في جبهة معاكسة تماماً؛ فكل من أسلمَ قابلوه بالكبت والاضطهاد، وحاولوا ردَّه إلى دينهم الخرافي السخيف. فكم من رجل منشرح الصدر، ومنوَّر القلب اعترف بالنبي صلى الله عليه واله، فتعرّض للتعذيب والتنكيل من جانب قريش؟ وكم من عبد أو أمة آمن بالرسالة فَهُدِرَ دَمُه ومات فداء إيمانه! فهذا عمار قد عذَّبوه ونكَّلوا به. وهذا ياسر أبوه، وهذه سُميّة أمّه قد قتلوهما قتلًا!.

ولم يكن نصيب النبي صلى الله عليه واله من هذا التعذيب والأذى قليلًا. فإنه كان كلما سمع أنَّه عُذِّب أو أوذيَ أحدٌ في سبيل دعوته تألَّم وتأثَّر، ولربما فاضت عيناه بالدموع. وبالإضافة الى ذلك فقد كانت قريش تتعرض للنبي صلى الله عليه واله بالذات، إذ كان أبو لهب يرمي النبيّ بالحجارة، وكانت زوجته تُلقي في طريق الرسول صلى الله عليه واله الأشواك. وكان أبو جهل يحاول إثارة غضبه بإلقاء الفرث على رأسه وهو في الصلاة، أو يرمي القذر في طعامه وهو يأكل؟.

وشجَّ أحد الكفَّار رأسه الشريف بالقوس حتى جرت دماؤه على وجهه الكريم!. وكان بعض آخر منهم يلطِّخون داره بالأقذار، وقد يُلقون بها في فناء داره.

أما السخرية والاستهزاء والتقريع، فقد كانت تمتلئ بها أفواه الكفاّر، ويصبُّونها على النبيِّ صلى الله عليه واله كلَّ حين!.

وكان النبيّ صلى الله عليه واله يقابل كلّ ذلك بصبر حكيم، وحلم قائد، وأناة نبيّ؛ فإذا جاءت إليه طائفة من الكفّار استقبلهم بكل طلاقة، ودعاهم إلى الدِّين بأحسن طريق، فإذا لبّوا دعوته يكون ذلك خيرٌ، وإلَّا فإنه كان يطلب منهم أن يأتوا بمثل ما أتى به من القرآن، ثم يتلو عليهم: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ 6.

ولطالما كانوا يسخرون منه ويستهزئون بدعوته، فكان يعظهم ويدعو الله لهم بالهداية دون أن يغضب أو يثور.

وكان في بعض الأحيان يتجوَّل في العشائر والمجامع، ويدعو الناس إلى ربهم. بيد أن كفار قريش كانوا يعرقلون طريق دعوته بأمرين:

الأول: أنهم كانوا يحذرون الناس من أن يتأثروا بدعوته قائلين لهم: إنَّ الرجل منّا، وهو ساحر ومجنون أو كذّاب. حتى أن الناس كانوا يضعون القطن في آذانهم لكيلا يسمعوا قول النبي صلى الله عليه واله.

الثاني: أنه كان يسير خلفه رجل منهم ويصيح: إنه كذاب فلا يُسمع قولُه، ولا تُلَبَّى دعوتُه.

وعجز كفارُ قريش عن أن يمنعوا سير الدعوة الحثيث واشتهارها بهذه المعارضات. ففكّروا في انتهاج مسلك آخر في منع الناس عن الإسلام، فجاؤوا إلى النبيِّ صلى الله عليه واله وقالوا له: «يَا مُحَمَّدُ! شَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَسَفِهْتَ الْأَحْلَامَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ. فَإِنْ طَلَبْتَ مَالًا أَعْطَيْنَاكَ، أَوِ الشَّرَفَ سَوَّدْنَاكَ، أَوْ كَانَ بِكَ عِلَّةٌ دَاوَيْنَاكَ!.

فَقَالَ صلى الله عليه واله: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ بَعَثَنِي اللهُ إِلَيْكُمْ رَسُولًا وَأَنْزَلَ كِتَاباً، فَإِنْ قَبِلْتُمْ مَا جِئْتُ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ أَصْبِرُ) ﴿ ... حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ... 7 8.

وفكروا هذه المرة بأن يستأصلوا الشجرة الطيبة من أصلها وأن يغتالوا النبيَّ صلى الله عليه واله نفسه، بيد أنَّه كان يومئذ يأوي إلى ركن شديد، وسندٍ قويّ، لم يقتدر الكفار أن يأتوا عليه، وهو عمُّه وناصره أبو طالب سيد قريش وشيخ بني هاشم. فحاولوا أوّل الأمر إغراء أبي طالب فقالوا له: «إننا نعطيك ولداً وسيماً من أبنائنا ونأخذ محمداً ونقتله.

فقال: ما انصفتموني. آخُذ ولدكم فأُطعمه وأسقيه، وتأخذون ولدي فتقتلونه. فقالوا له: إنَّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا. فإما أن تكفه عنّا، وإمّا أن تخلِّي بيننا وبينه فنكفيكه».

لكن أبا طالب الذي لم يشكَّ في صدق مقالة ابن أخيه والرسول المبعوث إليه، ردّهم ولم يقبل أيَّ واحد من اقتراحاتهم؛ وخاطب النبيَّ صلى الله عليه واله قائلًا: «أُدع إلى ربّك. فإني لن أتخلَّى عنك أبداً».

وحينما رأت قريش أن أبا طالب لن يتخلى عن النبي، دبّرت له خطة أخرى، حيث أجمعت أمرها على مقاطعة النبيِّ وكلّ من يؤازره من بني هاشم. وكتبوا صحيفة بشأن هذا القرار، ومنعوا الناس من أن يبيعوا شيئاً إلى بني هاشم. فجمع أبو طالب بني هاشم وجعلهم في شِعْبٍ كان له في أطراف مكة، وبقوا هناك ثلاث سنين في أشدّ ما يكون من سوء العيش، وأكثر ما يكون من الخوف والقلق، حتى أن أبا طالب كان يُبدِّل فراش النبي صلى الله عليه واله في كل ليلة مرات خوفاً على حياته الكريمة.

وشاء الله أن تنقضي مدة هذا النفي فأمر بالأرضة (وهي دابة صغيرة) أن تأكل الخطوط الملعونة التي رُسمت على الصحيفة. فأكلتها، وأَلْهَم نبيَّه بشأن ذلك، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه واله أبا طالب عليه السلام، وهو بدوره ذهب إلى الكفار وحدَّثهم بذلك. وقال: إن ذلك علامة صدق ابن أخي في ادّعائه الرسالة، وكذبكم في إنكاركم أمره. فجعلوا الاطلاع على الصحيفة حكماً بينهم فإن كانت الصحيفة كما أخبر الرسول صلى الله عليه واله أخرجوهم من المنفى، وإن لم تكن فإنهم ماكثون فيه.

وحينما اطَّلعوا عليها وجدوها كما أخبر الرسول صلى الله عليه واله. فخرج بنو هاشم من المنفى منتصرين. وتمَّ بذلك عهد كان من أشد العهود على النبيِّ وآله، وأصعبها جميعاً.

وإنّ الضراء التي مست الأسرة الهاشمية في منفاها بِشِعْب أبي طالب كانت شديدة للغاية. ولذلك فإن خسارتها كانت بالغة وكبيرة أيضاً، حيث نتج عن الحصار الاقتصادي والاجتماعي على بني هاشم موت خديجة زوجة النبي صلى الله عليه واله، وموت أبي طالب عمه وكفيله.

