حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
رحلة السبايا إلى الكوفة
وأخيرا، ظن الأمويون أنهم استطاعوا النيل من النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، بمقتل سبطه الحسين (عليه السلام) وأصحابه وذريته، وحسبوا أن يدهم قد بسطت على هذه الأمة، وأنهم بقتل الحسين (عليه السلام) أصبحوا قادرين على فعل ما يشاؤون، دون أن يردعهم رادع، أو يمنعهم مانع، فرفعوا من مستوى نكايتهم بذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسبوا نساءهم، كما تسبى نساء الأعداء وتملك.
ولكنهم لم يدركوا أن في ذلك بداية فضحهم أمام الملأ، وأن هذا السبي، وإن كان إذلالا لبنات الرسالة بحسب الظاهر، ولكنه في حقيقة الأمر ثمرة مباركة من ثمرات الحركة الحسينية، وشرط أساسي لإعمال مفاعيلها، وإنجاحها على المستوى الإعلامي العام، وبيان أكذوبة الأمويين في انتمائهم إلى الإسلام، من خلال مواقف الإمام زين العابدين (عليه السلام)، والحوراء زينب وأم كلثوم، وغيرهم من أهل بيت النبوة، وكان هذا السبي مضافا إلى قتل الحسين (عليه السلام) أثرا بالغا في تثبيت الحق، وإعادة الرونق والأصالة إلى دين الإسلام، بعدما كادت دعائمه أن تنهار في عالم النسيان والإهمال.
بداية الرحلة
لم تكن رحلة السبايا من أهل بيت النبوة، شبيهة بمثيلاتها من سبايا الحروب، بل فاقت كل التوقعات في الفظاعة والهمجية، رغم انتساب خصومهم، بحسب الظاهر، إلى دين جدهم محمد (صلى الله عليه وآله)، فقد بدأت رحلة العذاب هذه بسلب النساء ثيابهن، يقول حميد بن مسلم: «والله لقد كنت أرى المرأة من نسائه (أي الحسين (عليه السلام)) وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها،… وجاء عمر بن سعد… فسألته النسوة أن يسترجع ما أخذ منهن ليستترن به 1».
وزاد ابن سعد نكاية في أهل البيت أن سلبوا الحسين (عليه السلام) وأصحابه، وقطعوا رؤوسهم، وداست خيولهم صدر الحسين (عليه السلام)، ثم مروا بالنساء على هذه الجثث الطاهرة، التي لم يجرؤ أحد على دفنها، حتى رحل الطاغية إلى الكوفة، فجاء قوم من بني أسد كانوا قد نزلوا المحلة ودفنوها، كما أجمعت عليه المصادر التاريخية.
ورغم عظم المصاب، وشدة اللوعة، فقد أثبتت الحوراء زينب (عليها السلام) من رباطة الجأش، والتسليم والرضا بقضاء الله تعالى وقدره، ما حير الألباب، وسلب العقول، فهي لم تلفظ كلمة يفهم منها أي اعتراض، يجعل للأعداء طريقا للتشفي والشماتة بأهل البيت، فتجعل ذلك نصرا حقيقيا للأمويين وأذنابهم، بل حولت مصيبتها إلى درس يستفيد منه جميع الناس، واستحقت بذلك أوسع الأوسمة، سواء أمام المسلمين أم غيرهم، حين نظرت إلى جثة سيد الشهداء (عليه السلام)، ونادت جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي تقول: «يا محمداه صلى الله عليك وملائكة السماء، هذا حسين بالعراء، مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفى عليها الصبا»، وكان من تأثير هذا الموقف أن انفجر الجميع بالبكاء حتى الأعداء.
ومما يزيد المشهد بشاعة وأسى، ويكشف عن دناءة الفريق الآخر، أن ساروا بالسبايا على أقتاب الإبل، يتقدمهم رؤوس الحسين (عليه السلام) وسبعين أو ثمانين من أصحابه وأهل بيته، مرفوعة أمام أعين السبايا نحو الكوفة، لتقدم إلى عبيد الله بن زياد لعنه الله في مقر الإمارة، كما يكشف من ناحية أخرى على سمو مقام أهل البيت، الذين أذلوا أعداءهم، رغم ما كانوا فيه من المحنة، التي لا يقوى على تحويلها إلى نصر سواهم.
وهنا لا بد من الإلتفات إلى أنهم كانوا سادة الكوفة إلى وقت قريب، عندما جعلها أمير المؤمنين (عليه السلام) مركزا لخلافته، أحسن إليهم، وفي هذا المشهد زيادة أسى لسادتهم وأبناء سيدهم، كما هو معلوم، حيث خرجوا من الكوفة أعزة مكرمين، وها هم يرجعون إليها الآن بهذه الحالة المؤلمة.
في أزقة الكوفة
وما إن وصل الموكب إلى الكوفة، وانتشر الخبر بين الناس، حتى ازدحمت الشوارع والطرقات، وتراكض الناس ليروا قافلة السبايا، معلنين عن بهجتهم وفرحهم بنصر المسلمين على أعدائهم، وهم يظنون أنهم من سبايا الروم، لأن خبر مقتل الحسين (عليه السلام) لم يكن قد انتشر في الكوفة بعد، وأشرفت امرأة من سطح بيتها، فرأت نساء حاسرات الرؤوس وهن كالعاريات لولا أسمال تقنعن بها، وأرادت المرأة أن تستوثق الخبر، فهي لم تر مثل هذه القافلة من قبل وما يلفها من الحزن واللوعة، كما لم تر أسرى من الصبيان يشدون بالحبال على أقتاب الجمال، فأدنت المرأة رأسها من إحدى السبايا وسألتها: من أي الأسارى أنتن؟ فقالت لها: نحن أسارى أهل البيت من آل محمد 2.
وهنا كانت الصدمة، إذ تراجعت المرأة باكية وأعلنت للملأ أنهن سبايا أهل البيت، فعلا الصراخ والنحيب، وتراكضت النساء إلى الموكب يقذفن عليه الأزر والمقانع ليسترن بها بنات الرسالة، وارتجت الكوفة كلها بالندب والبكاء.
وعندما رأت العقيلة أهل الكوفة في هذه الحال أشارت إليهم بالسكوت، ولما هدأت الأصوات توجهت إليهم بكلمة، تذكر بمنطق أبيها (عليه السلام) وتكشف حقيقة ما انطوت عليه قلوب أهل الكوفة من الغدر والخيانة، وتبشرهم بسوء العاقبة والمصير، وكان مما قالته لهم:
«أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون، فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ألا وهل فيكم إلا الصلف وملق الإماء وغمز الأعداء، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون…»
وهي خطبة مملوءة بالمعاني المعبرة، والدلالات الواضحة على ما تمتلكه السيدة الحوراء من عمق معروف بالمجتمع، وسعة اطلاع ودقة إدراك في المسائل الدينية، وسمو في النفس، وتعال على الجراح والمأساة، حتى كادت تلحق بالمعصومين (عليهم السلام).