حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
ما هي مبرّرات نظريّة العصمة لو قلنا بأنّ النبي قد بيّن جميع الأحكام الدينية قبل وفاته؟
السؤال: إذا كان النبيّ قد بيّن جميع الأحكام إثباتاً، فلماذا يقول الشيعة بأنّ الأئمّة معصومون، ويقدّسونهم بهذه الطريقة الغريبة إذا كان عملهم يقتصر على تطبيق الأحكام على موضوعاتها، مثلهم مثل أيّ عالم يمارس عمليّة الاستنباط؟ لماذا لا يكونون واقعيّين بعض الشيء ويُعرضون عن هذه التصوّرات الوهميّة عن الأئمّة؟
الجواب: لا توجد علاقة قهريّة بين بيان الأئمّة لأحكام شرعيّة لم يبيّنها النبيّ وبين عصمتهم بحيث تنتفي العصمة عندما ينتفي البيان التأسيسي، فبعض علماء الشيعة لا يؤمنون ـ كما هو الصحيح، على ما بحثناه مفصّلاً في كتابنا 1 ـ لا يؤمنون بأنّ الأئمة يقومون بتشريع أحكام جديدة لم يسبق أن بيّنها النبيّ، ومع ذلك تراهم يقولون بعصمتهم؛ لأنّ نظريّة العصمة ليست مرتبطة فقط ببيان الأحكام الجديدة، فإنّ القائلين بنظريّة العصمة يرونها حاجة في بيان الأحكام الجديدة كما يرونها حاجة في شرح الأحكام التي سبق إصدارها وإزالة الالتباس الذي حصل عبر التاريخ عنها، وكذلك في تطبيق الأحكام على موضوعاتها، وشرح العام منها وتطبيقه على مفردات كثيرة، فالإمام يأخذ الحكم الذي صدر من النبي ويقوم عبر قرنين ونصف مثلاً بشرح هذا الحكم وتطبيقه على مفردات زمنية متعدّدة، ورفع أيّ تفسير خاطئ لهذا الحكم يمكن أن يطرأ بمرّ السنين، والإجابة عن الأسئلة التي تتصل بهذا الحكم شرحاً ونقداً وتفصيلاً. وهذا كلّه يعني أنّ نظرية العصمة عند القائلين بها لا تختصّ بتأسيس أحكام جديدة، فلعلّ بعض الأنبياء لم يأت بأحكام جديدة لم يسبق أن أتى بها أنبياء قبله، بل أعاد تكرار ما قاله من جاء قبله من الرسل لهداية الناس إلى الحقّ.
بل يذهب أنصار نظريّة العصمة أبعد من ذلك، عندما لا يرون العصمة خاصّة بمسألة بيان الأحكام، بل بالسلوك العملي والإداري للمعصوم أيضاً؛ فهم يعتقدون بأنّ وجود معصوم على رأس المجتمع الإسلامي لقرابة ثلاثة قرون تقريباً (النبي مع عصر الأئمّة) هو بنفسه حاجة لتأصيل وتعميق وترسيخ المفاهيم الإسلامية في عالم التطبيق والإجراء، وهو بنفسه حاجة لسوق المجتمع الإسلامي نحو التكامل؛ فالتكامل لا يكون بمجرد بيان المفاهيم، بل بإدارة تطبيقها في الحياة أيضاً، فكلّما كانت الإدارة معصومةً كانت عمليّة تكامل المجتمع أفضل وأسرع.
وبهذا يتبيّن أنّ الأئمّة من وجهة نظر القائلين بعصمتهم لا يمارسون اجتهاداً شبيهاً بسائر الفقهاء، بل هم يفهمون الدين من مصادره فهماً لا يقبل الخطأ، ولا يديرون مجتمعاً كسائر الرؤساء، بل هم يمارسون إدارةً متقنة لا تشوبها الأخطاء، فمجرّد أنّهم يتّجهون للكتاب والسنّة ليفهموا الدين لا يعني أنّهم صاروا كسائر المجتهدين من جميع الجهات.