لقد كانت خديجة عليها السلام شريكة النبيِّ صلى الله عليه واله في كلّ آلامه وآماله، والمسلّية له فيما أصابه من أذى، بل كانت المُعينة له على مكاره قريش، كما كان أبو طالب حامي النبي صلى الله عليه واله الذي كان قد ألقى بينه وبين أذى قريش حجاباً ثقيلًا.

لقد كان أبو طالب سيّد قريش وشيخ بني هاشم؛ وكان له حق مشروع في الدفاع عن النبيّ محمد صلى الله عليه واله في منطق النظام الاجتماعي السائد في تلك الأيام، حيث إنه كان يعتبر النبيَّ ابناً له. والمرء يمكنه الدفاع عن ولده في ذلك النظام بكل أسلوب وفي جميع الأحوال حتى ولو كان ابنه خارجاً عن طريقة أهل البلاد ودينهم.

فموت أبي طالب وخديجة كان بمثابة هدم حصن حصين ذي ركنين ثابتين بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه واله في تلك الظروف، ولذلك سميت تلك السنة بعام الحزن. وحيث اشتدّ فيه حزن النبيِّ وتأثره بموت حامِيَيهِ والمدافعين عن دعوته ورسالته. وكان ذلك بين العام السابع والثامن من البعثة.

واشتدت الأزمة بالنبي صلى الله عليه واله بعد وفاة أبي طالب؛ لأن قريشاً أجمعت أمرها على سحق المسلمين ومحق الدعوة الإسلامية، فقامت بضغط عنيف على المسلمين، وبأذىً كثير للنبيِّ صلى الله عليه واله، وحاولوا مراتٍ عديدةً قتله إلَّا أنَّ الله منعه منهم. فأخذ النبي صلى الله عليه واله يُعدّ تدابير لهذه الأزمة المحيطة به وبالمسلمين. فبالنسبة إلى المسلمين أمرَهم بالهجرة إلى الحبشة، وقد تمت هذه الخطة بترحيل طائفتين كبيرتين منهم إليها عن طريق البحر، فتخلصوا من شرّ الكفار وكيدهم، وقد آواهم ملك الحبشة، وأكرم وفادتهم.

وأما بالنسبة إليه نفسه صلى الله عليه واله فقد ذهب إلى الطائف- وهي مدينة قريبة من مكة تقطنها ثقيف القبيلة الكبيرة- لعله يستطيع أن يهدي أهلها فيمنعوه من قريش. بيد أن هذه الخطة لم تحظ بنجاح، فقبيلة ثقيف لم تقبل الإسلام، بل سلّطت سفهاءَها وجُهَّالها على النبي صلى الله عليه واله؛ فآذوه شر أذية وأرسلوا إلى مكة ينقلون إلى قريش قصة دعوته لهم إلى الإسلام، فاستعدت قريش له من جديد، فلم يأمن النبي صلى الله عليه واله يومئذ على نفسه من الرجوع إلى مكة بصورة عادية، فاضطرّ إلى أن يراسل بعض سادات قريش ورؤسائها يطلب منهم أن يُجيروه من قريش، فأجاره واحد منهم حتى جاء إلى مكة تحت حمايته.

وعرف النبي صلى الله عليه واله أخيراً أن أهل مكة لا يمكن أن يكونوا الحاملين للرسالة الإسلامية المقدسة إلى الآفاق، لأنَّ دعوته الملحَّة المستمرة التي ظلت فيها زهاء عشر سنوات لم تُجْدِهِ نفعاً أبداً، ولم تُنتج غير إصرارٍ من الكفار وعنادٍ بالغين.

فصمَّم على نشر الدعوة بين سائر القبائل العربية الأخرى، فإذا استطاع أن يهدي قبيلة واحدة ذهب إليها وظلّ ينشر نور الإسلام من خلال أفرادها. فأخذ يدعو الناس في المواسم التي كانت العرب تتدفق فيها على مكة لغرض العبادة أو التجارة، فيذهب إلى القبيلة ويقول لها: «يا بَني فلان: إني رسول الله إليكم، وأنا آمُركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وإن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبيِّن عن الله ما بعثني به».

وكانت قريش ترسل وراءه من يعقّب على كلامه بتحذير العرب من طاعته، وتهجّن دعواه، وكان عمّه أبو لهب يتولى هذه المهمّة في أغلب الأحوال.

أما القبائل العربية فكانت تتعصّب لآلهتها المزعومة، وتُؤْثِرُ البقاء على تقليد الآباء. كما كانت تَحْذَرُ من قريش؛ إذ لو كانت تُسلم لكانت تتعرض لحرب قريش قطعاً، فكانت تردّ النبي ولا تقبل دعواه، وتردُّه إما ردًّا جميلًا أو قبيحاً.

إلَّا أن قبيلة واحدة استجابت إلى دعوة النبي صلى الله عليه واله، تلك كانت القبيلة العربية الساكنة في يثرب، والتي كانت منقسمة إلى طائفتين: الأوس والخزرج، وكانت الحرب بينهما قائمة على أشدها، وكانوا قد ملُّوها.
نعم، استجاب أهل يثرب إلى قول النبي صلى الله عليه واله وقبلوا دعوته. وبذلك أخذ الإسلام ينتشر في المدينة (يثرب) انتشار الضياء بعد ليل طويل.

وتمّت بيعة مسلمي المدينة الثانية مع محمد صلى الله عليه واله في العقبة بمنى في السنة الثانية، وتمت بها الاتفاقية العسكرية بين النبي صلى الله عليه واله وأنصاره من أهل المدينة. وكان اللازم بموجبها على المسلمين من أهل المدينة الدفاع عن النبي صلى الله عليه واله وعن سائر المسلمين من أتباعه بكل ما لديهم من قوى حربية.

وابتدأ النبي صلى الله عليه واله بتنظيم الهجرة الى المدينة؛ فأخذ يُرحِّل أصحابه إليها واحداً بعد آخر على حين غفلة من كفّار قريش.

وحينما سمع الكفّار بذلك قالوا فيما بينهم: إنَّ المسلمين إذا اجتمعوا في المدينة، كَوَّنوا قوةً معارضة تُكَلِّفُنا كثيراً من المال والدم. ففكروا في إعاقة الهجرة بمنع المسلمين ترغيباً أو ترهيباً، بيد أنَّ المسلمين أخذوا يفلتون من أيديهم تحت أجنحة الظلام وفي غياهب الليل. فقال الكفَّار لأنفسهم: إنَّ النبيّ لا يزال بين أيدينا، وليس له منعة عنّا، فلو هاجر إلى المدينة وجمع أنصاره حوله، فهنالك يصبح من الصعب القضاء عليه. فاجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في الأمر، حتى استقر رأيهم على أن يأتوا من كل قبيلة برجل، ثمَّ يهجموا على النبيِّ صلى الله عليه واله هجمةً واحدةً فيقتلوه ويضيع دمه بين قبائل العرب، فلا يستطيع بنو هاشم من أخذ الثأر منهم.

واختاروا من كل عشيرة رجلًا، فجاؤوا وأحاطوا بدار النبيِّ صلى الله عليه واله، ولكن الوحي نزل وأمره بأن يتخذ الليل جملًا مهاجراً إلى المدينة، ثم أوضح له كل شيء من تدابير قريش وخططهم.

