الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ماذا يدركون من عظمة محمد؟!

الإنسان اعجز من أن يصف محمداً ( صلى الله عليه و آله )

طمع كثيرون من كُتّاب السير وأدباء التحليل أن يضعوا صورة جامعة تحيط بجوانب العظمة من شخصيّة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، أو بأكثر الجوانب منها ، وجهدوا أن تكون الصورة صادقة تمام الصدق ، مطابقة كمال المطابقة ، تخيل لمن قرأ أو استمع أنه يشاهد ، وتبدي لمن غاب كأنه حاضر .

وطفقوا يرسمون الخطوط ، ويدققون الملامح ، وينتقون الألوان ، ويجمعون الشوارد والشواهد ، مما يرون ومما يسمعون ، ومما يخالون ويتصوّرون ، والحقائق بمنأىً عن هذا الجمع العامل الكادح ، تعجب لهم أن يحاولوا تعريف مالا يعرفون ، وتمثيل مالا يدركون .

ماذا يدركون من عظمة محمد ( صلى الله عليه و آله ) إلاّ بمقدار ما تدرك الأبصار من ضوء الشمس المنيرة ، وبمقدار ما تقبس الأشياء والأحياء من إشعاعها وعطائها؟ تفيدهم من نورها ، وتفيدهم من طاقاتها ، وتفيدهم من حرارتها ، وتمدّهم بسرّ الحياة ، وشرط البقاء ، أما سرّ العظمة في الشمس فهو فوق متناول الأيدي والعيون ، وفوق مناط الأخيلة والظنون؟! .

ماذا يُدرك من عظمة محمد ( صلى الله عليه و آله ) الاّ قدر ما يشير الناقص إلى مصدر كماله ، وحب ما يتوجّه المضطر المحتاج إلى موضع ضرورته وسداد فاقته ؟ .

ماذا يدركون من عظمة محمد ( صلى الله عليه و آله ) إذا كانت حدود هذه العظمة هي حدود الإنسانية العليا ، ليس وراءها مرمى ، وليس بعدها مرتقى ؟ .

ماذا يدركون من عظمة محمد ( صلى الله عليه و آله ) إذا كان محمد هو المَثَل الصادق الكامل للإسلام بمنهجه العظيم العظيم ، وبغايته الرفيعة الرفيعة ، وبعدله الشامخ الأعلى ؟ .

ماذا يدركون من عظمة محمد ( صلى الله عليه و آله ) إذا كان هو المثل الأعلى الذي اختارته السماء لأهل الأرض كافّة أن تقتبس من هديه ، وأن تستمد من روحه ، وأن تستضيء بنوره ، وأن تستكمل من إيمانه ، وأن تصوغ نفوسها وقلوبها على هداه ، وأن تقتدي به في عمله وجهاده؟ .

ماذا يدركون من عظمة محمد ( صلى الله عليه و آله ) ما دام محمد يرتفع ويرتفع كلما كشف الزمن جانباً جديداً من جوانب العظمة في دين محمد ، وكلما صدّق العلم وصدّقت المشاهدات والملاحظات آية من كتاب محمد ( صلى الله عليه و آله ) وكلما استبان للعالمين قصور نظم الدنيا كلها أمام نظام محمد ؟ .

ما أقصر الكلم أن تحيط بمن أوتي جوامع الكلم!! .

وما أعجز الفكر أن ينفذ إلى الآفاق السحيقة من عظمة موجه الفكر!!

وما اعجز الإنسانية أن تحدد جوانب الرفعة من منقذ الإنسانية!! .

القرآن يصف محمداً إنساناً

يقول رب محمد وخالقه ، ليدلنا على بعض مكامن السرّ في هذه العظمة المترامية الآفاق . يقول ليصف لنا محمد انساناً :

﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 1 .

والآية الكريمة تشير إلى مجلى واحد من مجالي عظمة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) . . إلى الرحمة العميقة الواسعة الشاملة التي ينطوي عليها ذلك القلب الكبير . . إلى الرحمة الفائضة التي أظلّت الإنسانية جمعاء ، من إلِفها إلى يائها ومن أدناها إلى أعلاها ، فآوتهم إلى حِصنها ودعتهم الى أمنها .

