حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
اصلاح النفس قبل اصلاح الغير
تتميم
قد تلخص أن حقيقة العدالة أو لازمها أن يغلب العقل الذي هو خليفة الله على جميع القوى حتى يستعمل كلا منها فيما يقتضي رأيه، فلا يفسد نظام العالم الإنساني، فإن الواجب سبحانه لما ركب الإنسان بحكمته الحقة ومصلحته التامة عن القوى الكثيرة المتضادة، فهي إذا تهايجت وتغالبت ولم يقهرها قاهر خير، حدثت فيه بهيجانها واضطرابها أنواع الشر، وجذبه كل واحدة منها إلى ما يقتضيه ويشتهيه، كما هو الشأن في كل مركب. وقد شبه المعلم الأول مثله بمن يجذب من جهتين حتى ينقطع وينشق بنصفين أو من جهات كثيرة فيتقطع بحسبها. فيجب على كل إنسان أن يجاهد حتى يغلب عقله الذي هو الحكم العدل والخير المطلق على قواه المختلفة، ليرفع اختلافها وتجاذبها ويقيم الجميع على الصراط القويم.
ثم كل شخص ما لم يعدل قواه وصفاته لم يتمكن من إجراء أحكام العدالة بين شركائه في المنزل والبلد، إذ العاجز عن إصلاح نفسه كيف يقدر على إصلاح غيره، فإن السراج الذي لا يضئ قريبه كيف يضيئ بعيده، فمن عدل قواه وصفاته أولا واجتنب عن الإفراط والتفريط واستقر على جادة في أرضه، وإذا كان مثله حاكما بين الناس وكان زمام مصالحهم في قبضة اقتداره، لتنورت البلاد بأهلها، وصلحت أمور العباد بأسرها، وزاد الحرث والنسل، ودامت بركات السماء والأرض.
وغير خفي أن أشرف وجوه العدالات وأهمها وأفضل صنوف السياسات وأعمها هو عدالة السلطان، إذ غيرها من العدالات مرتبطة بها ولولاه لم يتمكن أحد من رعاية العدالة، كيف وتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل يتوقف على فراغ البال وانتظام الأحوال، ومع جور السلطان أمواج الفتن متلاطمة، وأفراج المحن متراكمة، وعوائق الزمان متزاحمة، وبوائق 1 الحدثان متصادمة، وطالبو الكمال كالحيارى في الصحارى لا يجدون إلى منازله سبيلا ولا إلى جداوله مرشدا ودليلا، وعرصات العلم والعمل دراسة الآثار، ومنازلهما مظلمة الأرجاء والأقطار، فلا يوجد ما هو الملاك في تحصيل السعادات، أعني تفرغ الخاطر والاطمئنان وانتظام أمر المعاش الضروري لأفراد الإنسان.
ولذا لو تصفحت في أمثال زماننا زوايا المدن والبلاد واطلعت على بواطن فرق العباد، لم تجد من الألوف واحدا تمكن من إصلاح نفسه ويكون يومه خيرا من أمسه، بل لا تجد دينا إلا وهو باك على فقد الإسلام وأهله، ولا طالبا إلا وهو لعدم المكنة باق على جهله، ولعمري أن هذا الزمان هو الزمان الذي أخبر عنه سيد الأنام وعترته الأبرار الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام من أنه: " لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه ".
وبالجملة: المناط كل المناط في تحصيل الكمالات وإخراج النفوس من الجهالات، هو عدالة السلطان، واعتناؤه بإعلاء الكلمة، وسعيه في ترويج أحكام الدين والملة، ولذا ورد في الآثار: (إن السلطان إذا كان عادلا كان شريكا في ثواب كل طاعة تصدر عن كل رعية، وإن كان جائرا كان سهيما في معاصيهم). وقال سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم: " أقرب الناس يوم القيامة إلى الله تعالى الملك العادل وأبعدهم عنه الملك الظالم ".اصلاح وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة ". والسر أن أثر عدل ساعة واحدة ربما يصل إلى جميع المدن والأمصار ويبقى على مر الدهور والأعصار، وقال بعض الأكابر: لو علمت أنه يستجيب لي دعوة واحدة لخصصتها بإصلاح حال السلطان حتى يعم نفعه.
تنوير لا حاجة إلى العدالة مع رابطة المحبة لو استحكمت رابطة المحبة وعلاقة المودة بين الناس لم يحتاجوا إلى سلسلة العدالة، فإن أهل الوداد والمحبة في مقام الإيثار ولو كان بهم خصاصة، فكيف يجور بعضهم على بعض. والسر أن رابطة المحبة أتم وأقوى من رابطة العدالة، لأن المحبة وحدة طبيعية جبلية، والعدالة وحدة قهرية قسرية. على أنها لا تنتظم بدون المحبة، لكونها باعثة للإيجاد، كما أشير إليه في الحديث القدسي: " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف ". فالمحبة هو السلطان المطلق، والعدالة نائبها وخليفتها 2 3.
- 1. البائقة: الداهية والشر. ويقال: رفعت بائقة فلان أي غائلته وشره، جمعه بوائق.
- 2. ولذلك إن الشريعة الإسلامية أول ما دعت فيما دعت إلى الأخوة والتآلف بين الناس، وكثير من أحكامها مثل الجماعة والجمعة والإيثار والاحسان وتحريم الغيبة والنبز ونحو ذلك تستهدف إيجاد رابطة الحب بين الشعوب والقبائل والأفراد، ليستغنوا عن الأخذ بقانون العدل الصارم المر.
- 3. المصدر: كتاب جامع السعادات، العلامة محمدمهدي النراقي رحمه الله.