فجعل النبي الإمام عليًّا مكانه يبيت في فراشه لكي يظن الكفار أن النبيّ صلى الله عليه واله موجود فيشتغلون به، ويخرج هو من طريق آخر. فبات الإمام على فراش الموت ينتظر المصير الكائن، بينما ذهب النبيّ يلتمس طريقه إلى غار ثور، حيث بقي هناك وقتاً كافياً، ثم سار إلى المدينة على غير الجادة، لكيلا تلحقه قريش أو عملاؤها الذين جعلت لكل من أخذ محمداً منهم مقداراً كثيراً من المال.

وعندما وصل النبيّ صلى الله عليه واله إلى المدينة احتفلت احتفالًا رائعاً بقدومه، وسارت فيها مواكب السرور بأهازيج الفرح.

وتمت بذلك الهجرة النبويَّة التي كانت بداية حياة جديدة للمسلمين، حياة العزة والمنعة، وحياة الدفاع عن حقوقهم، والجهاد لأعدائهم، وحياة التوسع والانطلاق إلى آفاق العالم. وفي الواقع كانت الهجرة بدء تكوين الأمة الإسلامية الموحدة؛ ولذلك اتخذ المسلمون منها بدء تاريخهم الديني، لأنها كانت أهم الأحداث بالنسبة إليهم.

وبقيت في مكة طائفة من المسلمين تَمَّ ترحيلُهم أيضاً بقيادة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، بعد التغلب على صعوبات شديدة. وهناك فكّرت قريش في أساليب أخرى للقضاء على الإسلام والمسلمين بعدما فات وقت الأساليب السابقة.

الأساليب الجديدة كانت توجز في خطتين اتبعتهما قريش الواحدة تلو الأخرى:

الخطة الأولى: كانت بعث رسائل إلى أهل المدينة يريدون فيها منهم تسليم محمد صلى الله عليه واله إليهم مع شيء من الترهيب والترغيب، بيد أن المسلمين هَزِئُوا بهذه الفكرة، وسخروا من أهلها، وبعثوا بقصيدة هجائية إلى قريش بيَّنوا بها جوابهم الصريح بعد أن أثبتوا حقيقة النبي صلى الله عليه واله وحقيقة قريش التي تناوئه.

الخطة الثانية: وضع الحصار الاقتصادي على المدينة حيث كانت لقريش كل التجارة العربية، وكانوا قد أمَّنوا طرق تجارتهم بالتحالف مع القبائل البدوية التي كانت تسكن في طريق الشام وطريق اليمن. فأصدروا إليها بياناً حظروا فيه بيع المواد الغذائية لأهل المدينة، أو الإجازة لمرور القوافل التجارية لأهل المدينة التي ترمي إلى استيراد المواد إليها.

وأما النبي صلى الله عليه واله الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الدفاع عن المدينة، والذي كان يرى أن الحصار الاقتصادي الذي ابْتُلِيَ به أهل المدينة إنما هو لأجله وبسببه؛ فإنه دبَّر خطة دفاع عن هذا الحصار بما سيأتي من أمر غزوة بدر، إلَّا أنه يجب علينا أن نُلقي نظرة عاجلة على حالة أهل المدينة وإمكانيتهم المادية والمعنوية قبل الحديث عنها.

فقد جاء النبي صلى الله عليه واله إلى المدينة فوجد فيها عناصر ثلاثة:

1- المسلمون: وهم يتألفون من أوس وخزرج ومهاجرين، وكل منهم يختلف عن الآخر، فاستطاع النبي صلى الله عليه واله أن يصهرهم في قالب واحد، حتى صاروا إخوة متألفة قلوبهم، متراصَّة صفوفهم، وأصبحوا «أمة واحدة كأسنان المشط .. في التساوي والتعاون».

2- المنافقون: وهم طائفة كبيرة من العرب، أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر. وقد قدر النبي صلى الله عليه واله على أن يشلَّ حركات هذه الطائفة ونشاطاتها باللُّطف حيناً، وبإعطائهم بعض المناصب التي تشغلهم، وبعض المسؤوليات التي تسدّ فراغهم حيناً آخر. واشترك الوحي في تقويمهم بالآيات التي نزلت في المنافقين، وكانت تؤكد على ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... 9.

3- اليهود: الذين كانوا قوة رهيبة يملكون من المال والسلاح والحيلة الشيء الكثير. ولقد وضع النبي صلى الله عليه واله اتفاقيات سياسية وعسكرية معهم، تضمن للفريقين التعايش السلمي والدفاع المشترك عن البلاد وأهلها.

وكانت مسؤوليات الرسول صلى الله عليه واله في المدينة أكثر منها في مكة، وإن كان الضغط هناك أكثر. حيث كان الرسول يريد أن يكوِّن أمة، قبل أن يشيد دولة.

فمسؤولية التبليغ لغير المسلمين، ومسؤولية تهذيب المسلمين، ومسؤولية تطبيق نظم الإسلام، ومسؤولية الدفاع عن المسلمين في الجزيرة العربية التي كان شعارها الحروب والغزوات، ودثارها السيوف والرماح. هذه المسؤوليات كانت بعض ما أخذ النبيُّ صلى الله عليه واله على عاتقه أداءها من المسوؤليات الخطيرة. ففي الوقت نفسه الذي كان النبيُّ صلى الله عليه واله يقود الجيش الإسلامي إلى جبهات القتال كان يوصيهم بأداء الأمانة والوفاء بالعهد ولو مع العدو اللدود. وفي الوقت نفسه الذي كان يُلقِّنُهم دروس التضحية والجهاد للدين، كان يشرح لهم معاني العفو والصفح، وإشاعة السلام وإطابة الكلام.

وفي اللحظة نفسها التي كان يتولَّى دفن الشهداء في أُحُد وقد مُثِّل بهم شرَّ تمثيل فامتلأت قلوب المسلمين حقداً على الكفار وغيظاً وأملًا بالثأر، كان النبي صلى الله عليه واله يتلوا عليهم آيات العفو وتحريم المُثْلَةِ ولو بالكلب العقور.

ومن كل هذا نكتشف مدى خطورة مسؤولية النبيِّ صلى الله عليه واله التي كانت تهدف إلى تكوين الأمة الموحدة، كأفضل وأمجد أمة في الحياة.

وهنا نرجع الى الحصار الاقتصادي الذي ضربه كفّار مكة على المدينة لنعرف ما كان موقف النبيِّ صلى الله عليه واله وكيف فكَّه عنها.

فالخطة التي اتَّبعها النبيُّ صلى الله عليه واله في رد هذا الحصار كان شيئاً مماثلًا؛ فالقوافل التجارية التي كانت تريد أن تسير إلى الشام من مكة كان الواجب عليها أن تقطع المضيق البرّي بين البحر الأحمر والمدينة. فجعل النبيُّ صلى الله عليه واله سَرِيَّة مسلحة لمراقبة هذه المنطقة، وكانت هذه السَّرِيَّة من المهاجرين حيناً ومن الأنصار حيناً آخر، وكانت وظيفة هذه السَّرِيَّة منع القوافل التجارية.

ولكن القوافل هذه كانت قد تعاهدت مع القبائل البدوية في الطريق على أن تمنعها من المهاجمات التي كان يقوم بها قراصنة الصحراء، على أن تُعطي القوافل التجارية لها ضرائب معلومة كل سنة. ولذلك فقد فشلت هذه الخطة مرات عديدة حيث كانت هذه السَّرِيَّة المسلحة تريد التعرض للقوافل، فكانت القبائل البدوية تدافع عنها بحجة المعاهدة التي بينهما.

