الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الامام الصادق اصحابه وحملة فقهه ورجال حديثه

إن المتأمل في سيرة حياة الإمام الصادق (عليه السلام) يلمس مدى الحرص والاهتمام بنشر الرسالة الإسلامية وإيصالها إلى كل إنسان، مسلماً كان أو غيره، وهذا كاشف بلا شك عن روح المسؤولية التي عاشها الإمام (عليه السلام) في عصره الذي أتاح له فرصة ذهبية لم تتيسر لغيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فاستغلها الإمام أحسن الإستغلال وعمل على توضيح العقائد والأصول الإسلامية لتثبيت الإسلام في نفوس أبنائه، ولمواجهة المد الفكري المنحرف الذي كان المجال مفتوحاً أمامه في ذلك الزمن أيضاً.
ومما لا ريب فيه أن الإمام الصادق (عليه السلام) قد حقق نجاحاً باهراً وملفتاً للنظر في مهمته تلك، وليس أدل على ذلك مما سطّره المؤرخون والرواة الذين تحدثوا عن سيرة الصادق (عليه السلام) وإنجازاته، وعلى رأسها آلاف من التلامذة الذين تتلمذوا على يديه وانتشروا في عموم أرجاء العالم الإسلامي آنذاك يبثون علوم الشريعة المختلفة، وكلهم ينقل ذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام).
فالجوانب التي يمكن الحديث عنها من حياة الصادق (عليه السلام) كثيرة، إلا أننا سوف نقصر الكلام على العنوان المحدد وهو "أصحابه وحملة فقهه ورجال حديثه"، وهذا العنوان قد نتمكن من تطويره ليشير إلى مضمون أوسع تنظيماً وأدق هدفاً وأوضح برنامجاً من العنوان المطروح، ويمكن أن نسمي العنوان الجديد ب(تنظيم العمل التبليغي عند الإمام الصادق (عليه السلام))، لأن المدقق في طريقة تعامل الإمام (عليه السلام) مع هذا الصنف من الناس تدل على ذلك وتشير إليه بوضوح كبير.
وللتمهيد نقول إن أوضاع الأمة التي تردت في زمن الحكم الأموي والتلاعب بأمور الشريعة وفق أغراض الحكام وأهوائهم قد أدت إلى مسار منحرف في مسيرة المجتمع الإسلامي، ويضاف إلى هذا دخول أقوام متعددة في هذا الدين مما أسهم في إدخال عقائد دخيلة على ذلك المجتمع آمن بها البعض وصار يروج لها بين المسلمين، وكان موقف الحكام على ما يبدو وللناظر المتأمل موقفاً متساهلاً ومتسامحاً مع تلك العقائد، إن لم نقل بأنها كانت في بعض الأحيان مورد الحماية من السلطان لأنها تخدم أهدافهم في ترسيخ ملكهم وإحكام سيطرتهم، لأن هذه العقائد عندما تنتشر في الأوساط ويصبح لكل واحدة منها مناصرون وأتباع سوف تلتهي الناس بها وتنصرف عن الحكام وآلاعيبهم ومخططاتهم، ويضاف إلى ذلك أيضاً التضييق والحصار المفروضين على الشرفاء من أبناء الأمة وخصوصاً على أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الأمناء على الرسالة والمخلصين لعقيدة جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ذلك الحصار الذي كان مانعاً لهم من التواصل الواسع مع القواعد الجماهيرية والشعوب الإسلامية، وعائقاً أمام نشر العلوم الصحيحة للشريعة في مقابل علماء السوء ووعاظ السلاطين الذين كانوا ينشرون الفساد في العقيدة بحماية السلطات الظالمة وتأييدها.
لهذا كله نجد أن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي كان يدرك أخطار تلك الأمور مجتمعة على الشريعة واستمراريتها، وضع نصب عينيه هدفاً أساساً هو تخليص العقيدة الإسلامية وتحريرها من كل ذلك الزيف الذي يراد له أن يصبح جزءاً منها ليأخذ دوره في المجالات التطبيقية المختلفة في حياة المسلمين، وآثر عدم الدخول كطرف مباشر في الصراعات ضد الحكم الأموي، لأنه كان يرى أن تنقية الإسلام وتصحيح توجهات المسلمين أولى بالاهتمام والرعاية من الدخول في تلك النزاعات التي كان يغلب على أكثرها الميل نحو استلام الحكم وإدارة دفة الأمور أكثر مما يغلب عليها طابع الدفاع عن العقيدة بوجه الظالمين من الحكام، ومن هنا كان رفض الإمام (عليه السلام) الدائم للدخول في أية حركة من هذا النوع، بل وإنه كان يحذر من العواقب التي ستنجم عنها نظراً لعدم توافر الشروط الموضوعية لمثل تلك الحركات الثورية حتى ولو كانت منطلقة من توجهات سليمة غير مشوبة بحب السلطة.
