مجموع الأصوات: 49
نشر قبل 8 سنوات
القراءات: 8156

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

طرائق الكتاب في إثبات البعث

وطرائق القرآن في الاستدلال على هذه العقيدة هي طرائقه في الاستدلال في كل موضع , وحججه عليها هي حججه في الإشراق وقوة العرض وبداهة المقدمات , والقرآن حين يحتج لإثبات أمر لا يبقى فيه منفذاً للشك ولا مورداً للانتقاض .


والباب الطبيعي الذي ينفذ منه العقل إلى هذه العقيدة , والسند القوي الذي يتكئ عليه في تثبيتها هو فكرة الغاية . . الغاية التي بها يفترق الفعل الحكيم عن الفعل العابث .
ينظر الإنسان في كل ما حوله من أشياء هذا الكون الفسيح الأطراف البعيد الأكناف , في كل ما حوله مما دق حتى انحسر عنه البصر لضآلته , أو عظم حتى عجزت الرؤية أن تحيط به لترامي أبعاده , مما قرب حتى كاد القرب أن يدمجه في حدود الرائي , أو بعد حتى أوشك البعد أن يلحقه بالوهم .
في كل موجود يزحم هذا الفضاء الرحب , وفي كل قانون يحكم هذي الموجودات المتنوعة .

دليل الغاية

ينظر الإنسان في كل هذه فلا يلفي إلا شيئاً يتجه إلى غاية . . . إلى غاية عتيدة أعدت هي له وأعد هو لها منذ التكوين : ﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ... 1 فلماذا يجهد الإنسان أن ينكر الارتباط بالغاية حين يعود به التفكير إلى ذاته ؟ ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ 2 أيحسب هذا لنفسه وحده دون بقية موجودات الكون . ودون سائر منشآت الطبيعة . أن يترك سدى هكذا مهملاً دون غاية ولا نظام ولا رابط ولا ضابط ؟ ! .
لقد وجد الإنسان واستقام كيانه والتأمت عناصره على أدق حكمة وأتم وضع وأحسن تصوير , وهو غير مختار في شيء من ذلك , ولا محيص من أن تكون لوجوده هذا المتقن غاية لأن الغاية ـ كما قلناه مكرراً ـ هي الفارق بين العبث والحكمة . ولا محيص من الطريق التي يسلكها إلى تلك الغاية , وقد استوفينا شرح هذا في مستهل الكتاب فليعد إليه القارئ إذا شاء . وحركة الإنسان هذه التي نريد أن ننزهها عن العبث اختيارية ولا شك , فغايتها غاية اختيارية ولا شك أيضاً, والسبيل المؤدية إلى الغاية سبيل اختيارية .
وإذن فلا محيد من الجزاء , ولا محيد عن البعث ولا محيد عن اليوم الذي يلقى فيه كل أحد جزاء ما عمل .
أيحسب الإنسان أن يترك سدى ؟ هذا هو مساق البرهان في هذه الآية , استفهام فيه معنى الإنكار , وطيّ له دلالة النشر , وإن بعض منكري النشور ليذهب هذا المذهب , ويعتبره رأياً ويتخذ الإيمان به عقيدة , ويصر على التمسك به ويتهالك في الدفاع عنه ولكن الآية الكريمة تسمي ذلك حسباناً , وتخرجه مخرج التردد والريبة فما كان للإنسان وهو المفكر العاقل أن تتردى به الأوهام إلى هذا الحضيض , ولئن زعم هذا زاعم فإن كل صامت وناطق في الوجود يرد عليه هذا الزعم .
هذه كبرى القياس كما يقول الأساتذة المنطقيون , وهي مطوية يدل عليها الإنكار , أما بقية المقدمات التي يفتقر إليها تقويم الدليل فهي جلية وهي ليست موضعاً للجدل .
وبمثل هذا الإيجاز وبنظير هذا التخريج يعرض القرآن دليل الغاية هذا في سورة ( المؤمنون ) فيقول : ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ 3.
أما في سورة الروم فإنه يذكره في شيء من التفصيل , فقد قال في معرض الحديث عن غفلة أكثر الناس ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ 4.
هذا القانون العام المتبع في السموات وفي أجرامها ومداراتها , وفي الأرض وطبقاتها وعناصرها , في كل ما تقله الأرض وما تظله السماء من حي وجامد ونبات , هذا القانون الذي لا يستثنى منه شيء من هذا العالم الكبير , قانون الارتباط بالغاية والاتجاه إليها, ألم يتفكر هؤلاء الغافلون عن الآخرة , الجاحدون للنشور, ألم يتفكروا في أنفسهم أنهم أشياء كهذه الأشياء يعمهم ما يعمها من حكم, ويشملهم ما يشملها من قانون ؟ أو لم يتفكروا أن فاطر هذه المنشآت الحكيمة يمتنع عليه أن يخلق الإنسان بلا غاية وأن يتركه سدى دون وجهة , لأنه حكيم يمتنع عليه العبث , كريم لا يجوز عليه البخل , عدل يستحيل منه الظلم ؟ أو لم يتفكروا في ذلك لعلهم ينتبهون من الغفلة ويقلعون عن الجحود .
وفي سورة (ص) يعرض القرآن هذا الدليل أيضاً إلا أنه هاهنا أوفى شرحاً وأكثر تفصيلاً من هذه ومن تلك .

