الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

سياسة الإمام الحسين(عليه السلام) في هزّ ضمير الاُمّة

۱ ـ حتميّة القتل:
وقد حاول الإمام الحسين (عليه السلام) واستطاع أن يُشعر الاُمّة باستمرار أنّه يتحرّك وهو يعلم أنّه مقتول، يتحرّك وهو يعلم أنّه يستشهد: في المدينة قال للمحتجّين عليه بأنّه سوف يقتل 1. في مكّة وقف خطيباً يودّع بيت الله الحرام وقال بأنّه سوف يقتل 2؛ لكي يجعل الاُمّة تعيش هذه الاُسطورة، اُسطورة أنّ شخصاً يتقدّم نحو الموت وهو ثابت الجأش، قويُّ القلب، واضح اليقين في أنّ هذا الطريق يريده الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).
إذاً، فالموت ليس خطراً إذا كان هذا الموت هو طريق إنقاذ المسلمين، هو طريق تخليص الاُمّة من مؤامرة الجبابرة والطواغيت.

كان يُشيع في نفوس المسلمين أنّ الموت شيءٌ هيّنٌ في سبيل هذه الأهداف الكبيرة.. نعم، أنا سوف أموت.. نعم، أنا سوف اُقتل على أيّ حال، سوف اُقتل لأنّ هذا طريق واجب، لابدّ لي أن أسلك هذا الطريق لكي أستطيع بذلك أن اُؤدّي الأمانة. هذا من ناحية.
۲ ـ عدم الظهور بمظهر من لا يملك تبريراً لحركته:
ومن ناحية أحكم كلَّ ظروف حركته بشكل لا يبعث في ذهن هذه الاُمّة المسلمة المائعة أيَّ نقد في أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استعجل الظروف، أو أنّه استبق أوانه وتحرّك بحركة ابتدائيّة بدون مبرّر، حشد كلّ المبرّرات المنطقيّة والمعقولة لحركته، لم يكن هناك إنسان يمكنه أن يقول: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد استعجل الموقف قبل أن يتأكّد من الظروف.
كيف يقال: إنّه استعجل الموقف قبل أن يتأكّد من الظروف وقد بقي في مكّة طويلاً والكتب تأتي ولا يجيب عليها، إلى أن اجتمعت عنده آلاف من الكتب 3؟!
وبعد هذا أيضاً لا يجيب جواباً قاطعاً؛ يبعث ابن عمّه مسلم بن عقيل، لا يوصيه بقتال ولا بحرب، وإنّما يوصيه أن يذهب إلى الكوفة ليرى أنّ أهل الكوفة هل هم مزمعون حقيقةً على أن يبايعوا خطَّ الإمام علي (عليه السلام)، وعلى أن يضحّوا في سبيل خطّ الإمام (عليه السلام) ؟

يذهب مسلم بن عقيل إلى الكوفة، يبقى الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة حتّى يبعث إليه مسلمُ بنُ عقيل مؤكِّداً أنّ جميع أهل الكوفة وشيوخ أهل الكوفة قد اتّفقوا على زعامتك وإمامتك وقيادتك، وهم لك منتظرون 4.
كلّ هذه الظروف هيّأها الإمام الحسين (عليه السلام) ـ أو صبر حتّى تتهيّأ ـ لكي لا يبقى هناك نقدٌ لمنتقد، لكي لا يقول شخصٌ يريد أن يخلق المبرّرات بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استعجل. الحسين لم يستعجل.
۳ ـ حشد المثيرات العاطفيّة:
من ناحية ثالثة: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حشد كلّ الظروف العاطفيّة في حركته أيضاً كي يستعين بهذه الظروف العاطفيّة في سبيل أن يهزّ ضمير الاُمّة.

أ ـ لعلّ ذاك الشخص لم يفهم حينما قال له الإمام الحسين: «إنّي أعلم أنّي سوف اُقتل»، قال له: «يا سيّدي ما بال النسوة؟ فلماذا تأخذ معك حريم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟»، قال: «لأنّ الله أراد أن يراهنّ سبايا».
ولم تكن هذه الإرادة إرادةً تكوينيّة، وإنّما كانت إرادة تشريعيّة، يعني: أراد أن يصحب معه النسوة من حريم النبي (صلى الله عليه وآله) حتّى يشارِكْنَ في المحنة، ويشارِكْنَ في اعتداء طواغيت بني اُميّة؛ لكي يكون هذا عاملاً مساعداً في هزّ ضمير الاُمّة.
هذه الظروف العاطفيّة أيضاً حشدها باستمرار، وكان يحاول باستمرار أن يستثير كلَّ من يجده، حتّى عبدالله بن عمر، حتّى أعداءه وخصومه.
قال: «يا عبدالله بن عمر! لا تترك نصرتي»5؛ يعني: ليست نصرتي بأن تقبِّلني 6 وأن تكرّمني، وإنّما نصرتي بأن تمشي في خطّي، بأن تبذل دمك في الخطّ الذي أبذل فيه دمي. أمّا التقبيل، أمّا هذا النوع من التكريم الرخيص، هذا ليس له قيمة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله).

