الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

العقيدة في الإمامة عند الطرفين

والقصد من الإمامة في هذا البحث هي الإمامة الكبرى للمسلمين، أعني الخلافة والحكم، والقيادة والولاية.

وبما أنّ كتابي اعتمد في أبحاثه على المقارنة بين مذهب أهل السنّة والجماعة والشيعة الإمامية، لابدّ لي من إبراز مبدأ الإمامة عند الفريقين، حتّى يتبيّن للقارئ والباحث ما هي الأُسس والمعالم التي يرتكز عليها كلّ من الفريقين، ويعرف بالتالي القناعات التي ألزمتني بقبول التحوّل وترك ماكنتُ عليه.

فالإمامة عند الشيعة: هي أصل من أُصول الدين، لما لها من الأهمية الكبرى والخطورة العظمى، وهي قيادة خير أمة أخرجت للناس، وما تقوم عليه القيادة من فضائل عديدة وخصائص فريدة، أذكر منها: العلم، والشجاعة، والحلم، والنزاهة، والعفّة، والزهد، والتقوى، والصلاح.. الخ.

فالشيعة يعتقدون بأنّ الإمامة منصب إلهي يعهد به اللّه سبحانه إلى من يصطفيه من عباده الصالحين; ليقوم بذلك الدور الخطير، ألا وهو قيادة العالم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعلى هذا كان الإمام علي بن أبي طالب إماماً للمسلمين باختيار اللّه له، وقد أوحى لرسوله لكي ينصّبه علماً للناس، وقد نصّبه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودلّ الأُمّة عليه وبعد حجّة الوداع في غدير خم، فبايعوه، هذا ما يقوله الشيعة.

أمّا أهل السنّة والجماعة فيقولون ـ أيضاً ـ بوجوب الإمامه لقيادة الأُمّة، ولكنّهم يجعلون للأُمة حقّ اختيار إمامها وقائدها، فكان أبو بكر بن أبي قحافه إماماً للمسلمين باختيار المسلمين أنفسهم له بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي سكت عن أمر الخلافة ولم يبيّن للأُمّة شيئا منها، وترك الأمر شورى بين الناس.

أين الحقيقه؟

إذا تأمّل الباحث في أقوال الطرفين، وتمعّن في حُجج الفريقين بدون تعصّب، فسوف يقترب من الحقيقة بدون شكّ.

وها أنا سوف أستعرض وإياكم الحقيقة التي وصلت إليها على النحو التالي:

1 ـ الإمامة في القرآن الكريم:

قال اللّه تعالى:﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 1.

في هذه الآية الكريمة يبيّن اللّه لنا بأنّ الإمامة منصبٌ إلهي يعطيه اللّه لمن يشاء من عباده لقوله:2، كما توضّح الآية بأنّ الإمامة هي عهد من اللّه لا يناله إلاّ العباد الصالحين الذين اصطفاهم اللّه لهذا الغرض; لانتفائه عن الظالمين الذين لا يستحقّون عهده سبحانه وتعالى.

وقال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ 3.

وقال سبحانه وتعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ 4.

وقال أيضاً:﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ 5.

وقد يتوهّم البعض بأنّ مدلول الآيات المذكورة يُفهم منها بأنّ الإمامة المقصودة هنا هي النبّوة والرسالة، وهو خطأ في المفهوم العام للإمامة; لأنّ كلّ رسول هو نبي وإمام، وليس كلّ إمام رسول أو نبي.

ولهذا الغرض أوضح اللّه سبحانه تعالى في كتابه العزير بأنّ عباده الصالحين يمكن لهم أن يسألوه هذا المنصب الشريف ليتشرّفوا بهداية الناس وينالوا بذلك الأجر العظيم، قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا 6.

كما أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ الإمامة للتدليل على القادة والحكّام الظالمين الذين يُضلّون أتباعهم وشعوبهم، ويقودونهم إلى الفساد والعذاب في الدنيا والآخرة، فقد جاء في الذكر الحكيم حكاية عن فرعون وجنوده قوله تعالى:﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ 7.

وعلى هذا الأساس فقول الشيعة هو الأقرب لما أقرّه القرآن الكريم; لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أوضح بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الإمامة منصب إلهي ويجعله اللّه حيث يشاء، وهو عهد اللّه الذي نفاه عن الظالمين.

وبما أنّ غير علي من صحابة النبي قد أشركوا فترة ما قبل الإسلام، فإنهم بذلك يصبحون من الظالمين، فلا يستحقّون عهد اللّه لهم بالإمامة والخلافة.

ويبقى قول الشيعة بأنّ الإمام علي بن أبي طالب استحقّ وحده دون سائر الصحابة عهد اللّه بالإمامة; لأنّه لم يَعبُد إلاّ اللّه، وكرّم اللّه وجهه دون الصحابة، لأنّه لم يسجد لصنم.

وإذا قيل بأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

قلنا: نعم، ولكن يبقى الفرق كبيراً بين من كان مشركاً وتاب، ومن كان نقيّاً خالصاً لم يعرف إلاّ اللّه.

2 ـ الإمامة في السنّة النبوية:

قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإمامة أقوالاً متعدّدة، رواها كلّ من الشيعة والسنّة في كتبهم ومسانيدهم، فمرّةً تحدّث عنها بلفظ الإمامة، ومرّة بلفظ الخلافة، وأُخرى بلفظ الولاية أو الإمارة.

