حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
الدنيا سوق ربح فيها قوم و خسر آخرون
روي عن الإمام الهادي عليه السلام «الدُّنْيَا سُوقٌ رَبِحَ فِيهَا قَوْمٌ وَ خَسِرَ آخَرُونَ»1.
و السوق هي امكان البيع و الشراء، و يحضر النّاس فيه البضاعة و السلع فيشترون و يبيعون، و يربح ناس و يخسر آخرون، و الدّنيا كذلك سوق كبير و فيه ربح و خسارة، منهم من يربح و منهم من يخسر، و الرابحون من يخرجون منها بما ينفعهم، و الخاسرون من يخرجون منها بما يضرهم، كما يقول الإمام الباقر عليه السلام، «إِنَّمَا اَلدُّنْيَا سُوقٌ مِنَ اَلْأَسْوَاقِ مِنْهَا خَرَجَ قَوْمٌ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَ مِنْهَا خَرَجُوا بِمَا يَضُرُّهُمْ»2.
و في بيان جهات هذه السوق روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام، قال «.. وَ اَلدُّنْيَا سُوقُ اَلْآخِرَةِ، وَ اَلنَّفْسُ تَاجِرَةٌ، وَ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ رَأْسُ اَلْمَالِ، وَ اَلْمَكْسَبُ اَلْجَنَّةُ، وَ اَلْخُسْرَانُ اَلنَّارُ، هَذَا وَ اَللَّهِ اَلتِّجَارَةُ اَلَّتِي لاَ تَبُورُ وَ اَلْبِضَاعَةُ اَلَّتِي لاَ تَخْسَرُ»3.
و الجهات أو الأركان هي : الإنسان و هو التاجر، و التجار متعددون و كل له شخصية و هوية و قدرة أو تجارة، و رأس المال هو الليل و النّهار أي الزمن، و هو مدة عمر الإنسان من ولادته حتى الممات أو من زمن التكليف حتى الممات، و رأس المال متعدد و غير متساوي فالأعمار غير متساوية و كذلك أموال التجار فبعض لديهم أموال طائلة و يتاجر بأنواع معينة من التجارة و آخرون يتاجرون بما يستطيعون بنسبة أموالهم، و الربح النهائي الأعظم يكون بالحصول على الجنّة، و أمّا الخسارة العظمى فهي في دخول النّار، و تقوى الله و طاعته و العمل بأحكامه هو التجارة التي لا تخسر و لا تكسد.
و في سوق الدّنيا هذه يُحسب كل صغير و كبير و كل خير و شر، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ 4.
كما لا ينبغي أن يتاجر الإنسان في هذه السوق الدنيوية بسلعة قد بارت و كسدت على من كان قبله فيكرر أخطاء الماضين بالمعاصي و الذنوب و الظلم، كما في الرواية القادمة عن الإمام الباقر عليه السلام حيث قال لعمر بن عبد العزيز: «وَ لاَ تَذْهَبَنَّ إِلَى سِلْعَةٍ قَدْ بَارَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ تَرْجُو أَنْ تَجُوزَ عَنْكَ، وَ اِتَّقِ اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ ..»5.
بل يسعى و يرجو تجارة لا تبور، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ 6.
و الدّنيا سوق من روايات ذم الدّنيا و قد تكرر هذا المعنى في رواياتهم عليهم السلام، و في غرر الحكم «اَلدُّنْيَا سُوقُ اَلْخُسْرَانِ»7، و «الدُّنْيَا خُسْرَانٌ»8.
و الخاسرون في الدّنيا أكثر من الرابحين، و قد جاء استثناء غير الخاسرين - و هم المؤمنون الذين يعملون الصالحات و يتواصون بالحق و يتواصون بالصبر - من مجموع الخاسرين في سورة العصر، قال تعالى:﴿ ... وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ 9.
الآية تبيّن الناجين من الخسارة أو الرابحين، و كأنّ النّاس كلهم في سوق الدّنيا برؤوس أموال، و الرابحون هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر.
العناصر الأربعة و هي الإيمان و العمل الصالح و التواصي بالحق و التواصي بالصبر أصل الربح و أساسه، و من لا يملكها و لا يغتنمها فهو خاسر، و لذلك فإن الخاسرون أكثر، فغالبية النّاس تفتقد هذه العناصر الأربعة للربح.
من النّاس من يعيش في هذه الدّنيا غير مباليا و لا مكترثا و كأنّ الدّنيا ستدوم له أو كأنّ لا شيئ بعدها، و منهم يجمع الأموال و يدخّرها للوارث و الحوادث، و منهم من ينفق عمره في إنشاء بيت مرموق ثم يعيش فيه سنوات قليلة ثم يموت لكنه لا يرقى إلى نظرة أعمق بتهيئة مواد إنشائية لتأسيس بيت في الآخرة، و يوجد من النّاس من ينفق الأموال في سبيل رفاهية أو رفاهيات في الدّنيا مؤقتة، و لا ينفق عشرها للسكن الدائم في الجنان الدائمة.
و هذا الربح في سوق الدّنيا و التجارات فيها يتضاعف أضعافا مضاعفة، ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ 10، يبارك الله فيه و ينميه لصاحبه بلطفه و رحمته تبارك و تعالى، و هو الرحمن الرحيم، و الله يقبل اليسير و يعفو عن الكثير كما في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي «يَا مَنْ يَقْبَلُ اَلْيَسِيرَ وَ يَعْفُو عَنِ اَلْكَثِيرِ اِقْبَلْ مِنِّي اَلْيَسِيرَ وَ اُعْفُ عَنِّي اَلْكَثِيرَ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ»11.
