حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
هل دخلنا عصر القرون الوسطى؟
الصورة التي يقدمها العالم العربي عن نفسه اليوم في أحد جوانبها، هي أشبه ما تكون بصورة العصور الوسطى في أوروبا، الموصوفة هناك بعصور الظلام والانحطاط، والتي سادت فيها وتكرست الانقسامات والنزاعات والحروب بين المذاهب والطوائف والجماعات الدينية والعرقية والإثنية، وانبعثت فيها وتعمقت نزعات القطيعة والإقصاء والإلغاء، وارتفعت فيها واشتدت لغة العنف والقسوة والكراهية، وتراجعت فيها وتقلصت قيم العلم والعقل والجمال.
هذه الوضعيات جعلت من تلك العصور مضرب مثل على شدة التخلف والانحطاط، وبقيت في الذاكرة الإنسانية تنبه الناس على العصور التي ينبغي كراهيتها والتخلص منها، والعمل على طمسها ومحوها بطريقة لا يسمح لها بالعودة مرة أخرى، لأنها خربت العمران، وأفسدت الأخلاق، وسلبت من الحياة متعة العيش وجماليتها.
لكن المؤسف أن هذه العصور التي انتهت وتلاشت في أوروبا، بدت وكأنها آخذة في الظهور والانبعاث في مجتمعات العرب والمسلمين، ولعلها بصورة أشد وأقبح مما كانت عليه من قبل في أوروبا، فقد بدأنا نشهد انقسامات ونزاعات حادة وخطيرة بين أتباع مذاهب وطوائف المسلمين، وصل الحال إلى حد التكفير، والتساهل في التكفير، وبات هناك من يكفر بالذنب، وهناك من يكفر المعين، إلى جانب من يكفر بلا ضوابط وبلا موانع، وإخراج الناس من الدين والملة، والتفتيش عن عقائدهم، وإعلان ضلالتهم.
وظهرت جماعات عرفت بنزعتها المتطرفة والمتوحشة، ورغبتها في القتل وسفك الدماء وسبي النساء، والسعي إلى إشاعة الفوضى، وخلق الفتن والاضطراب، وضرب الاستقرار، وتهديد أمن وسلامة الناس، وعدم الاعتراف بالأنظمة والقوانين، وفرض الدين بالإكراه، وتفسيره بطريقة أحادية ومتحجرة، جلبت معها العسر والحرج والضيق، وذلك بخلاف روح الدين ومقاصده الذي جاء ليضع عن الناس أصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأراد لهم اليسر ولم يرد لهم العسر، وما جعل فيه من حرج.
وغلظت هذه الجماعات العقوبات القاسية على الناس، وكأنها جاءت لمعاقبتهم، وإنزال أشد العقوبة عليهم، وتعاملت مع الدين كما لو أنه نظام عقوبات يتسم بالقسوة، وبطريقة تنفر الناس والعالم منه، في حين أن الدين جاء رحمة للعالمين، ولسعادة الناس وليس لشقائهم، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ولم تسلم من هذه الجماعات المتطرفة حتى المعالم التاريخية الأثرية، التي ظلت شاهدة ولزمن طويل يمتد لمئات السنين، على تاريخ الحضارات التي مرت وازدهرت وتعاقبت في هذه المنطقة المعروفة عند المؤرخين بوصفها من أقدم مناطق الحضارات في تاريخ الاجتماع الإنساني.
هذه المعالم التاريخية الثمينة التي بقت وصمدت مع تعاقب الزمن، ورغم عوارض الطبيعة القاسية والمتقلبة، وعدت من ذخائر التراث الإنساني، وأدرجت دوليا ضمن قائمة التراث العالمي، هذه المعالم البديعة وللأسف الشديد بدأت تخرب وتدمر وتحطم كليا، على طريقة ما حصل في العراق وسوريا وأفغانستان ومالي، وفي مناطق أخرى من العالمين العربي والإسلامي.
والأخطر في هذه الجماعات أنها ظهرت وجلبت معها عقلية تنتمي إلى القرون الوسطى، وأسهمت في إشاعة هذه العقلية المتحجرة والمتخلفة، التي لقيت رواجا وتقبلا في ساحة العرب والمسلمين، وخاصة بين أوساط الشباب، وانقلبت بتأثيرها رؤية هؤلاء الشباب إلى الحياة والمستقبل، وتحولت من التفاؤل إلى الإحباط، ومن البحث عن الحياة إلى البحث عن الموت.
وقياسا على نظرية المفكر الجزائري مالك بن نبي (1329-1397هـ/1905-1973م)، في القابلية للاستعمار، فإن هذه العقلية -عقلية العصور الوسطى المتحجرة والمتخلفة- ما ظهرت وما راجت إلا لوجود قابلية عند المسلمين تسمح بظهور هذا النمط من العقليات المتحجرة، ومنشأ هذه القابلية ناتج من وضعيات التخلف والانحطاط التي سادت العالم الإسلامي.
ومن المؤسف جدا أن يكون العالم العربي في القرن الحادي والعشرين، وفي عصر العولمة وثورة المعلومات وما بعد الحداثة، يتيح إمكانية المقارنة بين وضعياته ووضعيات العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، ولعل العالم العربي من بين جميع عوالم العالم الذي يتيح مثل هذه المقارنة المؤسفة، والكاشفة عن مدى بعدنا عن العالم وتقدمه، وكيف أننا نتراجع ولا نتقدم.
وهذا يعني أننا أمام أخطر وأسوأ وضع وصلنا إليه، ولم نعد نعرف كيف نواجه هذا الانحدار؟
وكيف نخرج من هذه العصور الظلمة؟1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، الأحد 29 ذو القعدة 1436هـ / 13 سبتمبر 2015م، العدد 15430.