﴿ ... إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ 5

سبيل الله واضحة المعالم ممهدة المسالك , وهي مؤدية بسالكها إلى الفوز ولا شك . أما الذين يضلون عن هذه السبيل فإنهم يستحقون العذاب الشديد, واستحقاقهم ذلك ليس لضلالهم عن السبيل فحسب, بل لأنهم نسوا يوم الحساب, ونسيان يوم الحساب خطيئة من شأنها أنها تضاعف الخطايا وتضخم عليها الجزاء .
هؤلاء ناسون ليوم الحساب لا منكرون, غير أن نسيانهم إياه نسيان عملي , والنسيان العملي ليوم الحساب هو الخطر الماحق الذي يصاب به المكبون على الآثام المولعون بالإجرام .
هم ناسون له في العمل , ولعلهم ذاكرون له في الشعور والعقيدة , وما كان يوم الحساب لينسى , وما كان يوم الحساب ليغفل , وإن قانون الارتباط بالغاية ليذكر من نسي وينبه من غفل .
فالسماء والأرض وما بينهما من موجودات لم تخلق جميعها ولم تترتب طرائقها ولم تقم حركاتها, ولم تجعل قوانينها, لم يوجد جميع ذلك فيها ولا في أبعاضها إلا بالحق . إلا لغاية, والحكمة والقصد و الإتقان والارتباط بالهدف الأعلى أمور بادية في كل وجه وعلى كل شيء, فلا ينبغي أن تنكر ، ولا ينبغي أن يغفل عنها , وليس للإنسان بمفرده سبيل غير هذه السبيل .
بلى هنا من ينكر ذلك . . . من ينكر الارتباط بالحكمة والارتباط بالهدف . . . من يقول ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .

حياة و موت

هذا هو القانون , وهذه هي الغاية .
كما تستودع البذرة في الأرض فتنمو ثم تفرع وتثمر , ثم تموت وتعود هشيماً , يزرع الإنسان كذلك نطفة , ثم يولد طفلاً , وينمو ويشب , ويقترن ويلد , ثم يموت ويصبح رميماً , وينتهي خبره ويمحى أثره .
ثم لا شيء . ثم لا غاية غير هذه الغاية .
هنا من يقول ذلك . والقرآن الكريم يدعوه ظناً هنا , ويدعوه ظناً كذلك في آيات أخرى ذكره فيها , يدعوه ظناً , إذ ليست له حرمة العلم , وليست له حرمة الفكر الصحيح , وليست لقائله حرمة المفكر الحر .
وما رأي يعصب صاحبه عينيه عن النور ليرى , ويغلق فكره عن البرهنة ليخال؟! .
ليس هذا ضلالاُ في العمل , وإنما هو ضلال في العقيدة وتبلد في الشعور .
هو كفر , و ويل للذين كفروا من النار .
ليس من الحكمة أن ينشأ موجود لا لغاية . وليس من الحق أن يترك الإنسان لا لرشد , وليس من العدل أن يجعل المؤمنون العاملون للصالحات والكافرون المفسدون في الأرض سواء في العقبى سواء في الجزاء .
أن الله خلق هذين الفريقين من الناس على السواء وآتاهما التكاليف الموجبة للسعادة والفوز على السواء ، وأتاح لهما الفرص الكافية لبلوغ الغاية على السواء ، فآمن المؤمنون بربهم واتبعوا مرضاته عن بينة ، وجحد الجاحدون به وارتكبوا مساخطه عن بيّنة ، وليس من العدل ولا من الحكمة أن يكونا سواءاً في الجزاء .

