مجموع الأصوات: 3
نشر قبل 5 أيام
القراءات: 150

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تحقيق الوسط والأطراف (الفضائل بمنزلة الأوساط، والرذائل بمثابة الأطراف)

 لا ريب في أنه بإزاء كل فضيلة رذيلة هي ضدها، ولما عرفت أن أجناس الفضائل أربعة فأجناس الرذائل أيضا في بادئ النظر أربعة: الجهل، وهو ضد الحكمة، والجبن، وهو ضد الشجاعة، والشره وهو ضد العفة، والجور، وهو ضد العدالة. وعند التحقيق يظهر أن لكل فضيلة حدا معينا، والتجاوز عنه بالإفراط أو التفريط يؤدي إلى الرذيلة، فالفضائل بمنزلة الأوساط، والرذائل بمثابة الأطراف، والوسط واحد معين لا يقبل التعدد، والأطراف غير متناهية عددا. فالفضيلة بمثابة مركز الدائرة، والرذائل بمثابة سائر النقاط المفروضة من المركز إلى المحيط، فإن المركز نقطة معينة، مع كونه أبعد النقاط من المحيط، وسائر النقاط المفروضة من جوانبه غير متناهية، مع أن كلا منها أقرب منه من طرف إليه.
فعلى هذا يكون بإزاء كل فضيلة رذائل غير متناهية، لأن الوسط محدود معين، والأطراف غير محدودة، وتكون الفضيلة في غاية البعد عن الرذيلة التي هي نهاية الرذائل، ويكون كل منها أقرب منها إلى النهاية 1، ومجرد الانحراف عن الفضيلة من أي طرف اتفق يوجب الوقوع في رذيلة. والثبات على الفضيلة والاستقامة في سلوك طريقها بمنزلة الحركة على الخط المستقيم وارتكاب الرذيلة كالانحراف عنه، ولا ريب في أن الخط المستقيم هو أقصر الخطوط الواصلة بين النقطتين، وهو لا يكون إلا واحدا، وأما الخطوط المنحنية بينهما فغير متناهية، فالاستقامة في طريق الفضيلة وملازمتها على نهج واحد، والانحراف عنه تكون له مناهج غير متناهية، ولذلك غلبت دواعي الشر على بواعث الخير.
ويظهر مما ذكر أن وجدان الوسط الحقيقي صعب، والثبات عليه بعد الوجدان أصعب. لأن الاستقامة على جادة الاعتدال في غاية الإشكال، وهذا معنى قول الحكماء " إصابة نقطة الهدف أعسر من العدول عنها، ولزوم الصوب 2 بعد ذلك حتى لا يخطيها أسر " ولذلك لما أمر فخر الرسل بالاستقامة في قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ... 3
قال شيبتني سورة هود عليه السلام، إذ وجد أن الوسط الحقيقي فيما بين الأطراف العير المتناهية المتقابلة مشكل، والثبات عليه بعد الوجدان أشكل.
وقال (المحقق الطوسي) وجماعة: " إن ما ورد في إشارات النواميس من أن الصراط المستقيم أدق من الشعر، وأحد من السيف إشارة إلى هذا المعنى " وغير خفي بأن هذا التأويل جرأة على الشريعة القويمة، وهتك لأستار السنة الكريمة. والواجب الإذعان بظاهر ما ورد من أمور الآخرة. نعم يمكن أن يقال كما مر: إن الأمور الأخروية التي حصل بها الوعد والوعيد كلها أمور محققة ثابتة على ما أخبر به، إلا أنها صور للأخلاق، والصفات المكتسبة في هذه النشأة قد ظهرت بتلك الصور في دار العقبى بحسب المرتبة، إذ ظهورات الأشياء مختلفة بحسب اختلاف المراتب والنشآت، فمواد ما يؤذي ويريح من الصور في موطن المعاد إنما هو الأخلاق والنيات المكتسبة في هذه النشأة.
وهذا المذهب مما استقر عليه آراء أساطين الحكمة والعرفان، وذكرنا الظواهر الدالة عليه من الآيات والأخبار، وأشرنا إلى حقيقة الحال فيه. وعلى هذا فالصراط المستقيم الممدود كالجسر على الجحيم صورة لتوسط الأخلاق، والجحيم صورة لأطرافها، فمن ثبت قدمه على الوسط هنا لم يزل عن الصراط هناك ووصل إلى الجنة التي وعدها الله المتقين، ومن مال إلى الأطراف هنا سقط هناك في جهنم التي أحاطت بالكافرين.
ثم الوسط إما حقيقي وهو ما تكون نسبته إلى الطرفين على السواء كالأربعة بالنسبة إلى الاثنين والستة، وهذا كالمعتدل الحقيقي الذي أنكر الأطباء وجوده، أو إضافي وهو أقرب ما يمكن تحققه للنوع أو الشخص إلى الحقيقي، ويتحقق به كمالهما " اللائق بحالهما " 4 وإن لم يصل إليه، فالتسمية بالوسط إنما هو بالنسبة إلى الأطراف التي هي أبعد من الحقيقي بالإضافة إليه. وهذا كالاعتدالات النوعية والشخصية التي أثبتها الأطباء، فإن المراد منها الاعتدالات التي يمكن تحققها للأنواع والأشخاص، وهو القدر الذي يليق بكل نوع أو شخص أن يكون عليه، وإن لم يكن اعتدالا حقيقيا بمعنى تساوي الأجزاء البسيطة العنصرية وتكافؤها في القوة والأقربية إلى الحقيقي بالنسبة إلى سائر الأطراف سمي إضافيا.