و في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام في الخصال في زمن عمر بن عبد العزيز، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ:
«كُنْتُ جَلِيساً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ اَلْعَزِيزِ حَيْثُ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ أَوْ ظُلاَمَةٌ فَلْيَأْتِ اَلْبَابَ، فَأَتَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَعْنِي اَلْبَاقِرَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ مَوْلاَهُ مُزَاحِمٌ فَقَالَ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بِالْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَدْخِلْهُ يَا مُزَاحِمُ، قَالَ فَدَخَلَ وَ عُمَرُ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ مِنَ اَلدُّمُوعِ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَا أَبْكَاكَ يَا عُمَرُ، فَقَالَ هِشَامٌ أَبْكَاهُ كَذَا وَ كَذَا يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَا عُمَرُ إِنَّمَا اَلدُّنْيَا سُوقٌ مِنَ اَلْأَسْوَاقِ مِنْهَا خَرَجَ قَوْمٌ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَ مِنْهَا خَرَجُوا بِمَا يَضُرُّهُمْ، وَ كَمْ مِنْ قَوْمٍ قَدْ ضَرَّهُمْ بِمِثْلِ اَلَّذِي أَصْبَحْنَا فِيهِ حَتَّى أَتَاهُمُ اَلْمَوْتُ فَاسْتَوْعَبُوا فَخَرَجُوا مِنَ اَلدُّنْيَا مَلُومِينَ لِمَا لَمْ يَأْخُذُوا لِمَا أَحَبُّوا مِنَ اَلْآخِرَةِ عُدَّةً، وَ لاَ مِمَّا كَرِهُوا جُنَّةً قَسَمَ مَا جَمَعُوا مَنْ لاَ يَحْمَدُهُمْ وَ صَارُوا إِلَى مَنْ لاَ يَعْذِرُهُمْ،...»2.
و في نهاية الرواية كتب عمر بن عبد العزيز بردّ فدك، قال: «فَدَعَا عُمَرُ بِدَوَاةٍ وَ قِرْطَاسٍ وَ كَتَبَ بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ هَذَا مَا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اَلْعَزِيزِ ظُلاَمَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَدَكَ»12.
و قيمة النفس للمؤمن هي الجنّة، قال الله في كتابه الكريم:﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ 13، فلا ينبغي أن تباع بدون ثمنها، و هي أيضا وصية من أمير المؤمنين «إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا»14. ألا يبيع النّاس أنفسهم في هذه السوق إلا بالجنّة فهو ثمنها الحقيقي و دون الجنّة خسارة و خسران.
و الله اللطيف الرؤوف الرحيم حذر المؤمنين من الخسران في هذه الدّنيا، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ 15.
المشهد الامتحاني للحر الرياحي يجسد صفقة سوق الدّنيا و الربح فيها، بين ربحه و خسارته قرار واحد، فقد أُرسل الحرّ الرّياحي و هو أحد زعماء أهل الكوفة و من قادة جيشها ليساير الحسين عليه السلام و يراقب حركته و لكنه قال في يوم عاشوراء «إنّي و الله أخير نفسي بين الجنة والنار ، و والله لا أختار على الجنّة شيئا و لو قطعت و حرّقت»16، و التحق بالحسين و استشهد معه و نال المنزلة العظمى بشهادته في كربلاء، و لذا خاطبه الحسين عليه السلام قائلا: «أَنْتَ اَلْحُرُّ كَمَا سَمَّتْكَ أُمُّكَ حُرّاً فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ»17.
الربح و المكسب في الشهادة مع الحسين (ع)، و الخاتمة هي الجنّة، و الخسارة و الخيبة المشاركة مع اليزيديين في حرب ضد الحسين، و الخاتمة هي جهنم.
و من أدعية الصحيفة السجادية «يَا مَنْ يَرْحَمُ مَنْ لاَ يَرْحَمُهُ اَلْعِبَادُ،..، خَابَ اَلْوَافِدُونَ عَلَى غَيْرِكَ، وَ خَسِرَ اَلْمُتَعَرِّضُونَ إِلاَّ لَكَ، وَ ضَاعَ اَلْمُلِمُّونَ إِلاَّ بِكَ، وَ أَجْدَبَ اَلْمُنْتَجِعُونَ إِلاَّ مَنِ اِنْتَجَعَ فَضْلَكَ،..».
- 1. تحف العقول،ج1ص483.
- 2. a. b. الخصال، ص ١٠٤، المناقب، ج4، ص207.
- 3. إرشاد القلوب،ج1، ص59.
- 4. القران الكريم: سورة الزلزلة (99)، الآية: 7 و 8، الصفحة: 599.
- 5. الخصال، ص١٠٤.
- 6. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 29، الصفحة: 437.
- 7. غرر الحکم، ص32
- 8. غرر الحكم، ص 507.
- 9. القران الكريم: سورة العصر (103)، من بداية السورة إلى الآية 3، الصفحة: 601.
- 10. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 261، الصفحة: 44.
- 11. إقبال الأعمال، ص67.
- 12. الخصال، ص ١٠٤.
- 13. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 111، الصفحة: 204.
- 14. نهج البلاغة، حكمة 456.
- 15. القران الكريم: سورة المنافقون (63)، الآية: 9، الصفحة: 555.
- 16. مقتل الحسين (ع)، أبو مخنف الأزدي، ص١٢١
- 17. اللهوف،ص102.