كان يحاول أن يهزّ ضمير الاُمّة، يهزّ ضمير كلِّ فرد من أفراد الاُمّة، لكنّ الاُمّة كانت في سبات، هذه الاُمّة التي ماتت إرادتها.
ب ـ عبيدالله بن الحرّ الجعفي الذي وصل إلى منزل من المنازل، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) في ذلك المنزل، واطّلع الإمام الحسين على أنّ عبيدالله بن الحرّ الجعفي وصل إلى ذلك المنزل، وعبيدالله بن الحرّ الجعفي له سوء سابقة في تاريخ جهاد الإمام علي (عليه السلام)  7، لكنّ الإمام الحسين حاول أن يهزّ ضميره، بعث إليه برسول يطلب منه النصرة 8.
ذهب رسول الإمام الحسين إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي قال له: «جئتك بالكرامة، جئتك بكرامة لا يوجد فوقها كرامة؛ بأن تُستشهد بين يدي ابن رسول الله.. إنّ الحسين يدعوك لنصرته والاستشهاد بين يديه»، فظهر الغضب في وجه عبيدالله بن الحرّ الجعفي والضيق وقال: «إنّي خرجت من الكوفة خوفاً من أن يأتي الحسين، وأن تقوم المعركة ويتأزّم حينئذ موقفي.. خرجت فراراً من أن أعيش هذه اللحظة التي جعلتَني أعيشها الآن»، ثمّ اعتذر من الاستجابة للإمام الحسين (عليه السلام).

الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكتفِ بهذا، قام بنفسه وجاء إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي يستصرخه، يطلب منه، يحاول أن ينفذ إلى أعماقه، أن يحرّك ضميره ووجدانه، أن ينبّهه إلى الأخطار التي تكتنف الرسالة والإسلام.
يقول الناقل: «ما رقّ قلبي كما رقّ يومئذ والحسين (عليه السلام) حوله الصبية من أطفاله يطوفون به، ويمشي إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي يستصرخه ويناديه، فيعتذر عبيدالله بن الحرّ، يقول له: هذه فرسي خذها بدلاً عنّي»9.
يقول (عليه السلام): «إنّي لست بحاجة إلى فرسك، إن كنت قد بخلت بدمك على الإسلام وعليَّ فلا حاجة في فرسك، لكن عندي وصيّة»، قال: «وما الوصيّة؟» قال: «إن قدرت على أن لا تسمَعَ واعيتنا فافعل؛ لأنّه ما سمع واعيتنا شخصٌ ثمّ لم ينصرنا إلّا أكبّه الله على وجهه يوم القيامة في جهنّم».

وهذه الواعية ـ واعية الإمام الحسين ـ واعية الإسلام؛ لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استشهد في سبيل الإسلام، ولم يكن يعيش تلك اللحظة إلّا للإسلام؛ فواعية الإمام الحسين (عليه السلام) هي واعية الإسلام، والأخطار التي كان من أجلها يضحّي الإمام الحسين وقتئذ هي الأخطار التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة عبر كلّ هذه القرون إلى يومنا هذا.
قتل الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهد في سبيل الحيلولة دون الأخطار التي عاشها المسلمون ويعيشونها إلى يومنا هذا 10.

  • 1. اللهوف على قتلى الطفوف: ٦٤ ـ ٦٥ بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.
  • 2. «خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي...». المصدر السابق: ٦٠.
  • 3. المصدر السابق: ۳٥.
  • 4. تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) ٥:۳۹٥ بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
  • 5. قال (عليه السلام): «اتّق الله أبا عبد الرحمن، ولا تَدَعَنَّ نصرتي». الفتوح ٥:۲٥ بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
  • 6. «فلمّا رأى ابن عمر إباءه قال: يا أبا عبدالله! اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقبّله منك، فكشف الحسين (عليه السلام) عن سرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى». الأمالي (الصدوق): ۱٥۳ بحسب الطبعة الرابعة لمنشورات المكتبة الإسلاميّة.
  • 7. «لمّا قُتل عثمان وكان من أمر الجمل ما كان، خرج عبيدالله بن الحرّ إلى معاوية بالشام فالتجأ إليه، ولم يشاهد حرب الجمل». الفتوح ٦:۲٦۹ بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
  • 8. هو الحجّاج بن مسروق الجعفي.
  • 9. «دخل عليَّ الحسين (رضي الله عنه) ولحيته كأنّها جناحُ غراب، وما رأيت أحداً قطُّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين، ولا رققت على أحد قطُّ رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله»، والناقل هو عبيدالله بن الحرّ نفسه؛ حيث قصّ قصّته مع الإمام الحسين (عليه السلام) على يزيد بن مرّة، فراجع: خزانة الأدب ۲:۱۳۹ بحسب الطبعة الاُولى لدار الكتب العلميّة ببيروت.
  • 10. المصدر : النهضة الحسينية ، الطبعة الأولى / النجف الأشرف.