هذا كلّه فيما يتصل بمبدأ العصمة، ويجب أن يُعلم أنّ القائلين بالنبوّات أو بإمامة الأئمّة من أهل البيت لا يتفقون على درجة العصمة الثابتة لهم، وإن كانت العصمة في التبليغ ممّا تكاد الأنظار تتفق عليه، بل بينهم اتجاهات كلاميّة متعدّدة بعضها يوسّع من هذه الدائرة وبعضها أقلّ سعةً، ويمكن مراجعة ذلك في كتب الكلام لا سيما الكتب الكلامية القديمة، فمثلاً لا يتفق الجميع على امتناع السهو عن المعصوم، لاسيما في الأمور غير الشرعيّة كالأمور الخارجيّة، بل بعضهم كالشيخ الصدوق (381هـ) يرى إمكان السهو على المعصوم، بل وقوعه. وهكذا لا يتفق الجميع على امتناع الخطأ عن المعصوم في غير القضايا ذات الصلة بالدين، كما لو رمى سهماً فلم يُصب الهدف، فإنّ بعضهم لا يرى العصمة في مثل هذه المساحة من تصرّفات المعصوم، ومن الضروري تحديد مساحة العصمة بشكل دقيق. بل قد تجد بعض المعاصرين يرى أنّ العصمة نسبيّةٌ، بمعنى أنّ الأنبياء والأئمّة هم ـ من حيث مجموع حياة كلّ واحد منهم ـ أقلّ الناس ذنباً، فهم بالنسبة لسائر الناس أقلّهم ذنوباً، لا أنّهم لا يذنبون بالمرّة، وقد تجد بعضاً آخر كأنّه يرى أنّ العصمة إنّما تكون في إطار سيرتهم العامّة وما جروا عليه وكان عليه ديدنهم، لا أنّهم في كلّ فعل من الأفعال الجزئيّة معصومون بالضرورة، ويعتبرون هذه النظرية هي النظريّة الأفضل لتفسير كلّ النصوص القرآنية والحديثية التي تنسب بعض الأخطاء والذنوب للأنبياء والأئمّة، دون ممارسة تأويلات متكلّفة لهذه النصوص.. ويمكنكم مراجعة أكثر السجالات الكلاميّة في هذه التفاصيل في موضعها. وهكذا تمتدّ القضية في التوسعة والتضييق إلى موضوعات العلم بالغيب وموضوع الولاية التكوينية وموضوع خلقهم قبل خلق العالم ونظريّة الأنوار، وموضوع الوجود اللاهوتي والناسوتي لهم، وغير ذلك من القضايا المختلف فيها حتى بين القائلين بالعصمة.
ولا بأس أن نشير أخيراً إلى أنّ موضوع العصمة بات بالتدريج وبمرور الزمان واحداً من أكثر الموضوعات التي يحرم التفكير فيها في المناخ الإسلامي عموماً، بعد أن كان موضوعاً بحثياً مختلفاً فيه جداً في القرون الأولى بين المسلمين، فلا يمكن لأحد أن يتكلّم عن ما ينافي عصمة النبيّ أو الإمام، مهما كان رأيه محدوداً، وهذا ـ أي تحريم التفكير في هذا الموضوع وأمثاله ـ في رأيي الشخصي مخالفٌ لفتح باب الاجتهاد في علم الكلام، فبين أهل الاختصاص والجهابذة النقّاد من علماء الكلام يجب أن تظلّ هذه الموضوعات مفتوحةً على طاولة البحث مادامت تتواصل عملية توليد الآراء الجديدة فيها والأفكار النقديّة حولها، ولا يصحّ إغفال هذا الموضوع ووضع (شمعٍ أحمر) على تناوله على مستوى المختصّين، وهذا أمر لا يختصّ بعصمة الإمام، بل يشمل عصمة الأنبياء أيضاً، وعدالة الصحابة كذلك. وينتج عن ذلك ـ كما قلنا في كتابنا المتواضع 2 ـ منح المتكلّمين وعلماء العقيدة وأهل الاختصاص حصانةً تسمح لهم بالاختلاف فيما بينهم في وجهات النظر في هذه القضايا وأمثالها، بدل خلق مناخ قمعي ترهيبي، وحجر اجتماعي وديني عليهم، إذا خرجوا بخلاف الرأي السائد 3.