الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

اطفاء الحرائق الاجتماعية

بالطبع لسنا بصدد الحديث عن فرق اطفاء الحرائق وما ذكرناه مجرد مدخل وتمهيد، ننطلق منه الى تساؤل هام يرتبط بأوضاعنا الاجتماعية، وهو لماذا لا يبدي الناس اهتماما مماثلا بالحرائق الاجتماعية؟ فحينما تشب نار العداوة والخلاف بين أفراد أو فئات من المجتمع، لماذا يأخذ الآخرون موقف المتفرج وكأن الأمر لا يعنيهم؟ ولماذا لا يبادرون لتطويق هذا النزاع ـ الحريق كما يهرعون لإطفاء الحرائق المادية؟

واذا كانت الحرائق المادية تصيب الأشخاص والممتلكات، فإن الحرائق الاجتماعية تنال شخصيات الناس المعنوية، وتمزق وحدتهم وانسجامهم، وتعرض السلم الاجتماعي للخطر، وتكون أرضية وسببا لمشاكل واعتداءات وخسائر وحروب.
كما أن الخلافات الاجتماعية هي الأخرى كالنار تمتد الى ما حولها وتحرقه بلهيبها، ولا تبقى عند حدود الشخصين أو المجموعتين المختلفتين، فكم من خلاف بسيط بين زوجين تحول الى نزاع ومعركة بين أسرتيهما وقبيلتيهما؟ وكم من نزاع بين فئتين محدودتين أدخل مجتمعا في أتون حرب أهلية مدمرة؟
كذلك فإن المتورطين في النزاع قد لا يستطيعون إنهاء نزاعهم فيما بينهم وإن أرادوا ذلك، لما يحدث في نفوسهم من انفعالات وحواجز، فيحتاجون الى مساعدة من خارجهم لترطيب الأجواء، وامتصاص التشنجات، وتقريب كل طرف الى الآخر.
من هنا فالحاجة ماسة الى وجود فرق إطفاء للحرائق الاجتماعية، تطوق الخلافات والنزاعات، وتطفىء نيران الفتن والاحتراب، وتحمي السلم الاجتماعي.

إصلاح ذات البين

ويطلق الإسلام على هذه المهمة المقدسة عنوان «إصلاح ذات البين» حيث وردت نصوص كثيرة تؤكد على ضرورة القيام بهذا الدور، وتبشر القائمين به بأرفع الدرجات وأعظم الأجر والثواب عند الله تعالى.
يقول تعالى: ﴿ ... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 1.
إن القيام بدور إصلاح العلاقات بين أبناء المجتمع، وسد ثغرات الخلاف والنزاع، هو انعكاس للالتزام بتقوى الله، لذلك يأتي الأمر بالاصلاح بعد الأمر بتقوى الله تعالى  ﴿ ... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ... 1 كما أن الإصلاح شرط من شروط تحقق المجتمع الإيماني ﴿ ... إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 1.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ 2.
فالمجتمع الذي تسوده أجواء الوحدة والانسجام يكون متنعما بالرحمة والأمن، بينما إذا جزأته الخلافات والنزاعات فهو يعيش حالة العذاب والشقاء.

أفضل دور وخير عمل

لماذا يتطوع المؤمن لله تعالى بالصيام، ويتنفل بالصلاة، ويجود بالصدقة؟ أليس بدافع القربة الى الله ونيل ثوابه ورضاه؟ اذا كان ذلك هو الهدف فإن النصوص الدينية تؤكد على أن من أفضل طرق التقرب الى الله وكسب رضاه وثوابه، هو السعي لإصلاح ذات البين، فهو أفضل من سائر العبادات والطاعات.
عن أبي الدرداء عنه : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ اصلاح ذات البين».
وعن ابن عمر عنه : «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين».
ولأن المصلح يريد التقريب بين الطرفين المتنازعين، وخلق ثقة متبادلة بينهما، فقد يضطر لإعطاء انطباع ايجابي عن كل طرف للآخر، بالتحدث عنه بكلام طيب لم يقله، وتشجيعا من الدين لمسعى الصلح، اعتبر هذا التصرف مستثنى من الكذب الحرام، بل لم يعتبره الشرع كذبا ما دام يصب في مصلحة الاصلاح والوئام.
فقد جاء في صحيح البخاري عن رسول الله قوله: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا».
وقد كان رسول الله حريصا على القيام بدور إصلاح ذات البين والمبادرة إليه، فقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أناسا من بني عمرو بن عوف، كان بينهم شيء، فخرج اليهم النبي في أناس من أصحابه يصلح بينهم، فحضرت الصلاة ولم يأت النبي فجاء بلال فأذن بالصلاة ولم يأت النبي .
وفي حديث آخر: أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم».

الدور المفقود

لا يخلو مجتمع من المجتمعات البشرية صغيرا كان أو كبيرا، ومهما كانت درجة وعيه أو تدينه، من وجود خلافات بين بعض أفراده أو بعض فئاته، والاجتماع الاسلامي وإن كان يفترض فيه الالتزام بتعاليم الاسلام، والتحلي بآدابه وأخلاقه، لكن ذلك لا يعني وصول أفراده إلى درجة العصمة، فهو بشر تعتورهم كل نواقص الطبيعة البشرية.
فحدوث النزاعات والخلافات أمر وارد وطبيعي في الاجتماع الاسلامي، بين الأفراد المؤمنين والفئات المسلمة، مع كونهم جميعا ضمن اطار الإيمان والاسلام، كما يشير الى ذلك قوله تعالى:  ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ... 3.
لكنه لا يصح السكوت والتفرج تجاه حالات الخلاف والنزاع التي قد تحدث في أوساط المجتمع، بل يجب القيام بدور ايجابي لتجاوز تلك الحالات، وتلافي آثارها ومضاعفاتها، بأن يبادر المخلصون الواعون للسعي في اصلاح ذات البين، فهو واجب كفائي لا يجوز أن يهمل أو يترك حينما تتهدد وحدة المجتمع والكيان الاسلامي، وإذا لم ينهض به من يكتفى به فمسؤولية التخلف عن هذا الواجب الديني الإنساني على عاتق الجميع. لأن الله تعالى يوجه الخطاب للعموم  ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... 3.
لكن دور السعي لإصلاح ذات البين في صفوف أبناء الأمة مفقود أو ضئيل جدا مع الحاجة الماسة إليه، لذلك تنتشر الخلافات، وتتطور النزاعات، على حساب وحدة المجتمع وتماسكه وقوته.
فكم من أسرة تشتت شملها، وانهار كيانها العائلي، لخلاف بين الزوجين كان يمكن معالجته لو بذل سعي لإصلاح ذات بينهما؟
اننا بحاجة إلى تفعيل مبدأ اصلاح ذات البين، وأن يبادر المخلصون الواعون من أبناء المجتمع، إلى تشكيل فرق ومجموعات لإطفاء الحرائق الاجتماعية، والتقريب بين مختلف الفئات والجهات، وداخل العوائل والأسر4.