ودليل القدرة

ودليل القدرة . .
القدرة المطلقة المهيمنة التي لا يعروها وهن , ولا يقفها حد , ولا يتناهى بها أمد, والتي ابتدأت الأشياء لا من شيء , وصورتها لا على مثال , ثم لم يعجزها كون, ولم تستظهر بوزر , ولم تستعن بآلة ولا بإجالة فكر ولا بسابق تجربة .
القدرة التي ليس كائن أولى بها من كائن , ولا مكان أدنى إليها من مكان ولا حين أنسب بها من حين , ولا معقّداً بطأ عليها من بسيط .
القدرة الكاملة الشاملة , وما هذه السماوات بمالها من نُظُم وتدبير , وما هذه الأرض بما فيها من خلق وتقدير , وما هذه المنشآت الكونية بما فيها من بداعة التكوين وبراعة التصوير , ما هذه المخلوقات العجيبة إلا ظل من ظلالها وقبس من شعاعها .
هذه القدرة الفائقة الغالبة لا يمكن البتة أن تعجز عن إعادة الحياة بعد الموت .
لا يمكن ذلك مطلقاً ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ 6.
إن الأدلة مبثوثة في كل وجهة وان الدلالة مستبينة لكل ناظر فعلى م الشك إذن ، وفيم الجدل ؟! .
وانه لا سفاف في الحكم وسفه في الرأي ومناقضة في القياس إن يحس المرء دلائل هذه القدرة ملء الأكوان وملء الإمكان ثم يرتاب ويتردد !! .
وما خلق الناس وما إعادة الحياة إزاء قوة قدرت الأفلاك وأنشأت الأملاك ؟ ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ 7.
اجل وما حياة بعد موت ، بل وما حياة قبل موت إزاء هذه القدرة المهيمنة المسيطرة ؟
إنها كلمة من كلماتها ، و اشعاعة من إشعاعاتها : ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ 8.
والكون كله كلمة و اشعاعة !!
كلمة تصدر من قائلها فلا تتخلف ويمتنع أن تتخلف : ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ 9.
ما اقلق فاء الجواب هنا ، وما أجمل موقعها في الوقت ذاته .
ما احرج موقفها ، انها تروم إن تعيق المعلول عن علّته فلا تملك ! .
وما أجمل موقعها ، إنها توضح في التابع مفهوم التبعية ، وتعلن فيه سمة الخضوع والانقياد .
لا محيد للتابع من إن يخضع .
ولا محيد له من إن يتأخر عن متبوعه قيد خطوة .
إن هذا التأخير شعار العبودية الذاتية ، ولا بد من إعلان هذه ، ولا بد من الاعتراف بها .
وصور هذا الدليل في الكتاب الكريم متشابهة متقاربة ، فالصورة السابقة التي عرضها في سورة الاحقاف هي ذات الصورة التي يظهرها في سورة سبأ ، والتي يقدمها في سورة الاسراء ، ولا اختلاف بينها إلا في شيات يوجبها العرض ، وسمات يستدعيها السياق .
أما في سورة يس فإنه يتحدث عن الإنسان هذا الخصيم المبين الذي يغفل حتى عن نفسه وهو يجادل عن هواه ، يتحدث عن هذا المخلوق المتهافت فيقول : ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 10.
هكذا يبتدئ العرض . يحيي العظام من أنشأها أول مرة . من أنشأها من نطفة ، فهل يشك أحد في استطاعته؟
وقدرة هذا الخالق مطلقة عامة لا تحصرها حدود ولا تقام حولها سدود ، فهو بكل خلق عليم ، بكل خلق ، وبكل مخلوق . فلا تغيب عن علمه ذرة من هذا الرميم . من هذا الرميم الذي كان قبل قليل عظاماً ، وكان قبل هذا جسماً ، وكان حياً وكان انساناً ناطقاً ، وكان قبل كل أولئك تراباً . لا تغيب عن علمه مواضع هذه الذرات كلها من السموات أو من الأرض بعد الانفصال ، ولا تغيب عن علمه مواضعها من الكائن قبل التحلل . . . فهل يشك الإنسان بعد ؟ .
