الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الخطوط العامة للفكر الإسلامي في القرآن‏ 2

 الإيمان الواعي‏

بالنظر والتدقيق في الآيات التالية نصل إلى المواضيع التالية:
1- يتمتع الإيمان بالأصول والمباني العقائدية، الذي كان أحد الخصائص العظيمة لرسول الله وأتباعه الخلّص، بأهمية فائقة حيث أكد عليه القرآن الكريم كثيراً: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ 1.

2- ولكنه الإيمان الواعي الذي يستند إلى التفهم والإدراك ويبتعد عن العمى والتقليد. وهذا هو الإيمان الذي ميزهم عن العبودية والتبعية الساذجة التي تجعل العمل هباءً منثوراً لا يصل صاحبه إلى نتيجة وفائدة.
وفي هذه الآيات نشاهد إشارة واضحة إلى هذا الوعي: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ... 2.

3- ولو لم يكن هذا الوعي والفهم والاستدلال الجلي لتبدل الإيمان إلى التحجر والعصب الجاهلي، ولا نسد طريق الوصول إلى الحقيقة والهداية أمام الإنسان. ولهذا يدين القرآن الكريم هذا النوع من الإيمان المتعصب والوراثي الذي يتمسك به الكفار والمخالفون بشدة. فلنستمع إلى هذا الخطاب الشديد والملي‏ء بالموعظة: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ 3.

الإيمان يولد العمل والالتزام‏

هل يكفي الإيمان المقتصر على التصديق والقبول الفكري الكامل لوحده؟ أم أنه يصبح معتبراً عندما يتحول إلى "مسيرة حياة" و"تعهد عملي"؟ نجد القرآن يؤكد على أن الإيمان يكون دائماً ملازماً للعمل ويتحول إلى دافع لأجل "سلوك الطريق نحو المطلوب" وفي عشرات الآيات يبين أن الأجر والثواب الدنيوي والأخروي يترتب على أساس "الإيمان المتلزم بالعمل". فننظر في آفاق الخطاب القرآني ونفكر فيه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ 4.

وفي الآيات المذكورة نجد أن أهم الخصائص الإيمانية الدينية وهي: النصر والتوفيق، الاجتباء، القيادة، ورقي البشرية وأخيراً النصرة والرعاية الإلهية تترتب على أساس الإيمان الممتزج بالعمل.
والآية التالية (من سورة الأنفال) تذكر بلهجة وببيان آخر الأعمال الناشئة من الإيمان، وتبين دور الإيمان المتلازم بالعمل في حفظ المجتمع الإسلامي.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ... 5.

الإيمان والالتزام بالتعاليم‏

الإيمان الصحيح- الذي كان باعثاً للتدبر في الآيات السابقة- متلازم مع التعهد (الالتزام). أما النفعيون والاستغلاليون فإ نهم لا ينظرون إلى مسؤولياتهم الإيمانية بعين الالتزام المطلوب والواجب.
بل ما دامت تلك التعاليم متناسبة مع منافعهم الذاتية واعتداءاتهم وتجاوزتهم فإنهم يلتزمون بها، وفي غير هذا الوضع فإنهم يدعونها جانباً ويهملونها.

أما ثقافة القرآن فإنها تصرح بأن مثل هؤلاء الناس- الذين لم يتركوا حتى ذخراً للإيمان القلبي ليوم الندامة في زوايا قلوبهم- غير مؤمنين وأن السعادة والفوز والفلاح والعلو و... وتلك البشائر الإلهية للمؤمنين تختص بأولئك الذين يلتزمون بكل التكاليف الدينية في جميع الأحوال.
والآيات التالية نداء القرآن الجلي في هذا المجال: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ 6.

ثم تبشر الآيتان التاليتان بالوعد الإلهي باستخلاف المؤمنين وسيطرتهم على العالم وإقامة المجتمع الإسلامي المثالي من قبل المؤمنين الذي يؤدون تكليفهم بما يتناسب مع الإيمان: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ... 7.

البشائر

ماذا يحتاج الإنسان لأجل الوصول إلى السعادة الكاملة والشاملة؟
1- يحتاج إلى: معرفة الهدف والمنزل النهائي للسعادة وطريق الوصول إليه (الهداية).
2- وإلى: إزالة حجب الجهل والغرور والشكوك وكل ما يعميه عن معرفة جوهر ذاته ويمنعه من الإدراك والفهم الصحيح حتى يشع نور الحقيقة في قلبه (النور).
3- وإلى: ما ينجيه أثناء سفره الطويل إلى السعادة من الوساوس الباطنية- التي هي أشرس وأخطر من العوامل الخارجية- (الطمأنينة والأمن).
4- وإلى: أن يرى أن سعيه مثمرٌ ويأمل بعاقبة حسنة.
5- وإلى: غفران خطاياه وعثراته (المغفرة والرحمة).
6- وإلى: الشعور في جميع الأحوال بأنه يعتمد على الأمور المطمئنة.
7- وإلى: القدرة التي تفوق قدرة البشر عند مواجهة الأعداء والمهلكات.
8- وإلى: التفوق على المعسكرات المعادية.
9- وإلى: الانتصار على قطاع الطريق الذين يولون دون وصوله إلى الهدف.
10- وإلى: أن تكون عاقبته في كل الصعاب والشدائد والمخاطر الوصول إلى الهدف والمقصود والنهائي (الفوز والفلاح).
11- وإلى: الاستفادة في جميع الأخوال- أثناء السفر وعند الوصول- من العطايا العظيمة التي أعدت للبشر في هذا العالم.
وأخيراً: بعد انتهاء دورة الحياة وخاتمة جميع المساعي يصل إلى الثواب اللائق ويحل في جنة الرضوان.

والآن لنستمع إلى خطاب القرآن الذي يبشر أولئك الذي يسلكون سبيل الإيمان والعمل والالتزام.
1- الهداية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ... 8.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا 9.
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 10.

2- النور:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ 11.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ... 12.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ... 13.

3- السكينة والأمن والطمأنينة:
الخلوص من الوساوس والقلق والاضطرابات إحدى أهم خصائص وصفات المؤمن. والقرآن الكريم يبشره بهذه الحالة الروحية العظيمة ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ 14.
وهذا إبراهيم العظيم عليه السلام يقدم للمشركين الضالين في زمانه الذين لم يتبعوا الدين والمسلك المحكم فاضطربت أرواحهم ولم يعيشوا السكينة يقدم لهم نموذج سكون النفس والأمن الباطني الذي ينبع من الإيمان الراسخ.
﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ 15.

4- النتيجة المثمرة:
يعلم المؤمن أن كل خطوة يخطوها تقرّبه إلى الهدف، وأن كل حركة يقوم بها لها أثر طيب، ولا يضيع منه شي‏ء حتى تنتهي إلى العاقبة الحسنة ﴿ ... وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ 16.

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾ 17 18.

 

الخطوط العامة للفكر الإسلامي في القرآن 1