بيد أن النبي صلى الله عليه واله ذهب الى هذه القبائل البدوية العربية وعقد معها اتفاقية في شأن الأمور الحربية، وبذلك أَمِنَ من دفاعها عن قوافل مكة.
وأرسل النبيّ صلى الله عليه واله طائفة من أصحابه إلى موضع بين مكة والطائف ليترصدوا له قافلة قريش التجارية، فكتب رسالة مختومة وأعطاها قائد هذه الطائفة المدعو ب- (عبد الله بن جحش) وقال له: اذهب في اتّجاه مكة، فإذا سرت يومين فافتح الكتاب واعمل بما فيه. فلما فتحه وجد فيه ما يلي:

إذا نظرت كتابي هذا فامضِ حتى تنزلَ نخلَة بين مكة والطائفة فتَرصد بها قريشاً وتَعلم لنا من أخبارها.

فذهب إلى نخلة ورأى قافلة تجارية تمرُّ بها في طريقها إلى مكة، فاستولى عليها، وأتى بها إلى المدينة بعد أن أسر منها رجلَين وقتل رجلًا وهرب آخر.

والنبيُّ صلى الله عليه واله وإن كان لم يرضَ بفعل هذا القائد إلَّا أنه استفاد من هذا المال في حين كان أحوج ما يكون إليه. كما أنه ربح الموقف بإلقاء الرعب في قلوب الكفار.

وقاد النبيُّ صلى الله عليه واله السَّرِيَّة المسلحة في المرة الثانية، وأخذ يراقب بنفسه الركب التجاري لقريش، وسمع غير مرة بمسيرة قريش للتجارة وخرج إليها، غير أن الركب كان قد فاته ولم يلحق به. ولقد سبق أن قلنا: إن إعاقة مسير قريش للتجارة كان دفاعاً مشروعاً للنبيِّ، باعتباره عملًا مماثلًا لمنع القوافل التجارية عن أهل المدينة؛ وفكًّا للحصار الاقتصادي، وإدانةً لقريش مقابل ما استولوا عليه من أموال المسلمين في مكة ولم يرضوا بإعطائها لهم.

وذات مرةٍ خرج النبيُّ صلى الله عليه واله لهذه الغاية- حيث سمع بركب قرشي للتجارة فخرج إليه ليستولي عليه- فوصل الخبر إلى الركب، فأرسل بخبر ذلك إلى مكة واستنفرهم بأن أموالهم في خطر، والعرب في مكة كانوا يفدون أنفسهم لأموالهم، ويبذلون أرواحهم في سبيل حفظها، فحينما سمعوا بالنبأ، وهو أن محمداً صلى الله عليه واله يتعرض لأموالهم، خرجوا إليه مسرعين نحو المدينة.

وكان أبو سفيان يتولَّى رئاسة القافلة التجارية، فَتَنَكَّبَ بها الطريقَ حتى سيّرها على ساحل البحر الأحمر بعيداً عن النبي صلى الله عليه واله وعن سَرِيَّتِهِ المسلحة، وأنقذها بذلك من سيطرة المسلمين واستيلائهم عليها.

وأما كفّار قريش فإنهم ساروا إلى جهة المدينة. ومع أنهم سمعوا بنجاة القافلة التجارية، فإنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالرجوع إلى مكة إلَّا بعد إبادة المسلمين وكسر شوكتهم.

وكان النبيّ صلى الله عليه واله لا يزال في طريقه إلى مكة- وهو يطلب عير قريش- وقريش في طريقها إلى المدينة تريد إبادة المسلمين، فالتقيا على ماء كان يسمى ب- (بدر) ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه واله قد استعد للحرب، بل كما سبق كان هدفه الاستيلاء على أموال التجارة القرشية، ومع ذلك فإنه رأى رجوعه إلى المدينة انهزاماً، ولم يسمح لنفسه بذلك حتى لا يدبَّ الطمع في قلوب الكفّار بالقضاء على المسلمين.

وكانت هذه أول حرب يخوضها المسلمون، وكانت في السنة الثانية من الهجرة، وكان عدد الكفار يتجاوز تسعمائة وخمسين رجلًا، في حين لم يكن عدد المسلمين يبلغ أكثر من ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، ومع كل ذلك فقد ربحها المسلمون وألحقوا خسارات فادحة بأعدائهم وهزموهم بإذن الله.
لقد كان التكتيك الحربي في الجزيرة العربية لا يعدو عن مقابلة الفرد بالفرد في مشهد ينظر إليه الفريقان، حتى إذا قتل الأبطال، هاجم الفرد، أو الجبهة- الجبهة المعادية- حتى ينهزم أحد الفريقين.

بيد أن النبيَّ صلى الله عليه واله اتبع في حرب بدر طريقة جديدة حيث شكَّل مثلثاتٍ حربيةً فريدةً من نوعها.

وذلك بأن أمر باصطفاف المسلمين على شكل مثلث كبير على شرط أن يكون ظهر كل فرد داخل المثلث- أي إلى سائر أفراد المثلث- ووجهه إلى الخارج- أي إلى الكفار-.

ولقد نصره الله بجنودٍ من الملائكة أنزلهم لِنُصرة نبيَّه صلى الله عليه واله فانهزم الكفّار بعدما قُتل أبطالهم على يد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. وانجلت الحرب عن سبعين قتيلًا من الكفّار أكثرهم من رؤسائهم وأبطالهم، وأربعة عشر شهيداً من المسلمين، ثمانية منهم من الأنصار، وستة من المهاجرين.

وهذه الحرب الدامية فتحت باب الحروب في وجه النبي صلى الله عليه واله، الذي تصدَّى لها ببسالة وصمود، فجعلت قريشاً موتورةً بقتلاها، وطالبة لثاراتها؛ كما جعلت المسلمين مؤمنين بنصر الله لهم وقدرتهم على صد كلِّ هجومٍ مسلَّح من أيِّ طراز كان.

وهذه الحرب دعت قريشاً إلى حبك المؤامرات الكائدة للنبيِّ صلى الله عليه واله. فقد أرسلت ببعض أبطالها إلى المدينة خفية للغدر بالنبي وقتله، بيد أن الله تعالى فضحه، فلما جيء به إلى النبي صلى الله عليه واله وتكلم النبي معه وأخبره بالمؤامرة تفصيلًا أسلم الرجل الذي كان يدعى (عمير بن وهب) وذهب إلى مكة داعياً للإسلام متحمساً نشيطاً.
وهكذا فشلت هذه المؤامرة الماكرة.

ثم قامت قريش بمحاولة فاشلة أخرى، إذ خرجوا وهم مائتا نفر يقودهم أبو سفيان، وأغاروا على المدينة ليلًا فقتلوا رجلَين. فلما لحقهم المسلمون بقيادة النبيّ صلى الله عليه واله ولَّوا هاربين، وخلَّفوا بعض أمتعتهم ليخففوا عن أنفسهم في السير. وتسمى هذه الغزوة ب- (السُّوَيق) حيث إن المسلمين غنموا من السويق ما كان زاداً للكفار.

وأخذ أبو سفيان قيادة قريش هذه المرة، إذ نصب لواء الكفر وحشد تحته خمسة آلاف رجل مقاتل، وزحف نحو المدينة. فلما بلغ جبل أُحُدٍ على بعد كيلو مترات من المدينة، تصدّى له الرسول صلى الله عليه واله بجيش لم يتجاوز عدده ستمائة محارب. ووضع النبيُّ خطة حربية باهرة، إذ اتَّخذ من الجبل ظهراً للجيش، وجعل على ثغور الجبل الذي وراءَه سريّة برئاسة (عبد الله) وأمرهم بألَّا يغادروا موقعهم الحربي الخطير مهما كان الأمر، غَلَبَ المسلمون أو غُلِبوا، ثم أمر المسلمين بالهجوم الموحد على الكفار.