والشجرة الخضراء التي تقطر بالماء كيف يجعل منها ناراً محرقة تأكل اليابس والرطب ؟
أليس هذا أمراً عجباً ؟! .
إلا يدل على قدرة فائقة تأمر فلا تعصى ، وتقدر فلا تخالف ؟! .
والسموات والأرض هذان الينبوعان العظيمان للمدهشات ؟! . وما فتئ العلم يكشف كل يوم من عجائبهما جديداً ثم يتطلع إلى خفي . السماوات والأرض وعوالمهما التي لا تحد ، وعجائبهما التي لا تحصى إلا يقبلهما هذا الإنسان اللجوج دليلاً واحداً على قدرة جباره وعلم محيط ؟
أليس القادر على إنشاء هذه المنشآت قادراً على إعادة الحياة بعد الموت ؟
كيف يعي وكيف يعجز ؟
وكيف يؤوده وجود أو حفظ موجود ؟
وإنما هي إرادة .
وإنما هي اشراقة .
وإنما هي زجرة ، زجرة واحدة ، فإذا كل شيء قائم . وإذا كل شيء شاخص . وإذا كل شيء مستنير ! : ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 11.
وفي سورة الواقعة بسط لهذا الدليل واستعرض لبعض مجالي القدرة العظيمة :
﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴾ 12
﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ 13؟
﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ 14؟.
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ 15؟
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ 16؟.
إن هذه كلها مجالي لقدرة لا تتناهى وأدلة على قادر لا يحد علمه ولا يضعف سلطانه .
وفي سورة الرعد وفي سورة المؤمنون وفي مواضع أخرى عديدة تذكر هذه البرهنة بين إجمال وتفصيل .
و النشأة الأولى
والنشأة الأولى ؟ .
إنها لهي موضع الغرابة ، وإنها لهي مثار العجب ، فلينكرها من يولع بالإنكار .
هي أحق بالاستغراب وأدعى للتعجب ، فهي أحرى بالجحود إذا لم يكن له محيص من الجحود .
إنسان ينشأ من لا شيء . . .!
من تراب . . .!
من نطفة . .!
من جرثومة منوية صغيرة لا تدرك بالطرف .
لا تدرك إلا بمجهر .
إلا بآلة تضاعف حجمها أضعافاً كثيرة .
تلتقي ببويضة اكبر منها في الجرم ، اكبر منها كثيراً فان العين المجردة تستطيع إن تراها 17 تلتقيان في قرار مكين ، فتتحدان وتتطوران ، وتقع المعجزة ، ويخلق الكائن الغريب الذي يجهد لتعرّف أسرار الكون ، وأسرار الايجاد ، وأسرار النطفة التي منها خلق ، والسبل التي فيها درج ، والطرق التي بها اكتمل ، وأسرار نفسه ، وأسرار جسمه ، لحمه ودمه ، وعصبه وقصبه واليافه وغدده ، وأجهزته وأنسجته وجزيئاته وخلاياه . والذي يسخر قوى الطبيعة . ويفسر غوامض التكوين ، ويمضي دائباً جاهداً يتعرف ويفسر ويستولي ويسخر .
إنها لهي موضع الغرابة حقاً ، وإنها لهي مثار العجب ، فلينكرها الإنسان إذا لم يكن له محيد من الإنكار .
غير أن المعجزة وقعت ولا شك في وقوعها . فقد وجد الكائن ، وحقت الكلمة ونفذت المشيئة فبماذا يمتري الإنسان إذن ؟ .
أبإعادة الحياة له إذا طرأ عليه طارئ الموت ؟
أبالنشأة الثانية بعد إن أيقن بالنشأة الأولى !
إن هذه سقطة لا تليق بمفكر !
ومن ذا يرتاب في إن القادر على الابتداء قادر على الإعادة ؟!
