مجموع الأصوات: 35
نشر قبل سنتان
القراءات: 1824

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

صدام الحضارات وفكرة اضمحلال الغرب

النقد الواسع والمستمر الذي تعرضت إليه ومازالت مقولة صدام الحضارات من المجتمعات والثقافات المتعددة والمختلفة، والتي كانت محقة فيما أظهرته من حذر وشك وقلق تجاه تلك المقولة. هذا النقد على قيمته وأهميته كان ناظرا بصورة أساسية لرؤية الغرب إلى العالم، وإلى الثقافات والحضارات الأخرى غير الأوروبية، وكيف أن هذه الرؤية محكومة بذهنية الصدام والانقسام، وكأنها تريد عودة العالم إلى مرحلة الحرب الباردة، وترفع من وتيرة الانقسامات والتوترات الظاهرة والكامنة بين الدول والحضارات.
ولهذا المنظور من طبيعته أن يبعث على الخوف والقلق، وهو ما يفسر كثافة التراكم النقدي المتصاعد تجاه مقولة صدام الحضارات. لكن هناك بعد آخر لتلك المقولة لم يتركز عليه الاهتمام، وهو شديد الأهمية ووثيق الصلة بمكونات تلك المقولة السجالية. وهذا البعد كان حاضراً ومتجلياَ بصورة واضحة ولافتة في كتاب (صدام الحضارات)، وتحدث عنه هنتنغتون بعناية واهتمام، ويتعلق هذا البعد بفكرة اضمحلال الغرب مقارنة بصعود وتقدم بعض الحضارات الأخرى، وبالذات الآسيوية منها. وقد أكد هنتنغتون على أن هذه الفكرة ليست مجرد فكرة افتراضية، أو ليس لها أساس حقيقي، بل هي فكرة جادة، ومع أن النقاش حول هذه الفكرة لم ينقطع أو يتوقف في أوروبا والغرب عموماً منذ بداية القرن العشرين وحتى مع بداية القرن الواحد والعشرين، منذ صدور الجزء الأول من كتاب شبنجلر (انهيار الغرب) عام 1918م، إلى كتاب الباحث الأمريكي آرثر هيرمان (فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي) الصادر عام1997م. وما يلفت النظر هذه المرة أن مستوى النقاش يعد مختلفاً عن صورته السابقة، وهذا ما حاول أن يؤكده هنتنغتون نفسه، وكتابه (صدام الحضارات) يمثل انخراطاً في ذلك النقاش، وتأكيداً لجديته، وتحريكاً لموضوعه.
والنقاش الذي أثاره هنتنغتون حول فكرة اضمحلال الغرب تحدد في اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول: ويدور حول سؤال محوري في الدراسات الغربية ويرتبط بمجال التاريخ المقارن للحضارات، وهو هل أن الغرب محكوما بحتمية قوانين الحضارات في تقدمها وتراجعها، وفي صعودها وانهيارها؟ أم أن الغرب مستثنى من تلك القوانين لخصوصيات معينة ينفرد بها عن باقي الحضارات الأخرى؟ ولكن هل خصوصيات الغرب كما يتساءل هنتنغتون تعني بأن تطوره وديناميكيته كحضارة مختلفة عن الأنماط التي برزت في كل الحضارات الأخرى؟ وهل الحضارات الغربية كيانات جديدة ليس لها مثيل، ومختلفة عن الحضارات التي وجدت؟. وحين يحاول هنتنغتون أن يعيد صياغة ذلك السؤال ليحدد بدقة أكبر ما يريد الحديث عنه يقول (ولكن لتجاوز دروس تاريخ الحضارات، هناك أشياء ممكنة، ولكن ليس هناك أشياء حتمية، حضارات تستطيع تشكيل وتجديد نفسها، والقضية الأساسية للحضارة الغربية، وبصرف النظر عن التحديات الخارجية، فهل هي قادرة على إيقاف عملية الانهيار الداخلي، وهل يستطيع الغرب تجديد وتدعيم نفسه داخلياً، وليس ببساطة مفاقمة نهايته أو يخضع لحضارات أخرى أكثر ديناميكية اقتصادياً وسكانيا؟)
الاتجاه الثاني: لا ينفي هنتنغتون فكرة اضمحلال الغرب ولا يشكك فيها، بقدر ما يحاول تثبيتها والوثوق بها. وما يضيفه في هذا المجال هو تحديد خصائص معينة لذلك الاضمحلال. وهذه الخصائص حسب رأيه تتحد في ثلاث نقاط:
أولاً: أن اضمحلال الغرب عملية بطيئة لأن نهوض القوة الغربية كما يقول استغرق أربعمائة سنة، وعملية التراجع ربما تأخذ نفس المدة. وهذا الاضمحلال ما يزال في بداية مظاهره البطيئة ولكن عند نقطة ما ممكن أن تزداد بسرعة مذهلة.
ثانياً: أن هذا الاضمحلال لا يتبع خطاً مستقيماً فهو غير منظم بدرجة عالية مع انقطاعات وتراجعات، والمجتمعات الديموقراطية المفتوحة للغرب لديها مقدرات عظيمة على إعادة التجديد.
ثالثاً: أن قوة دولة أو قوة مجموعة هي مقدرة بقياس الموارد التي لديها في مواجهة دول أو جماعات أخرى تحاول التأثير فيها. وحصة الغرب في معظم وليس من كل موارد القوة الهامة وصلت إلى ذروتها في القرن العشرين ثم بدأت بالهبوط قياساً إلى تلك التي لدى الحضارات الأخرى.
وعلى وجه العموم وهذا ما ينتهي إليه هنتنغتون أن الغرب سيبقى الحضارة الأكثر قوة محتفظاً بحالة جيدة وهو يدخل العقود المبكرة من القرن الواحد والعشرين.
وقيمة هذا الطرح هو أنه يأتي من الغربيين أنفسهم، وهم الأقدر على إدراك وفهم وتحليل أزمة حضارتهم، وتصوراتهم في هذا الشأن من الصعب التشكيك فيها، أو عدم الاكتراث بها.
وجوهر ما يريد أن يقوله هنتغتون من حديثه عن فكرة اضمحلال الغرب، ثلاث أمور هي:

  1. إن اضمحلال الغرب يقصد به بصورة أساسية أوروبا بدون أن يضم إليه الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا هناك بعض الأمريكيين من يدعوا إلى الانفصال عن أوروبا لأنها تضمحل، والارتباط بالقوة الصاعدة في آسيا، ويعارض هنتنغتون هذا الاتجاه، ويدعوا إلى ربط مصير الولايات المتحدة بأوروبا، وأن لا تتخلى أمريكا عن غربيتها ومحيطها الغربي.
  2. أمام الغرب إمكانية مواجهة فكرة الاضمحلال والاستجابة لهذا التحدي، وإيقاف عملية الانهيار الداخلي، وذلك عبر ما يسميه هنتنغتون بتجديد الغرب لنفسه.
  3. ربط فكرة صدام الحضارات بفكرة اضمحلال الغرب وتقدم الحضارات الأخرى.

وكأن هنتنغتون من خلال هذا الربط بين فكرة اضمحلال الغرب وتقدم الحضارات الأخرى يدعو الغرب لأن يقاوم صعود وتقدم الحضارات الأخرى، وهذا هو وجه الخطورة في نظرية صدام الحضارات1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 7 يناير 2004م، العدد 13647.