والكفار الذين لم يكونوا يعرفون نظام الهجوم الموحّد لأنهم لم يروه من ذي قبل انهزموا بعد ساعات من الاشتباك الدامي، فاستولى المسلمون على امتعتهم، فرأى أهل الثغور خلف المسلمين فوق جبل أُحُد رأى هؤلاء أن إخوانهم في تقدم باهر وفي جمع الغنائم؛ فنزلوا عن الموقع الخطير واشتركوا في جمع الغنائم.

وكلما ناشدهم قائدهم عبد الله بالبقاء لم يقبلوا منه، وحينما رأى الكفَّار ذلك داروا من خلف الجيش الإسلامي، وهجموا على ما بقي من أصحاب عبد الله- صاحب الثغر- بقيادة خالد بن الوليد وكان في جيش قريش، وقتلوهم وهجموا على المسلمين من ورائهم ونادوا بالكفار المنهزمين ليرجعوا، فأحاط جيش قريش بالجيش الإسلامي، وهرب القسم الأكبر من المسلمين، بيد أن الذين بقوا مع النبيِّ صلى الله عليه واله والإمام علي عليه السلام وطائفة أخرى من المسلمين المخلصين، ربحوا الموقف. وأخيراً قتل الإمام عشرة أفراد من حاملي ألوية الكفار حتى وقع لوائهم وانهزموا راجعين.

وبعد ذلك غنم المسلمون غنائم كثيرة، مع أنهم خسروا خسارات باهظة، مثل قتل حمزة بن عبد المطلب الشجاع البطل والقائد الثالث للقوات الإسلامية بعد النبيِّ صلى الله عليه واله والإمام عليّ عليه السلام، والذي سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه واله ب- (سيِّد الشهداء).

وجمع أبو سفيان فلول جيشه وعسكر في بعض المواقع بين مكة والمدينة. فخرج الرسول صلى الله عليه واله إلى الروحاء مع كل ما لحقه من خسارات الحرب الباهظة، وكل ما أضر باصحابه من متاعبها ومصاعبها. وحينما وصل إليه هابه أبو سفيان وفرَّ هارباً إلى مكة.

وكان خروج النبي هذا كسباً للموقف بعد خسارته، وإرجاعاً لمكانة الجيش الإسلامي في نفوس أعدائه بعد زوالها.

ثم بعد مدة جمع أبو سفيان ألف مقاتل وزحف بهم إلى المدينة، فلما سمع النبيُّ صلى الله عليه واله بخبره خرج حتى بلغ بدراً ولكن الكفار لما سمعوا بذلك ولَّوا هاربين ولم يبقَ من أمر كفار قريش مع النبيِّ إلَّا غزوة واحدة فقط، وهي غزوة الخندق التي اشترك فيها قريش وغيرها.

وقاد هذه الغزوة أبو سفيان بوصفه قائداً للقوات العربية في مكة، حيث جمع قريشاً والأعراب وتحالفوا مع بعض اليهود في المدينة، وجاؤوا إلى إبادة المسلمين.

والحروب التي خاضها المسلمون في حياة النبيِّ صلى الله عليه واله كانت تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

الأول: الذي كان بينهم وبين قريش.

الثاني: الذي كان بينهم وبين اليهود الساكنين في حصون اليهود حول المدينة.

الثالث: الذي كان بينهم وبين سائر الأعراب الذين تصدوا لمنع تقدُّم الإسلام، ووقفوا أمام انتشاره.

وقد اجتمعت الحروب بأنواعها الثلاثة في غزوة الخندق؛ ولذلك سميت ب- (الأحزاب) أيضاً، حيث تحالفت قريش مع (بني سليم) و (أسد) و (فزارة) و (أشجع) و (غطفان) ومع (بني قريظة)، وبعض يهود المدينة؛ تحالفوا جميعاً على محاربة النبيّ صلى الله عليه واله.

وحينئذٍ تَمَّ رأي المسلمين على أن يبقوا في المدينة، ويحفروا بينهم وبين الأحزاب خندقاً عميقاً وعريضاً.

وجاءت الجيوش المعادية كالسيل الهادر يملأ السهل والجبل، فرأوا الخندق فقالوا: هذه حيلة جديدة.

وجاء شجعانهم، وهما: (عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل) واقتحما الخندق حتى توسَّطا بينه وبين المسلمين. فأخذا يطلبان المبارزة، فتقدم الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام إلى أشجع العرب في زمانه عمرو بن عبد ود فقتله. وبموته ساد الرعب في صفوف الكفار.
وتبادل الفريقان المُراماة بالسهام. وبقيت الجيوش الكافرة أكثر من عشرين يوماً، ثم رجعوا على أعقابهم خائبين بعدما كلَّفهم الأمر خسائر معنوية ومادية كثيرة.

وشاع في الجزيرة العربية خبر صمود المسلمين أمام القوى مهما تضاعفت وتجمَّعت. فهذا جيش الإسلام لم يتجاوز عدده ثلاثة آلاف، في حين أن الكفار كانوا عشرة آلاف. ومع ذلك كان النصر للإسلام.

وبغزوة الخندق انتهت السلسلة الكبرى من حروب النبيِّ صلى الله عليه واله مع قريش، ولم يخض النبي بعدها أيَّة معركة، إلَّا فتح مكة التي لم تكن حرباً في الواقع، بل كانت انتصاراً وغلبةً نهائيةً للمسلمين على الكفار.

وبقيت هناك سلسلتان من الحروب الإسلامية:

الأولى: حروب المسلمين مع اليهود.

الثانية: حروبهم مع القبائل العربية الأخرى.

أما حروب المسلمين مع اليهود فَتُوجَزُ بما يلي: اليهود كانوا أحجاراً ناتئة ناشزة وضعت في الجزيرة العربية لترد ما لحقهم من سيوف الملوك والسلاطين. وكانت الأكثرية الساحقة منهم تسكن في المدينة، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة ويهود خيبر، ويهود فدك، ويهود وادي قرن، ويهود تيماء.

فأما بنو قينقاع فقد كانت قبيلة مهنية تستولي على صياغة الجزيرة. وقد ذهبت امرأة من المسلمين عند أحد الصاغة منهم فراودها ليكشف عن وجهها فأبت، فعمد اليهودي إلى طرف ثوب المرأة فعقده إلى ظهرها من حيث لم تعلم المرأة بذلك. فلما قامت انكشفت سوأتها فضحك اليهودي منها، فصاحت تستصرخ المسلمين. فوثب أحد المسلمين وقتل اليهودي، فاجتمع اليهود وقتلوا ذلك المسلم.

ثم احتدم النزاع بين المسلمين واليهود، وجاء النبيُّ صلى الله عليه واله إلى اليهود ينصحهم بالدخول إلى الإسلام وقبول نُظمه المقدسة، فاستهزؤوا به، وطلبوا النزال. فذهب الرسول إلى حصونهم وحاصرهم خمسة عشر يوماً فانتهى إلى الصلح مع النبيِّ بالخروج عن المدينة مع أموالهم وذراريهم وخلَّفوا تركاتهم وأمتعتهم لتكون للمسلمين، ففعلوا ذلك وذهبوا إلى أطراف الشام.

