الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الدين والمدنية.. والتلاقي الحتمي

من الذين اعتنوا عناية فائقة بمسألة العلاقة بين الدين والمدنية في مطلع القرن العشرين وخلال العقود الأولى منه، يبرز اسم المفكر المصري محمد فريد وجدي الذي دافع عن هذه المسألة بوضوح كبير في كتابه (المدنية والإسلام)، وكان يرى أن الدين يمثل ذروة المدنية، والتأكيد على أن الإسلام هو روح المدنية، والتبشير بأن مآلات المدنية الاقتراب من الدين.
ومن هذه الجهة يرى الدكتور فهمي جدعان أن محمد فريد وجدي انطلق في أعماله الفكرية من الاعتقاد بأن الإسلام يمثل روح المدنية الحقيقية، لذا كان كتابه الأساسي (المدنية والإسلام) الذي حاول فيه تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية، وأبعد من ذلك حيث يرى أن لا مدنية إلا بالإسلام، وكل ما نقرؤه من قواعد المدنية العصرية ليس بالنسبة إلى قواعد الديانة الإسلامية إلا كشعاع من شمس أو قطرة من بحر.
والفكرة التي ينطق منها محمد فريد وجدي في موقفه من مسألة الدين والمدنية، هي أن كل ترق يحصل في العالم، وكل خطوة تخطوها العقول في سبيل الكمال ليس إلا تقرباً إلى الإسلام.
وحين تساءل هل يمكن أن تتفق المدنية والدين؟ وهل تطبيق المدنية ينافي الدين؟، أجاب محمد فريد وجدي بقوله: إن الإسلام فتح باب الارتقاء الروحي ووسع مداه، كما فتح باب الارتقاء المادي، فلم يحرم علماً نافعاً، ولم يضع للعلوم حدوداً. أنا لا أكتفي بأن أقول بأن المدنية والدين يجب أن يتفقا، بل أعلن على رؤوس الأشهاد أن الدين هو ذروة المدنية، وليس معنى هذا أن كل مدنية قائمة دين، وأن كل دين قائم مدنية، ولكن معناه أن المدنية التي تستحق هذا الاسم بنزاهة أصولها، هي غرض دين الحق الخالص.
إن المثل الأعلى لمدنية فاضلة، إن لم تصل إليها الإنسانية إلى اليوم، فتصل إليها لا محالة تحت تأثير التطورات الأدبية التي لا تفتأ تطرأ عليها.
ويضيف فريد وجدي قد يقول قائل: أنى هذا والعالم يزداد كل يوم إيغالاً في حمأة المقاذر والإسفاف، نقول: هذا صحيح، ولكن تدهوره هذا يصحبه شعور قوي بالتقزز مما هو فيه، يدل على ذلك القلق الذي يساوره في كل حركة من حركاته، وروح السخط المستولية عليه حتى وهو في معمعان لذاته، وهذا أمر طبيعي كائن، كل ما فيه تدعوه للتكمل، وتهيئة لخلافة الله في أرضه، وهو دور من ادوار الحياة ينتهي أمده، ثم يحل محله دور جديد فيلبث حتى ينقضي عهده، ثم يخلفه غيره، وهلم جرا، حتى تطهر الفطرة البشرية من أقذائها، وإذ ذاك تسير إلى الكمال قدماً، وفي أثناء هذه الانقلابات لا يزال الإسلام مثلاً أعلى للمدنية تتقرب الإنسانية منه يسيراً يسيراً حتى تبلغه.
وهذه الفكرة هي من أكثر الأفكار التي عمل فريد وجدي على تأكيدها وتثبيتها وإشاعتها، ومن هذه الجهة يعد فريد وجدي أحد أكثر المفكرين المسلمين دفاعاً عن علاقة الدين بالمدنية.
والملاحظ بصورة عامة على هذا الموقف أنه محكوم بذهنية الرغبة، وتتغلب فيه الرغبة على الواقع، بشكل يكاد يغيب فيه الواقع بقوانينه وموازينه الموضوعية والتاريخية، ويمكن وصفه بأنه موقف لا زمني ولا تاريخي، بمعنى أنه موقف لا يعرف له زمن، وليست له حدود زمنية، ومن جهة كونه لا تاريخي، بمعنى أن حركة التاريخ تحكمها السنن والقوانين وليس الرغبات والتمنيات.
وفي وقت لاحق، وجد الدكتور فهمي جدعان أن فريد وجدي أحدث تجدداً في موقفه، وحسب قوله: وقد عاد فريد وجدي فيما بعد إلى بعض أفكاره هذه، وأجرى عليها بعض التطويرات والتحديدات المتصلة خاصة بموقف المسلمين من التمدن الغربي. ونحن نجد أنه في هذه المرة، أي بعد ربع قرن تقريباً، قد منح المدنية الغربية وضعاً خاصاً، طالب المسلمين بموجبه بأن يأخذوا بما هو جوهري فيها، ويدمجوه بقيمهم الفكرية والمدنية، أي بأن لا يغلوا في نبذهم للحضارة الغربية.
واستند جدعان في تغير هذا الموقف، على نص أشار إليه فريد وجدي في موسوعته (دائرة معارف القرن الرابع عشر)1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 16 سبتمبر 2010م، العدد 16091.