والذي أعطى للإمام الصادق (عليه السلام) القدرة على الدخول في تنفيذ ما خطط له هو انصراف الحكم الأموي إلى الدفاع عن وجوده في مواجهة الثورة الشاملة التي قادها بنو العباس ضده والتي استنزفت إمكاناته وقدراته، مما جعله يخفف بالتالي من ضغطه على أهل البيت (عليهم السلام) ومن حصاره المفروض على الإمام (عليه السلام)، وكذلك ما سمح لمخطط الصادق (عليه السلام) بالنهوض هو التجربة الناجحة التي بدأت في زمن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) الذي استطاع في المرحلة الأخيرة من حياته المباركة أن يستغل بدايات الانحسار للحكم الأموي لكي يبدأ بنشر علوم الإسلام المحمدي الأصيل ويستقطب من خلال ذلك عدداً من العلماء والرواة الذين أكملوا المسيرة مع الإمام الصادق (عليه السلام) في المرحلة اللاحقة.
ولا شك أن الانفتاح الذي قام به الإمام (عليه السلام) شد إليه العلماء من كل الفئات والعقائد حتى المنحرفة منها يناظرهم ويناظرونه ويناقشهم ويناقشونه وفي كل ذلك تكون الغلبة لآراء الإمام (عليه السلام) وأفكاره وطريقته في الجدل والمناظرة، مما أعطاه بُعداً كبيراً وثقة مميزة عند عموم المسلمين آنذاك، وكانت تلك الشهرة سبباً كافياً لتقاطر العلماء وطلاب العلوم والرواة عليه، حتى وصل عدد رواد مدرسته أكثر من أربعة آلاف في شتى العلوم وميادين المعرفة.
وتلك الوفرة الكبيرة في عدد رواد الإمام (عليه السلام) فرضت أن يعتني الإمام بمن تلمس فيهم المقدرة على النهوض بأعباء التكاليف أو المهام التي سيوكلها إليهم، ولهذا اهتم بالتحديد بالأشخاص الكفوئين في الاختصاصات المختلفة، وعين لكل علم أو باب من أبواب المعرفة شخصاً أو أشخاصاً أوكل إليهم الدفاع عن الإسلام فيه، وتبيان آراء هذا الدين ونظرياته في هذا المجال، وما حفظته لنا سيرة الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المجال وإن لم تكن وافية بإعطائنا الصورة التفصيلية عن مخطط الإمام (عليه السلام)، إلا أن الموجود يكفي ليكون إشارة واضحة إلى ذلك التنظيم الذي كان لا بد منه في عصر انفتح فيه المسلمون على كل الثقافات ولم يعد الجهد الفردي وحده قادراً على القيام بكل العمل المطلوب.
ومن النماذج المهمة في العلوم المختلفة التي اختارها الإمام (عليه السلام) لتساعده في أداء المهمة نورد ما يلي:
في المجال العقائدي: هشام بن الحكم لمسائل الإمامة والعقائد، ومؤمن الطاق لمسائل علم الكلام.
في المجال الفقهي: أبان بن تغلب وزرارة بن أعين.
في المجال القرآني: حمران بن أعين حيث انتدبه للإجابة عن المسائل من كتاب الله.
والأسماء المذكورة هي عينة قليلة العدد جداً من الأصحاب المشهورين للإمام الصادق (عليه السلام) والذين كانوا يتزودون من علومه لينشروها بين المسلمين وليدافعوا عنه بوجه المشككين والملحدين والزنادقة في ذلك الزمن.
ولم يكتفِ الإمام (عليه السلام) بهذا القدر، وإنما كان يوجه تلامذته وأصحابه إلى مختلف البلاد الإسلامية لينشروا الإسلام الأصيل الذي لم تتح الفرصة لنشره قبل عهد الصادق (عليه السلام)، وكان المسموح بنشره هو ما يتوافق مع رغبات الحكام المتسلطين، وكان الإمام (عليه السلام) يزود أولئك الذين يرسلهم بالمال لغرض التجارة في الظاهر أو غيرها، بينما يكون السبب الحقيقي هو تبليغ الإسلام المحمدي لأنه الأولى بالوصول إلى قلوب الناس وعقولهم.
ومانريد الوصول إليه من خلال هذا العرض الموجز لطريقة الإمام الصادق (عليه السلام) في التدريس والتثقيف وطرق التبليغ في نشر الإسلام والدفاع عنه هو معرفة كيفية الاستفادة من تلك التجربة التي أنتجت نتاجاً عظيماً فرض وجوده في ساحات العلم في العالم الإسلامي، وبلغ من تأثير تلك المرحلة في زمن الصادق (عليه السلام) أن سُمِّي مذهبُ أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) باسم الإمام جعفر فيقال "المذهب الجعفري".
فالحري بنا والأولى لنا نحن اليوم الذين نعمل لخدمة الإسلام ونشره في مقابل كل الزيف والفساد الموجود أن ننبش ذلك التاريخ لاستجلاء تجربة الإمام الصادق (عليه السلام) وتجميع كل التراث حولها من أجل إلقاء الضوء على عناصر ومفردات تلك التجربة وكيف استطاعت أن تفرض نفسها لنستفيد منها في واقعنا العملي، كوننا المهتمين أساساً بتبليغ رسالة الله والدفاع عنها1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.