وأما بنو النضير فقد كانت قبيلة ثريّة تُعطي أموالها قرضاً للناس. فذهب النبيُّ صلى الله عليه واله إليها يطلب منها القرض، فأرادوا اغتياله، حيث أصرُّوا عليه بالدخول إلى دورهم فأبى ذلك، واتَّكأ على الحائط فأرادوا إلقاء حجر الدفن على رأسه من فوقه، فتنحى عنه، ورجع إلى المدينة قبل أن يقترض منهم، وأرسل إليهم أن اخرجوا من دياري حيث نقضتم ميثاقي، وقد أجَّلتكم عشرة ايام. فأخبروا النبيَّ صلى الله عليه واله بأنهم لن يخرجوا، فليفعل ما شاء.

فخرج النبي صلى الله عليه واله إليهم، وحاصرهم وهدم مساكنهم فأخذوا يتنقلون من حصن إلى حصن، حتى ضاق عليهم الأمر، فطلبوا من النبيِّ صلى الله عليه واله أن يخرجوا بأثقالهم عن المدينة، فلم يقبل منهم، فخرجوا وخلَّفوا أموالهم غنائم للمسلمين.

أما بنو قريظة فإنهم كانوا حلفاء للأوس، ثم أصبحوا معاهدين مع الرسول صلى الله عليه واله. ولكنهم انضموا إلى الأحزاب في غزوة الخندق، فبعد انتهاء الغزوة بانتصار المسلمين أمر الرسول صلى الله عليه واله الجيش بالمسير إلى بني قريظة، فجاؤوا حتى حاصروهم مدة خمسة وعشرين يوماً، ثم أراد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يقتحم حصونهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه واله.

فأمر بهم فأُوثقوا. ثم جاء إليه بعض الأوس يستشفعونه في أمرهم فقال لهم: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. فاختاروا سيّدهم (سعد بن معاذ) فلما جاء سعد حكم فيهم بحكم التوراة (الكتاب المقدس الذي يتبعونه) بأن يقتل رجالهم، ويسبي نساءهم، فَفُعِلَ ذلك بهم.

وفي السنة السابعة من الهجرة حيث تم صلح الحُديبية فكّر النبيُّ صلى الله عليه واله في محاربة يهود خيبر الذين كانوا يُكثرون الضغط على المسلمين ويعاونون أعداءهم عليهم دائماً. فلما سار إليهم الجيش كان لهم حصون سبعة كلها منيعة أشد ما تكون المنعة. فحاصروا الحصون مدةً مديدة، حتى ضاق اليهود ذرعاً بالحصار، بيد أنهم قاوموا حتى فتح المسلمون- تحت قيادة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام- حصونهم واحداً تلو الآخر، وقتل الإمامُ أشجعَ أبطالهم (مرحباً)، وقلع الباب الكبير الذي كان يعجز عنه أربعون فارساً ورمى به بعيداً. وانتهت المعركة بقتل مائة من اليهود، واستشهاد سبعة عشر من المسلمين. وقد غنم المسملون الشيء الكثير من المال والسلاح والأسرى.

وبعد هذه الغزوة لم يبق لليهود شأن يذكر في الجزيرة العربية فقد أصبحوا- بعدها- عبيداً في حين كانوا قبلها أسياداً.

ولذلك فإن يهود فدك ويهود تيماء رضوا بأن تكون أراضيهم للرسول صلى الله عليه واله ويعملوا فيها على أن تكون الغلة بينهما نصفين.
وكانت طائفة من اليهود في وادي قرن لم يستسلموا للنبيّ صلى الله عليه واله فذهب الرسول إليهم، ونازلهم وحاربهم حتى قبلوا أن يكونوا مثل إخوانهم.

أما حروبهم مع سائر العرب فهي كما يلي:

1- بنو سليم ذهب إليهم الرسول صلى الله عليه واله بعد تجمعهم لمحاربته في موضع كان يسمى ب- (الكدر) ولكنهم تفرّقوا خوفاً منه صلى الله عليه واله.

2- (بنو ثعلبة) و (محارب) اجتمعوا تحت قيادة رجل كان يدعى ب- (دعثور) في واحة عطفان في أطراف نجد، فرحل إليهم النبي صلى الله عليه واله وقبل أن يحاربهم اتَّفق أنه صلى الله عليه واله اضطجع على تلّ فعرف بذلك دعثور قائد الجبهة المعادية فجاء إليه، ووقف على رأسه شاهراً سفيه وقال: من يمنعك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه واله: «الله».

وفيما أراد دعثور إنزال سيفه دفعه جبرائيل فوقع بجانب التل، فوثب النبيُّ صلى الله عليه واله وأخذ سيفه ووقف عليه وقال: من يمنعك مني؟. فقال: عفوك. فعفا عنه النبي صلى الله عليه واله وأسلم، ودعا قومه إلى الإسلام ولم تقع محاربة قط.

3- بنو سليم أيضاً أرادوا الحرب فخرج إليهم النبي صلى الله عليه واله فولَّوا هاربين قبل أن يلحقهم.

4- بنو ثعلبة ومحارب، وبنو غطفان أيضاً، اجتمعوا للحرب في نجد، فلحقهم الرسول صلى الله عليه واله ففرُّوا من وجهه قبل النزال وخلّفوا نساءهم وأموالهم غنيمةً للمسلمين.

5- البدو في دومة الجندل، وكانت هذه المنطقة قرب الشام، وكانت هذه القبيلة قد عاشت على السلب والنهب مما قَوَّض الأمن والاستقرار؛ فذهب النبيُّ صلى الله عليه واله لتأديبهم، بيد أنهم فرّوا هاربين قبل بلوغ النبي صلى الله عليه واله إلى هناك.

6- ومن هذه الحروب الحرب التي قامت بين المسلمين والكفار في مؤتة، وانتهت بغلبة المسلمين بعد تحملهم خسارات فادحة. ولكن هذه الحرب لم تكن تختص بالنبي صلى الله عليه واله مباشرة، ولذلك فإنا نُعرض عن ذكرها كما نُعرض عن ذكر سائر الغزوات التي قام بها الجيش الإسلامي دون أن يشترك فيها النبيّ صلى الله عليه واله. ونعطف إلى ماهو المهمّ من أعماله صلى الله عليه واله في الحقلَين السياسي والديني.

وإليك موجزاً لأهم الأحداث السياسية والدينية:

صلح الحديبية: منذ أن أخرجت قريش المسلمين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه واله عن وطنه مكة، كان يشتاق إلى الرجوع إليها، لأنها البلد الأمين والمقدّس عند الله، ولأنها- مع ذلك- محطُّ أنظار العرب جميعاً.

ولكن الحروب والغزوات التي اكتنفت السنوات السبع بعد الهجرة، والضعف الذي كان يراه في أصحابه، منعاه من المسير إلى مكة. ولذلك فإنه حين رأى الوقت مناسباً عزم على الزحف إلى مكة وأعلن في المسلمين ذلك، وقال: إنه يريد مكة لأداء مناسك البيت فقط، فسار بألف وأربعمائة رجل من المهاجرين والأنصار.

بَيْدَ أن كفار قريش الذين رأوا أن دخول القوم مكة بعد أن أُخْرِجُوا منها من دون أن يلحقهم أذىً، إنَّما هو ضعف وانهزام صريح في وجه المسلمين.

ولذلك فإنهم أرادوا منعه منها، وأرسلوا بطلائع من جنودهم ليقفوا في وجه المسلمين. وحين ذاك تنكّب النبيُّ صلى الله عليه واله عن الطريق المألوف لئلا يصطدم بهذه الطلائع. ولما عرف الكفار تنكُّبه، وأنه بلغ ثنية المرار أسفل مكة، أرسل النبي صلى الله عليه واله أحد المسلمين يُنْبِئُ قريشاً بأنه لم يأتهم محارباً بل معتمراً.