إنني لأتلو الآية الكريمة فأكاد ألمس قلباً يتفتت حِرصاً و يتضرّم اسَىً على البشرية كلها أن يضلّ منها ضالّ ، أو ينشز منها ناشز ، وأحسّ قباً من رحمة الله العظمى يطوف بهذا النوع المتباعد الأصناف والأكناف ، يعزّ عليه أن يقع فرد من أفراده في عنت ، أو تحلّ به مرزأة .

﴿ ... مِّنْ أَنفُسِكُمْ ... 2 وهذا مبدأ الإيحاء بعمق الرحمة وشمولها .

إن الذوق النافذ يدرك من هذه اللفظة ما لا يدرك من سواها ، فكلمة ( منكم ) -مثلاً- لو استعملتها الآية لما عدت أنّ الرسول فرد من أبناء الأمّة وخيرة من أوساطها ، يشعر بشعورها ، ويحسّ بآلامها ، ويعرف مواضع حاجاتها ، وقد استعمل القرآن هذه الكلمة لمّا أراد إيضاح بعض مهمّات الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، وتحديد بعض أهداف الرسالة ، فقال في سورة الجمعة:
﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ 3 .

أما كلمة ﴿ ... فِي الْأُمِّيِّينَ ... 4 في هذا الموقع من الآية الكريمة فإنها تنفذ إلى أعمق مسرب من مسارب النفس ، وتلمس أخفى وَتَرٍ من أوتار القلب ، وتتّسع إلى أبعد حدّ من حدود الإنسانية .

إنها كلمة أضخم من الشرح وأوفى في مدلولها من التعليق .

﴿ ... عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ... 5 ، عزيز عليه ما ينالكم من جهد ، وما تتحملونه كّبّد ، عظيم على نفسه أن تُثقلكم آصار ، و تبهضكم أوزار .

﴿ ... حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ... 5 حريص على أن لا يردّى متردٍّ من الناس ، ولا يهلك هالك ، ويغوى غاوٍ ، من الناس أجمعين . من آمن منهم بدعوته ومن صدف عنها .
إن هذا أضخم رصيد تملكه أمة في قلب قائدها الأمين .

أما المؤمنون به . . المقتفون هدية ، المتبّعون منهجه فلهم منه الرحمة التي لن تضيف ولن تنقطع ما دام للصفة الإنسانية مطمح ، وما كان لها مرتقى . ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 1.

ويصفه رسولاً

ويقول ليصف محمداً رسولاً : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا 6 .

هذه بعض مهمّات الرسالة التي اختاره لها إله الكون ، ووجده لها أهلاً . ( و ﴿ ... اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... 7 .

﴿ ... شَاهِدًا ... 8 يقيم الحجّة ، ويقطع المعذرة ، ويزيل اللبّس ، ويوضح السبيل .

﴿ ... وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 8 فللرشد مناهجه المشرقة ، وغاياته الحميدة التي لابد للرسالة من التبشير بها والحثّ عليها ، وللضلال مسالكه المظلمة ، ونهاياته المُهلكة التي لابدّ من النذار بها ، والتحذير منها ، ولله (تعالى) قضاؤه وفصله في أهل الرشد وأهل الضلالة ، وجزاؤه العدل لهؤلاء وهؤلاء ، ولابدّ من بيان ذلك وإعلانه ليتدبر متدبر ويتنبه غافل ويسترشد جاهل .

﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ... 9 يصحّح أخطاء الناس في العقيدة ، ويحدد لهم المناهج في العمل ، ويوضح لهم المفاهيم للمعرفة ويعيّن لهم السبيل في السلوك .

﴿ ... وَسِرَاجًا مُنِيرًا 9 يستضيئون به من الظلم ، ويسترشدون بهديه من الحيرة ، ويقتدون بقوله وعمله في كل صغيرة وكبيرة .

وأحب أن دلالة هذه الصفة الأخيرة ﴿ ... وَسِرَاجًا مُنِيرًا 9 على عصمة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) أرفع من أن يمتري فيها مسلم يعترف بالكتاب ويدرك معاني كلماته .
هذه بعض آفاق العظمة في شخصية الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، يذكرها لنا القرآن ، ليعرّفنا أن محمداً ( صلى الله عليه و آله ) فوق متناول الألسنة والأقلام ، وفوق مطمح الأخيلة والظنون .

صدق الله العظيم 10 .