حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
هل دعاء رفع المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر صحيحٌ وثابت أو لا؟
هل دعاء القرآن الذي ترفع فيه المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر (اللَّهُمَّ بِحَقِّ هَذَا الْقُرْآنِ وَبِحَقِّ مَنْ أَرْسَلْتَهُ بِهِ وَبِحَقِّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مَدَحْتَهُ فِيهِ..) صحيحٌ أو لا؟
الجواب: هناك دعاءان بهذه الصيغة
الدعاء الأوّل:
وهو الدعاء الوارد في أعمال ليلة القدر في شهر رمضان المبارك، والذي يبدو هو أنّ المصدر الرئيس لهذا الدعاء في ليلة القدر، هو السيّد علي بن طاووس (664هـ)، فقد ذكر في كتاب إقبال الأعمال ـ ونقله عنه صاحب البحار أيضاً وغيره ـ ما نصّه: (ذكرُ دعاءٍ آخر للمصحف الشريف: ذكرنا إسناده وحديثه في كتاب إغاثة الداعي، ونذكر ها هنا المراد منه، وهو عن مولانا الصادق صلوات الله عليه، قال: خذ المصحف فدعه على رأسك، وقل: اللهم بحقّ هذا القرآن، وبحقّ من أرسلته به، وبحقّ كل مؤمن مدحته فيه، وبحقّك عليهم فلا أحد أعرف بحقّك منك، بك يا الله – عشر مرات. ثم تقول: بمحمّد – عشر مرات، بعليّ – عشر مرات، بفاطمة – عشر مرات، بالحسن – عشر مرات، بالحسين – عشر مرات، بعلي بن الحسين – عشر مرات، بمحمد بن علي – عشر مرات، بجعفر بن محمد – عشر مرات، بموسى بن جعفر – عشر مرات، بعلي بن موسى – عشر مرات، بمحمد بن علي – عشر مرات، بعلي بن محمد – عشر مرات، بالحسن بن علي – عشر مرات، بالحجّة – عشر مرات. وتسأل حاجتك، وذكر في حديثه إجابة الداعي وقضاء حوائجه. ذكرُ دعاءٍ آخر للمصحف الشريف: ذكرناه بإسنادنا إليه في كتاب إغاثة الداعي عن علي بن يقطين رحمه الله، عن مولانا موسى بن جعفر صلوات الله عليهما يقول فيه: خذ المصحف في يدك وارفعه فوق رأسك، وقل: اللهم بحقّ هذا القرآن، وبحقّ من أرسلته إلى خلقك، وبكلّ آية هي فيه، وبحقّ كلّ مؤمن مدحته فيه، وبحقّه عليك ولا أحد أعرف بحقّه منك. يا سيدي يا سيدي يا سيدي، يا الله يا الله يا الله – عشر مرات، وبحقّ محمد – عشر مرات، وبحقّ كلّ إمام – وتعدّهم حتى تنتهي إلى إمام زمانك عشر مرات. فإنّك لا تقوم من موضعك حتى يقضى لك حاجتك، وتيسّر لك أمرك) 1. وقد ذكر العلامة المجلسي في كتاب (زاد المعاد: 126) أنّ هذا الدعاء بصيغته الأولى منقول عن الباقر والصادق عليهما السلام، ولكنّني أظنّ أنّ هذا سهو منه، فلم يرد حتى في بحار الأنوار ذكر هذا الدعاء مرويّاً عن الإمام الباقر، بل الذي يبدو بالمقارنة أنّ المجلسي في البحار لم يكن لديه مصدر آخر غير ابن طاووس نفسه هنا. ولعلّه يقصد رواية نشر القرآن بين اليدين التي رواها حريز بن عبد الله السجستاني وليس فيها وضع القرآن على الرأس، ولا التوسّل بالنبي وأهل بيته أساساً.
وقد اعتمد الشيخ عباس القمي (1359هـ) ذكر هذا الدعاء في ليلة القدر في كتابه 2، لكنّه لم يُشر هناك إلى الصيغة الثانية من صيغ دعاء القرآن هذا، مما سبق أن ذكره ابن طاووس والمجلسي معاً.