وأرسلت قريش سفراء يريدون من النبي صلى الله عليه واله الرجوع عن عزمه. وكانت من قبل قد أرسلت سرية لمقاومة أعمال النبي صلى الله عليه واله، فأخذها المسلمون وحبسوا جميع أفرادها.

ولما أصرت قريش على منع النبيِّ صلى الله عليه واله عن البيت قال النبي لأصحابه:

«لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ القَوْمَ»

وطلب من المسلمين البيعة فبايعوه على الفتح أو الشهادة.

وحينما بلغ قريشاً نبأ البيعة الجديدة للنبيِّ صلى الله عليه واله هابوه فراسلوه على الصلح، فاصطلح معهم بما يلي وكان أهم بنوده:

1- إيقاف الحرب بين الفريقين لمدة سنتين.

2- القادم إلى المسلمين يُردّ وليس بالعكس.

3- رجوع المسلمين هذه السنة وإتيانهم في المقبلة.

4- يستطيع الفريقان قبول عهد من شاء.

وكانت هذه السياسة السليمة التي اتَّبعها النبيُّ صلى الله عليه واله هي التي فتحت عليه طرق التقدم والنجاح، حيث زحف المسلمون لمواجهة العالم الخارجي بعد أن أمَّنوا الجانب الداخلي، وكان بذلك الحدث التالي:
1- بعد هذا الصلح مباشرة بعث النبيُّ صلى الله عليه واله رسائل إلى زعماء وملوك كافة الدول المجاورة. فراسل ملك الروم، والفرس، والحبشة، والقبط، كما أرسل رسائل إلى كلِّ من أمير بصرى، وأمير دمشق، وملك البحرين، وملكَي عمان، وملك اليمامة بشأن الرسالة التي حُمِّل مسؤولية تبليغها. وقد كان لهذه الرسائل آثارها البعيدة في نشر لواء الإسلام ومحق آثار الكفر.

أما أجوبة هؤلاء فمنهم من أسلم، وهو كلٌّ من ملك الحبشة، وأمير البحرين، وملكَي عمان، فكان ذلك فتحاً مبيناً للإسلام. ومنهم من لم يسلم ولكنه احترم الرسول فايَّده، وهو كلٌّ من ملك الروم وملك القبط وملك اليمامة. ومنهم من أساء إلى الرسول واستهزأ به، وهو كلٌّ من ملك الفرس، وأمير بُصرى وأمير دمشق.

2- وفي السنة التالية- السابعة للهجرة- اعتمر النبيُّ صلى الله عليه واله على رأس أصحابه الذين كانوا في الحديبية. وفسح الكفار المجال أمامهم، وخرجوا عن مكة لئلا يقع تضارب بين الفريقين- على ما كان يتضمنه أحد بنود الصلح الماضي-. وكانت هذه المرة أول مرة يدخل فيها النبيُّ صلى الله عليه واله مكة بعد هجرته عنها بسبعة أعوام.

3- ورجع النبي صلى الله عليه واله إلى المدينة بعدما بقي في مكة ثلاثة أيام. وبعد ذلك نقضت قريش بعض بنود الصلح بأن كانت قبيلة تسمى بخزاعة (معاهدة مع النبيّ)، وكان على قريش ألَّا تُحاربها وألَّا تُعين عليها أعداءها، لكنها فعلت ذلك.

وحلّ للنبي صلى الله عليه واله بذلك قتالها، فجمع أصحابُه وجمع من القبائل المسلمة التي كانت تقطن حول المدينة عدداً كبيراً، وزحف نحو مكة بعد أن ملأ الطريق عيوناً ورقباء على السائرين، لكيلا يصل خبر خروجه إلى قريش فيتم الأمر بالحرب التي لا يريدها النبي صلى الله عليه واله أبداً.

ولما بلغ النبيّ صلى الله عليه واله بجيشه حي ظهران بقرب مكة، أمر أصحابه بأن يُكثروا من إيقاد النار، ففعلوا ذلك. فاسترهب ذلك قلوب الكفار أَيَّ استرهاب، وكان أبو سفيان يراقب طريق مكة إذ رأى النار فملكه الرعب؛ والتقى بالعباس- عمّ النبيّ صلى الله عليه واله- فحمله إلى النبي صلى الله عليه واله ودار بينهما محادثات تمت بإظهار أبي سفيان للإسلام وبإسلام بعض أبطال قريش وزعمائها قبله، ففقدت مكة قوَّتها، ومنعتها، ولم تملك قوةً تدافع ضد دخول النبيِّ إليها. وقد انتهج النبيّ صلى الله عليه واله مسلكاً فريداً في هذا الهجوم العسكري، وذلك بأن أعلن قبل الزحف إلى مكة أنَّ من ألقى السلاح أو دخل دار أبي سفيان أو دخل داره أو فناء الكعبة أو تحت لواء أبي رويحة فهو آمن. ثم أمر قواته بإحاطة البلد والزحف عليها من جميع جهاتها، وألَّا يقاتلوا إلَّا من قاتلهم. ثم دخل مكة من دون أن يعترض أحد طريقه إلَّا من جهة أسفل مكة حيث جاء منها خالد بن الوليد، وقَتل اثنَي عشر نفراً ممن عارضه، وقُتل من المسلمين واحد. ثم أعلن النبيّ صلى الله عليه واله في البيت الحرام العفو العام عن المشركين جميعاً، أثناء خطبة ألقاها عليهم.

وبفتح مكة تمت السيطرة المطلقة للمسلمين على الجزيرة العربية التي كانت تعتبر مكة دينها ودنياها معاً.

ثم أمر النبيّ صلى الله عليه واله بهدم الأصنام التي كانت تُعبد من دون الله فهدمت جميعاً. وبعد ذلك سمع النبيّ صلى الله عليه واله بأنَّ قبائل عربية اتَّحدت تريد الانقضاض على مكة للقضاء على المسلمين، ومن بين تلك القبائل هوازن وثقيف. فلما تحقق النبيّ صلى الله عليه واله الخبر جنَّد اثني عشر ألفاً من المسلمين وتوجه إليها، فالتقى الجمعان في وادي حُنين، حيث كان مضيق جبليٌّ واقع بين جبلَين. وقد كان العدو قد سبق المسلمين إلى احتلال المواقع العسكرية في الجبلين.

وحينما زحف المسلمون إلى العدو بين الجبلين انقض الكفار عليهم انقضاضاً، فهزمت طائفة منهم ثم التقت بالطائفة التي بعدها فسادت الفوضى في الجيش الإسلامي، وهُزموا هزيمة قبيحة. بيد أن النبيّ صلى الله عليه واله بقي صامداً.

وبقي معه بعض المسلمين، ثم اجتمعت فلول المسلمين حتى كوَّنوا جبهة حاربوا بها الكفار وغلبوهم. وحيث إن الكفار كانوا قد أخرجوا جميع ممتلكاتهم ونسائهم إلى ساحة الحرب لعل ذلك يسبّب قوةً لمعنويات الجيش، فإن المسلمين ربحوا غنائم كثيرة.

واستعمل النبيُّ صلى الله عليه واله تلك الأموال في تأليف قلوب قريش، ثم عزم الرجوع إلى المدينة.

وقبل الرجوع أرسل سرايا من المسلمين في ملاحقة المنهزمين من الكفار الذين أرادوا التجمع مرة أخرى وإيقاد نار الحرب.