جاء في الإمامة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم"، قالوا: يا رسول اللّه أفلا ننابذهم بالسيف؟

فقال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة"8.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنونّ بسنّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"9.

وجاء في الخلافة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة، أو يكون عليكم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش"10.

وعن جابر بن سمرة قال: سمعتُ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة" ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلتُ لأبي: ما قال؟ فقال: "كلّهم من قريش"11.

وجاء في الإمارة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع"، قالوا: أفلا نقاتلهم قال: "لا، ما صلّوا"12.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في لفظ الإمارة أيضاً: "يكون اثنا عشر أميراً... كلّهم من قريش"13.

وجاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) محذّراً أصحابه: "ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعةُ وبئستِ الفاطمةُ"14.

وجاء الحديث أيضاً بلفظ الولاية
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما من وال يَلي رعيّة من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلاّ حرّمَ اللّه عليه الجنّة"15.

كما حدّث (صلى الله عليه وآله وسلم) بلفظ الولاية: "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش"16.

وبعد هذا العرض الوجيز عن مفهوم الإمامة أو الخلافة التي استعرضتها من القرآن الكريم، ومن السنّة النبّوية الصحيحة بدون تفسير ولا تأويل، بل اعتمدتُ على صحاح أهل السنّه دون غيرهم من الشيعة; لأنّ هذا الأمر ـ أعني الخلافة في اثني عشر كلهم من قريش ـ عندهم من المسلّمات التي لا غبار عليها، ولا يختلف فيها اثنان منهم، مع العلم بأنّ بعض علماء أهل السنّة والجماعة يصرّحون بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلّهم من بني هاشم"17.

وعن الشعبي عن مسروق قال: "بينما نحن عند ابن مسعود نعرض مصاحفنا عليه، إذ قال له فتى: هل عهد إليكم نبيّكم كم يكون من بعده خليفة؟ قال: إنّك لحديث السنّ، وإنّ هذا شيء ما سألني عنه أحد قبلك، نعم عهد إلينا نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّه يكون بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل..."18.

وبعد هذا فلنستعرض أقوال الفريقين على صحّة إدّعاء كلّ منهما من خلال النصوص الصريحة، كما نناقش تأويل كلّ منهما في هذه المسألة الخطيرة التي فرّقت المسلمين من يوم وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، وقد نشأ من ذلك اختلاف المسلمين إلى مذاهب وفرق ومدارس كلامية وفكرية، بعد أن كانوا أُمّة واحدة.

فكلّ خلاف وقع بين المسلمين، سواء في الفقه أو في التفسير للقرآن أو في فهم السنّة النبوية الشريفة، منشؤه وسببه الخلافة، وما أدراك ما الخلافة، التي أصبحت بعد السقيفة أمراً واقعاً يُستنكر بسببها أحاديث صحيحة وآيات صريحة، وتُختَلقُ من أجل تثبيتها وتصحيحها أحاديث أُخرى لا أساس لها في السنّة النبوية الصحيحة.

وهذا يذكّرني بإسرائيل، والأمر الواقع ذلك أنّ الرؤساء والملوك العرب اجتمعوا واتفقوا أن لا اعتراف بإسرائيل ولا تفاوض معها ولا سِلْم، فما أُخِذَ بالقوّة لا يستردّ بغير القوة، وبعد سنوات قليلة اجتمعوا من جديد ليقطعوا هذه المرّة علاقاتهم مع مصر التي اعترفت بالكيان الصهيوني، وبعد سنوات قليلة أعادوا علاقاتهم مع مصر ولم يطعنوا بعلاقتها بإسرائيل، مع أنّ إسرائيل لم تعترف بحقّ الشعب الفلسطيني، ولم تغيّر شيئاً من موقفها، بل زادت في تعنّتها وضاعفت قمعها للشعب الفلسطيني، فالتاريخ يعيد نفسه، وقد اعتاد العربُ التسليم بالأمر الواقع 19.

  • 1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 124، الصفحة: 19.
  • 2. القران الكريم: سورة (2)، الآيات: 124 - 12، الصفحة: -1.
  • 3. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 73، الصفحة: 328.
  • 4. القران الكريم: سورة السجدة (32)، الآية: 24، الصفحة: 417.
  • 5. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 5، الصفحة: 385.
  • 6. القران الكريم: سورة الفرقان (25)، الآيات: 72 - 74، الصفحة: 366.
  • 7. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآيات: 40 - 42، الصفحة: 390.
  • 8. صحيح مسلم 6: 24، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم.
  • 9. صحيح مسلم 6: 20، كتاب الامارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن.
  • 10. صحيح مسلم 6: 4، كتاب الامارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
  • 11. المصدر نفسه.
  • 12. صحيح مسلم 6: 23، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأُمراء.
  • 13. صحيح البخاري 8: 127،كتاب الأحكام، باب الاستخلاف.
  • 14. صحيح البخاري 8: 107، كتاب الأحكام، باب مايكره من الحرص على الإمارة.
  • 15. صحيح البخاري 8: 107، كتاب الأحكام، باب من استرعى رعية فلم ينصح.
  • 16. صحيح مسلم 6: 3، كتاب الامارة، باب الخلافة في قريش.
  • 17. ينابيع المودة 2: 315 و 3: 290.
  • 18. ينابيع المودة 3: 290.
  • 19. المصدر: كتاب لأكــون مع الصادقـيـن، تأليف العلامة الدكتور الشيخ محمد التيجاني السماوي حفظه الله.