ولم يذكر ابن طاووس طريقه أو سنده هنا إلى هذا الدعاء، ولكنّه يشير إلى أنّه ذكر الإسناد إلى ذلك في كتاب إغاثة الداعي، والذي يبدو هو أنّ هناك فوارق بين الروايتين المرويّتين عن الإمامين الصادق والكاظم، ففي رواية الصادق يصل الدعاء إلى الإمام الثاني عشر، بينما لا نجد هذا التعبير في رواية الكاظم، وإنّما يقول: (حتى تنتهي إلى إمام زمانك)، ولعلّ المراد من إمام زمان علي بن يقطين هو الإمام الكاظم وليس الإمام المهدي، فيكون هذان دعاءين مختلفين، وربما كانا معاً واردين في الشرع دون أيّ تنافٍ. نعم، قد يقول قائل بأنّ معرفة اسم الإمام اللاحق كانت غير متوفّرة للجميع بشهادات عديدة من بعض أصحاب الأئمة، كما ورد في حقّ زرارة بن أعين مثلاً فكيف يعلّم الإمام الصادق هذا الشخص تمام الأسماء؟! فتكون الصيغة الثانية المرويّة عن الإمام الكاظم أنسب منطقيّاً من الصيغة الأولى التي هي أشهر تداولاً بين الناس اليوم، وإن كانت النتيجة في حقّ أبناء اليوم هو الصيغة الأولى؛ لأنّ المفروض أنّ إمام زمانهم ليس هو الإمام الكاظم فلاحظ جيداً. وهذا إشكال يحتاج لبسط كلام في التعليق عليه ـ سلباً أو إيجاباً ـ فلا نطيل.
لكن لو تأمّلنا قليلاً في متن الرواية الأولى والثانية أعلاه، فنحن لا نجد أيّ إشارة إلى ليلة القدر أساساً، فلعلّ ابن طاووس حذف المقطع الذي يدلّ على ارتباط هذين الدعاءين بليلة القدر، أو أنّه أضافهما إلى أعمال ليلة القدر، نظراً لما فيهما من أهميّة وقضاء حاجة، وإلا فالنصّ نفسه ـ بحسب ما وصلنا ـ لا يدلّ على أنّ هذا الدعاء ورد في أعمال ليلة القدر بخصوصها، بل هو عملٌ عام غايته يمكن الإتيان به في ليلة القدر كأيّ ليلةٍ أخرى.
وعلى أيّة حال، فهذا الدعاء لا نعرف مصدره ولم يُذكر له سند أصلاً، وبين ابن طاووس والإمام الصادق والكاظم ما يقرب من خمسة قرون، ومن ثمّ فهذا الدعاء ضعيف الإسناد جداً، وإذا اُتي به فيؤتى به بالعنوان الدعائي العام، لا بعنوان وروده بخصوصه، فضلاً عن عنوان كونه من أعمال ليلة القدر بخصوصها، وبالتالي لا يستدلّ به في مطلب عقدي أو أخلاقي أو غيرهما، نعم بناء على قاعدة التسامح في أدلّة السنن ـ والتي لا نؤمن بها ـ يمكن الإتيان بهذا الدعاء بوصفه دعاءً مستحباً. وسيكون لنا كلام له علاقة بالموضوع قريباً عند الحديث عن الدعاء الثاني، فانتظر.
وأمّا إحالة السيد ابن طاووس على كتاب إغاثة الداعي، فقد تكرّرت منه في بعض المواضع القليلة، لكنّ هذا الكتاب غير متوفّر اليوم، بل قد يظهر من صاحب الذريعة وغيره ذلك. وأمّا اعتقاد ابن طاووس أو المجلسي أو الشيخ عباس القمي بصحّة هذا الدعاء، فهو وجهة نظر شخصيّة لهم لا تُلزم غيرهم بشيء، خاصّةً ابن طاووس الذي يعلم الجميع ـ بمراجعة مقدّمته على كتابه فلاح السائل ـ كم هو متساهل في أمر إثبات الحديث ويغضّ الطرف عن التضعيفات والطعون في الرواة، حتى لا يرد أيّ طعن على أيّ راوٍ تقريباً! فلتُراجع مقدّمته فهي نافعة في بيان منهجه الحديثي العام رحمه الله.