ومن تلك السرايا، قوة مسلحة إلى الطائف حيث تحصَّن الكفار فيها. بيد أن حصون الطائف كانت أمنع من أن يتغلب عليها المسلمون فرجعوا، وعندما بلغ النبيّ صلى الله عليه واله المدينة تقاطرت عليه الوفود من جميع أنحاء الجزيرة يُعلنون دخولهم في الإسلام، ويطلبون منه إرسال المبلّغين المرشدين لهم.

وفي السنة التالية لفتح مكة نزلت سورة البراءة التي أعلنت انتهاء الدور المظلم للجزيرة وابتداء الدور المشرق.
فأرسل النبي صلى الله عليه واله الإمام علي بن أبي طالب إلى مكة حيث تلا هذه السورة في الحجَّاج المحتشدين في منى، وأعلن بصراحة منع دخول المشركين إلى المسجد الحرام؛ لأنهم نجس، ولأن الله بريء منهم. كما أعلن أنه لا عهد ولا ذمة لمشرك، وأن دم كل مشرك حلال بعد أربعة أشهر.

وبعد هذا الإعلان لم يبقَ في الجزيرة من يظهر الشرك، إلَّا فلول منهزمة مختفية على خوف من المسلمين. فأخذ الرسول يتأهب لمقاتلة الروم، وقد كانت طلائعهم تستقي في أرض الشام التي كانت إمارة عربية تابعة للأمبراطورية الرومية. فزحف بالجيش الإسلامي، الذي كان عدده أكثر من ثلاثين ألفاً، وكانت الخيل عشرة آلاف. وكان المسلمون مدججين بالسلاح الكامل.

وكان فعلُ النبيِّ صلى الله عليه واله ذلك بعد إشاعة راجت في المدينة بأن جيش الروم قاصد لفتح الجزيرة العربية وإبادة المسلمين. ولكن حينما وصل النبيُّ صلى الله عليه واله بجيوشه إلى تبوك عرف كذب الإشاعة، فصالح أهل تلك البلاد وملك الروم. ثم رجع بعدما جعل من أهل الحدود الشامية الحجازية مرابطين له ضد الأعداء، وبعدما زرع الخوف والذعر في قلوب الرومانيين بمباغتة المسلمين لهم.

وفي السنة العاشرة بعد الهجرة اعتزم النبيُّ صلى الله عليه واله أن يحج، فاجتمع إليه المسلمون من كل مكان. فلما اكتمل عددهم سار بهم إلى مكة حيث أراهم كيفية الحج بعدما مُنع المشركون من إجراء مراسم الحج في السنة التاسعة.

فلما أتم النبيُّ صلى الله عليه واله مناسكه خطب في المسلمين خطبته المشهورة التي بيَّن بها تعاليمه الدينية والخلقية ورجع قاصداً المدينة.

ولعل بعض من رافق النبيَّ صلى الله عليه واله في هذه الرحلة المقدسة لاحظوا بوضوح مظاهر القلق والاضطراب في ملامحه كل حين، كأنِّه يريد إبداء شيء يخاف منه أو يرتقب فرصة أخرى أفسح وأولى!!.

ولكنَّ هذه الحجة كانت الحجة الأخيرة للنبيِّ صلى الله عليه واله. ولذلك سُمِّيت بحجة الوداع. ومن الضروري أن يُبيِّن فيها النبيُّ كل شيء يتعلق بمصالح المسلمين وشؤونهم السياسية والدينية. وإنّ أهم هذه الشؤون هي السلطة. فإذا تُوُفِّيَ النبيّ صلى الله عليه واله اختلفت العرب الذين لم يتسرّب الإسلام إلى قلوبهم كما هو في واقعه، وتنازعت أمرها وذهب الدين ضحيةً للاختلاف.

ولقد أنبأه الوحي بأنَّ السلطة تكون من بعده لعليِّ بن أبي طالب عليه السلام، أوّل من آمن بالله وبرسوله صلى الله عليه واله، وأشدَّ من أَبلى في سبيله، وأقضى المسلمين وأفضلهم. ولقد ذكر النبيُّ صلى الله عليه واله ذلك للمسلمين مراراً إِلَّا أن خوف النبيّ صلى الله عليه واله كان شديداً على مستقبل الأمة، حيث رأى في المسلمين بعض الذين يهدفون للسيطرة وقد التفوا حول النبيِّ لها فقط. فلما كان النبيُّ صلى الله عليه واله بمنزل (كراع الغميم) من أراضي عسفان نزلت عليه الآية المباركة تقول: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ... 10.

ولمّا بلغ غدير خم نزلت عليه هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ 11.

[1] سورة هود، آية: 12.

[2] سورة المائدة، آية: 67.
واطمأن النبي بنصرة الله في خلافة علي عليه السلام فعزم على الأمر وأمر المسلمين بأن ينزلوا في ذلك المكان وبأن يجتمعوا. فلما اجتمعوا قام فيهم خطيباً وأعلن خلافة علي عليه السلام قائلًا، بعد خطبة كريمة:

«أَلَا مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهُ .....» 12.

ثمَّ أمر المسلمين بالبيعة له، والسلام عليه بإمرة المؤمنين. ولما تمَّ أخذُ البيعة جاءت الآية الأخيرة التي أعلنت إكمال الدين وتمامه: ﴿ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... 13.

وبعد رجوعه إلى المدينة سيّر جيشاً كبيراً فيه أبو بكر وعمر وكثير من المهاجرين والأنصار، وأَمَّر عليه أسامة بن زيد- وهو فتىً لم يبلغ العشرين-، سيّر هذا الجيش إلى الشام حيث قُتل جعفر وزيد أبو أسامة القائدان للجيش الإسلامي.

ومع حِرصِ النبيِّ صلى الله عليه واله على أن يخرج هذا الجيش في أقرب وقت ليبعد العناصر الفاسدة في المسلمين الذين كان يخشى منهم على مستقبل الأمة ومصيرها، في حين كان يرى اقتراب أجله. ومع ذلك فإن المنافقين أرجؤوه، حتى أمر النبي صلى الله عليه واله أسامة بكل إصرار على متابعة سيره فعسكر بالجرف على فرسخ من المدينة.

بيد أنَّه اشتد خلال ذلك مرض النبي صلى الله عليه واله الذي كان سببه السم الذي سُقيه على ما يذهب إليه بعض الرواة، وقد دُسَّ إليه بيد بعض اليهود. فرجع أفراد الجيش إلى المدينة مع أن النبي صلى الله عليه واله لعن من يتخلف عن الجيش أشد لعنة.

وفي الثامن والعشرين من شهر صفر من السنة الحادية عشرة بعد الهجرة، وبعد ثلاث وستين سنة قضاها في الله، ثلاثة وعشرين عاماً منها بصورة خاصة في حمل الرسالة العالمية إلى الآفاق، عشرة منها في مكة، وثلاثة عشر في المدينة، الْتَحق النبي محمّد صلى الله عليه واله بالرفيق الأعلى؛ وكان ذلك في ضحى يوم الاثنين من سنة (633 ميلادية).

وكانت وفاة النبي صلى الله عليه واله نكبة فادحة في الإسلام لم يسبق لها مثيل، كما كان فيها انحراف مباشر لخط السير السريع لتقدم الإسلام.

وقام الإمام علي بي أبي طالب عليه السلام بمراسم الغسل والتكفين وصلَّى عليه هو والمسلمون، ثمَّ دُفِنَ في بيته حيث مرقده الآن.

فعليك يا رسول الله أفضل الصلاة والسلام وعلى آلك الطيبين الطاهرين 14.