ثم الوسط المعتبر هنا هو الإضافي لتعذر وجدان الحقيقي والثبات عليه، ولذا تختلف الفضيلة باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، فربما كانت مرتبة من الوسط الإضافي فضيلة بالنظر إلى شخص أو حال أو وقت، ورذيلة بالنسبة إلى غيره.
وتوضيح الكلام أنه لا ريب في أن الوسط الحقيقي في الأخلاق لكونه في حكم نقطة غير منقسمة لا يمكن وجدانه ولا الثبات عليه، ولذا ترى من هو متصف بفضيلة من الفضائل لا يمكن الحكم بكون تلك الفضيلة " هي الوسط الحقيقي، إلا أنه لما كانت تلك الفضيلة " 5 قريبة إليه ولا يمكن وجود الأقرب منها إليه له، يحكم بكونها وسطا إضافيا لأقربيتها إليه بالنسبة إلى سائر المراتب فالاعتدال الإضافي له عرض، وسطه الاعتدال الحقيقي، وطرفاه طرفا الإفراط والتفريط، إلا أنه ما لم يخرج عن هذين الطرفين يكون اعتدالا إضافيا، وكلما كان أقرب إلى الحقيقي كان أكمل وأقوى، وإذا خرج عنهما دخل في الرذيلة.
لا يقال: على هذا ينبغي أن يكون الاعتدال الطبي في المزاج أيضا كذلك أي له عرض وسطه الاعتدال الحقيقي وطرفاه خارجان عن الاعتدال الطبي، حتى أنه كلما قرب إلى الحقيقي صار الطبي أقوى وأكمل مع أنه ليس الأمر كذلك، إذ القياس يقتضي الخروج عن الاعتدال الطبي، أو ضعفه لقربه إلى الحقيقي.
" بيان ذلك " أن الاعتدال الحقيقي في المزاج أن تكون أجزاء العناصر متكافئة القوة، والاعتدال الطبي في نوع الإنسان أو شخص من أشخاصه أن تكون الأجزاء الحارة مثلا من عشرة إلى اثني عشرة، والباردة من ثمانية إلى تسعة، واليابسة من سبعة إلى ثمانية، والرطبة من ستة إلى سبعة، فإذا كانت الأجزاء الحارة ستة، والباردة خمسة، واليابسة أربعة، والرطبة ثلاثة كانت خارجة عن الاعتدال الطبي، مع صيرورته أقرب إلى الحقيقي، بل إذا فرضت تكافؤ أجزاء العناصر الأربعة حتى حصل نفس الاعتدال الحقيقي خرجت أيضا عنه، فلا يكون الحقيقي وسط الطبي حتى أنه كلما يصير إليه أقرب يكون أقوى وأكمل.
لأنا نقول نحن لا ندعي: أن الحقيقي وسط الطبي بل هو أمر مغاير له، والحقيقي في طرفه الخارج، فإن له طرفين: " أحدهما " أن تصير الأجزاء أقرب في التساوي مما كان للطبي إلى أن يبلغ إلى الحقيقي، " والثاني " أن يصير أبعد فيه مما كان له إلى غير النهاية، إلا أن بعض مراتب الطرفين التي منها الاعتدال الحقيقي غير ممكن الوقوع فتأمل.
فإن قيل: إن الوسط المعتبر هنا إن كان إضافيا، لكان له عرض كعرض المزاج، فلا يناسب وصفه بالحدة والدقة، قلنا: كما في عرض المزاج مرتبة هي أفضل المراتب وأقربها إلى الحقيقي، وهي المطلوبة بالذات، ولا ريب في أن خصوص هذه ليس لها عرض واسعة، فلا بأس بوصفها بالدقة والحدة، وأما سائر المراتب المعدودة من الوسط وإن لم تكن خالية عن شوائب الإفراط والتفريط، إلا أنه لما كان لها قرب محدود إلى المرتبة المطلوبة بحيث يصدق معه كون النوع أو الشخص باقيا على كماله اللائق به عدت من الأوساط والفضائل، كما أن غير الأقرب إلى الاعتدال الحقيقي من مراتب عرض المزاج يعد من الاعتدال: لكون النوع أو الشخص معه باقيا محفوظا بحيث لا يظهر خلل بين في أفعاله وإن لم يخل عن الانحراف، ولو وصف هذه المراتب أيضا بالحدة والدقة مع سعتها فوجهه أن وجدانها والثبات عليها لا يخلو أيضا من صعوبة 6.

  • 1. أي أن كلا من الرذائل أقرب من الفضيلة إلى النهاية.
  • 2. الصواب: يقال فلان مستقيم الصوت إذا لم يزغ عن قصده يمينا وشمالا.
  • 3. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 112، الصفحة: 234.
  • 4. غير موجودة في نسختنا الخطية لكنها موجودة في نسخة خطبة أخرى وفي المطبوعة.
  • 5. هذه العبارة بتمامها لم توجد في نسختنا الخطية.
  • 6. المصدر: كتاب جامع السعادات، العلامة محمدمهدي النراقي رحمه الله.