الدعاء الثاني:
ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بعيداً عن ليلة القدر أو أعمال شهر رمضان المبارك، وهو ما نصّه: (أبو محمد الفحام، قال: حدّثني أبو الحسن محمد بن أحمد الهاشمي المنصوري بسرّ من رأى، قال: حدّثنا أبو السرى سهل بن يعقوب بن إسحاق مؤذّن المسجد المعلق بصف شنيف بسر من رأى سنة ثمان وتسعين ومائتين، قال: حدثنا الحسن بن عبد الله بن مطهر (مطر)، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: جاء رجل إلى سيّدنا الصادق عليه السلام، فقال له: يا سيدي، أشكو إليك دَيناً ركبني وسلطاناً غشمني، وأريد أن تعلّمني دعاءً اغتنم به غنيمة أقضي بها ديني وأكفي بها ظلم سلطاني. فقال: إذا جنّك الليل، فصلّ ركعتين، اقرأ في الأولى منهما الحمد وآية الكرسي، وفي الركعة الثانية الحمد وآخر الحشر: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل. إلى خاتمة السورة، ثم خذ المصحف فدعه على رأسك وقل: بهذا القرآن وبحقّ من أرسلته به، وبحقّ كلّ مؤمن مدحته فيه، وبحقّك عليهم، فلا أحد أعرف بحقّك منك، بك يا الله عشر مرات، ثم تقول: يا محمد عشر مرات، يا علي عشر مرات، يا فاطمة عشر مرات، يا حسن عشر مرات، يا حسين عشر مرات، يا علي بن الحسين عشر مرات، يا محمد بن علي عشر مرات، يا جعفر بن محمد عشر مرات، يا موسى بن جعفر عشر مرات، يا علي بن موسى عشر مرات، يا محمد بن علي عشر مرات، يا علي بن محمد عشر مرات، يا حسين (حسن) بن علي عشر مرات، يا حجّة عشر مرات. ثم تسأل الله (تعالى) حاجتك. قال: فمضى الرجل وعاد إليه بعد مدّة، قد قضى دينه، وصلح له سلطانه، وعظم يساره) 3.
وهذا الدعاء ـ كما هو واضح من متنه ـ لا علاقة له بليلة القدر ولا بأعمال شهر رمضان المبارك، بل له علاقة بردّ السلطان وقضاء الديون والحاجات، وامتياز هذا الدعاء عن الدعاءين السابقين هو أنّه يخاطب أهل البيت أنفسهم، فهو يقول: يا علي يا فاطمة، بينما رأينا في الدعاءين السابقين مخاطبة الله بحقّهم، فتقول: يا الله بفاطمة.. بعليّ.. بالحسن..
ومن الواضح أنّ سند هذا الدعاء مذكور، وبصرف النظر عن تصحيح نسبة كتاب الأمالي للطوسي أو لولد الطوسي (وهناك كلام كثير في هذا) ممّا يرتاب فيه بعضهم اليوم ويتحفّظ بعض الشيء، مثل الشيخ آصف محسني.. بصرف النظر عن ذلك، فهذا الحديث ضعيف بل سنده تالف، وذلك أنّ فيه سلسلة من المجاهيل بل والضعفاء، مثل سليمان الديلمي الذي لم يوثّق في كتب الرجال، بل نقل الكشي أنّه من الغلاة الكبار 4، وذكر فيه النجاشي أنّه غمز عليه، وأنّه قيل: كان غالياً كذاباً. وكذلك ابنه محمّد لا يعمل بما انفردا به من الرواية 5. وأمّا ابنه فنصّ الطوسي في الرجال على أنه يُرمى بالغلوّ 6، وضعّفه في موضع آخر من رجاله أيضاً وفقاً لبعض النسخ 7، وقال عنه النجاشي بأنّه ضعيف جداً لا يعوّل عليه في شيء 8. وأيضاً في السند الحسن بن علي بن مطهر، وهو رجل مهمل جداً قليل الرواية للغاية، وقد ذكر النمازي الشاهرودي أنّهم لم يذكروه مقرّاً بأنّه لم يتعرّضوا له بتوثيق أو غيره 9. وكذلك الحال في سهل بن يعقوب بن إسحاق، فإنّه لم يذكره أحدٌ بتوثيقٍ، ورواياته قليلةٌ للغاية.. وفي مثل سندٍ كهذا كيف يمكن تحصيل الرواية المعتبرة، فضلاً عن الوثوق والاطمئنان بالصدور؟! وعليه فهذه الرواية غير صحيحة أيضاً، مضافاً إلى أنّ الشيخ الطوسي لم يذكرها في كتاب مصباح المتهجّد المخصّص للأدعيّة والأعمال، ولم ترد هذه الرواية في المصادر الحديثية الكبرى الأمّ عند الشيعة أو السنّة أو غيرهم.
