حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
تأثير تقدم العلم على تجدد الفكر
كيف نفهم تأثير تقدم العلم على تجدد الفكر؟ يدفع بنا هذا السؤال إلى العودة لأولئك الذين استفادوا من تقدم العلم في تجدد الفكر، وكيف فهموا منطق هذه العلاقة؟ وكيف شروحها وفسروها؟
لن نرجع إلى عصور الثقافة اليونانية القديمة، لكننا سنبقى في إطار الثقافة الأوروبية وعصرها الحديث، بوصفها الثقافة التي تجلت فيها بوضوح أكبر هذه العلاقة، وكشفت عنها، وبرهنت عليها، وصعدت وتقدمت بها، وأسست عليها مناهجها، وشيدت بها مدنيتها.
ولعل العودة إلى ديكارت هي أفضل بداية لكونه أكثر من عرف بها بين الفلاسفة الأوروبيين في عصره، وبوصفه كان عالماً ومفكراً، حيث بدأ حياته عالماً ورياضياً وانتهى مفكراً وفيلسوفاً.
لقد تعلم ديكارت من العلوم ومن الرياضيات بشكل خاص، أهمية الحاجة إلى المنهج، وطريقة البلوغ إلى اليقين، وجعل الوضوح في المعرفة منطلقاً. فحين تحدث وليم رايت في كتابه (تاريخ الفلسفة الحديثة) عن المنهج عند ديكارت كتب يقول (أصبح ديكارت مقتنعاً في فترة مبكرة بأن الاحتياج العظيم في الفلسفة هو صياغة منهج دقيق ومثمر للبحث.. وقد انتهى إلى أنه يمكن ابتكار منهج للفلسفة يشبه المنهج الذي يستخدمه في الهندسة بنجاح).
وعندما شرح ديكارت القواعد التي عرفت عنده وعند غيره بالقواعد الأربع، في القسم الثاني من كتابه (مقال عن المنهج)، ربط هذه القواعد بعلم الهندسة، والتي اعتاد حسب قوله أصحاب علم الهندسة الاستعانة بها للوصول إلى أصعب براهينهم، وكيف أنها يسرت له أن يتخيل أن كل الأشياء التي يمكن أن تقع في متناول المعرفة الإنسانية تتتابع على طريقة واحدة.
كما اعتقد ديكارت حسب قول الباحث الفرنسي أندريه كريسون في كتابه (تيارات الفكر الفلسفي)، أن العلوم مترابطة ترابطاً وثيقاً، وأن هذا الترابط تام لدرجة أنه لا يمكن دراسة علم ما دراسة مجدية إذا ما عزل عن بقية العلوم، ويستشهد بكلام لديكارت يقول فيه (أنه لأسهل على المرء أن يتعلمها جميعاً ـ يقصد العلوم ـ في آن واحد، من أن يفصل أحدها عن البقية، لذلك إذا أردنا البحث عن الحقيقة بحثاً مجدياً وجب علينا أن لا ننصرف إلى علم واحد فقط، فالعلوم جميعاً متماسكة فيما بينها، ومترابطة ترابطا طبيعياً).
وما دمنا قد بدأنا بديكارت، فلا بد أن نصل إلى كانت الذي سبق وأتممنا الحديث به في سياق متصل بهذا الموضوع.
لن نتوسع كثيراً، وسوف نكتفي بإشارة لها من الدلالة ما يفي بالغرض، وهذه الإشارة تطرق إليها الكاتب السوري هاشم صالح على صورة تساؤلات، وذلك في مراجعة لكتاب احتوى ثلاثة نصوص لكانت، جمعتها باللغة الفرنسية الباحثة الأكاديمية فرانسواز بروست، يرى هاشم صالح أن الشيء الذي بهر كانت أو سحره هو كيف أصبح العلم الحديث ممكناً؟ وكيف أصبحت العلوم الفيزيائية والرياضية قادرة على اكتشاف القوانين التي تمسك الكون أو تتحكم به؟ وكيف أمكن للإنسان بعقله فقط أن يتوصل إلى الكشف عن كل هذه الأسرار التي أودعها الخالق في خلقه.
فالعلم الذي كشف عن قوانين الكون، كشف لكانت البحث عن قوانين العقل، وإمكانية المطابقة بين قوانين الكون وقوانين العقل، وهو القائل (شيئان يملآنني إعجاباً السماء ذات النجوم فوق رأسي، والقانون الخلقي في نفسي).
وما ننتهي إليه أن العلم كان دائماً يزود الفكر بالحقائق والبراهين والتجريبات، الجازمة والقاطعة والمختبرة، التي تضمن له تماسكه العلمي، ولكي يستند على حقائق ثابتة، ويرتكز على أسس برهانية، وحتى يوازن بين كليات العقل وجزئيات العلم، وبين تجريدات الفكر وتجريبات العلم، يضاف إلى ذلك أن العلم هو الذي كشف للفكر القوانين في عالم الكون والطبيعة، وهي القوانين الثابتة والمطردة، الكلية والعامة، والتي يحتاجها الفكر لكي يتعرف على قوانينه، ويستفيد منها في البرهنة عليها.
لهذا كله فإن تجديد الفكر الإسلامي بحاجة إلى علماء بقدر حاجته إلى مفكرين، وما لم نتقدم في مجال العلم، لن ننجز المهمة المطلوبة في تجديد الفكر الإسلامي1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 22 نوفمبر 2007م، العدد 15062.