بل إنّني أحتمل أنّ السيد ابن طاووس قصد في الصيغة الأولى من صيغتي الدعاء الأوّل هذه الرواية بالذات، ولعلّه وضعها في أعمال ليلة القدر بعد أن رأى الأهميّة فيها.
والنتيجة: إنّ مختلف الروايات التي وردت بعنوان دعاء نشر المصحف الشريف على الرأس لم تثبت، بل لم يثبت إطلاقاً أنّها وردت في خصوص ليلة القدر أو من أعمالها المنسوبة إليها، فكلّ دعاء لا يرى فيه الإنسان مشكلةً متنيّةً مضمونيّة يمكنه أن يدعو الله به، لكن إذا لم يثبت صحّته واعتباره فلا يمكنه نسبته إلى الدين أو الإفتاء باستحبابه أو البناء على ذلك أو الاستدلال به لإثبات أمر عقدي أو فقهي أو أخلاقي، بل يؤتى به إمّا بعنوان الدعاء المطلق أو بعنوان رجاء المطلوبيّة. نعم يمكن الدعاء به بعنوان الاستحباب بناءً على قاعدة التسامح في أدلّة السنن والتي قلنا بأنّها غير ثابتة. وينتج أيضاً عن ذلك أنّ الاستدلال بهذا الدعاء ـ أعني الدعاء الثاني، وليس الصيغتين الأوليين من الدعاء الأوّل ـ لإثبات مسألة التوسّل، بمعنى توجيه الطلب والدعاء لأهل البيت أنفسهم، غيرُ صحيح، وهو من الروايات القليلة جداً التي يظهر منها الدعاء الموجّه للنبي وأهل بيته مباشرةً.
وأمّا إشكال بعض أهل السنّة اليوم على هذا الدعاء بأنّه بدعة ووضع المصاحف على الرؤوس كذلك، وأنّ الأجدر هو العمل بالقرآن، فهو إشكال غير صحيح؛ فبصرف النظر عن ثبوت هذا الدعاء وعدمه، لا نجد في وضع القرآن على الرأس أيّ بدعة أو شرك، فهو توسّل إلى الله تعالى ببركة هذه الشخصيّات العظيمة، والدعاء موجّهٌ إليه سبحانه، كما هي العادة الجارية بين الشيعة في ليالي القدر اليوم، فليس في الأمر شرك أو كفر، بل قد ورد في بعض الروايات من طرق أهل السنّة ما يفيد وضع بعض الصحابة القرآن على رأسه، ولا نريد أن نطيل في هذا السجال. والعملُ بالقرآن مطلوب، لكنّ ضمّ هذا الدعاء إلى العمل ليس أمراً منبوذاً، وإذا لم يثبت عندي هذا الدعاء أو عندك فلا يعني أنّ من ثبت عنده والتزم باستحبابه ومارسه فهو مبتدع، فالاختلاف في تصحيح الأحاديث عظيم بين العلماء منذ قديم الأيّام، ولا ضير في ذلك هنا.
ولا بأس أن اُشير أخيراً إلى أنّ مصطلح (دعاء القرآن) يُطلق أحياناً ويُراد به الأدعية التي وردت في القرآن الكريم نفسه، وهذا لا علاقة له ببحثنا هنا، وإنّما نقصد خصوص الدعاء الذي يُنشر فيه القرآن على الرأس ويجري فيه التوسّل 10.
- 1. إقبال الأعمال: 346 ـ 347؛ وبحار الأنوار 95: 146 ـ 147
- 2. مفاتيح الجنان: 357 ـ 358
- 3. أمالي الطوسي: 292 ـ 293؛ وتفصيل وسائل الشيعة 8: 125 ـ 126؛ وبحار الأنوار 88: 346، و89: 112 ـ 113؛ ومفاتيح الجنان (الباقيات الصالحات): 943
- 4. رجال الكشي 2: 673
- 5. رجال النجاشي: 182
- 6. رجال الطوسي: 343
- 7. رجال الطوسي: 363
- 8. رجال النجاشي: 365
- 9. مستدركات علم رجال الحديث 2: 425 ـ 426
- 10. المصدر: الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حيدر حب الله (حفظه الله).