من يرتاب في ذلك من العقلاء وان الحكم فيه لفي حدود البداهة ؟ والإنسان يذهل عن نشأته الأولى حين يشك في نشأة الأخرى ، و القرآن يذكر من ناسياً أو ينّبه غافلاً حين يقول : ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ 18أو حين يقول ﴿ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا 19. إلا يتذكر فيستريح فان الشك عناء لا تتحمله النفوس المتزنة ؟ .
ومن الناس من لا يؤمن بالحق ولو فاجأته بألف برهان .
لا يؤمن لأنه يتلذ بالشك ويشتهي الجدل . وأعسر الأدواء داء يقلب حسّ المريض وينتكس بشعوره حتى يصبح لذة من لذائذه وشهوة من شهواته . . . وأكثر أدواء النفس من هذا النوع الفاتك . وشهوة الجدل طبيعة منكوسة مقلوبة غصت بالعلم فاستساغت الجهل ، وشرقت بالبرهان فاستمرات الجدل !! .
من الناس من لا يؤمن لا لشيء ، إلا أنه لا يهوى الأيمان ولا يستلذ طعمه . فإذا صدمته قوة البرهان لم يزد على أن يحرك رأسه حركة مبهمة مجهولة لا يدري ما معناها . فلعلها حركة اضطراب للمفاجأة . ولعلها حركة عناد اكتظت به النفس فهو يروم التنفيس ، ولعله حركة تصديق مباغتة من حيث لا يشعر ومن حيث لا يريد ، ولعلها مزيج من كل أولئك فكل اولئك يطلب إن يكون . . ﴿ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا 20.
أرأيت هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ، بغتهم البرهان القوي الدامغ فانغضوا رؤوسهم ، وانغاض الرأس هو تحريكه استهزاءاً أو تعجباً كما يقول المفسرون . أو لمعنى سواهما كما قد يفهم من الملابسات .
وهذا التنزل المفاجئ السريع على ماذا يدل ؟
فلقد كانوا بادئ بدء مصرين خصمين ، وكانت لهجتهم في الخصام عنيدة شديدة ، وها هم الآن وبعد فترة جد قصيرة يسألون هذا السؤال السادر الحائر عن ميعاد البعث ( متى هو؟) كمن قد آمن بالبعث فهو يسأل عن ميعاده! .
لعل الجواب أذهلهم عن أنفسهم وعن المخبآت الكثيرة التي شحنت بها صدورهم وملئت بها آفاقهم . لعل الجواب أذهلهم عن ذلك فكانت الحيرة وكان السدر ، وكان الاضطراب المفاجئ والسؤال المرتبك .
وجواب هذا السؤال الغامض الحائر يجب إن يكون من هذا النوع الذي يملأ قلب السائل فزعاً ويزيده ذهولاً ، من هذا النوع القصير الحزم الذي يدنى يوم البعث من السائل ويضع أهواله بين عينيه .
عسى أن يكون قريباً .
عسى أن يكون قريباً فلا بد من الحذر ، ولا بد من أخذ الأهبة .
وما يدري الإنسان لعله في آخر برهة من حياته ؟ وإذا انتهت به الحياة فقد وقف على أبواب البعث وحضر أول أهواله .
هكذا يساق برهان النشأة في هذه الآيات موجزاً لا تفصيل فيه .
فطركم أول مرة . .
أنشأها أول مرة . .
خلقناه من قبل ولم يك شيئاً . .
هكذا يساق حين يراد به تذكير ناس أو تنبيه غافل . اما إذا استحكم النسيان وضربت جذوره . و امحت آثار العلم واستحال التذكر فلا معدى عن التفصيل .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ... 21.
وعلى م ترتابون في أمر البعث ولم تمترون؟
ألا أنكم ستكونون تراباً بعد الموت؟
تراباً ؟
ولم يستحيل إن يكون التراب نواة حياة ومبدأ تكوين إنسان ؟ .
ألم تكونوا تراباً من قبل ، ثم أصبحتم أحياء وأناسي ؟ .
ولا أعني نشأة الإنسان الأول فنسبنا إلى التراب أقرب من ذلك وأقصر .
من التراب يتكون النبات ، ومن النبات يتغذى الحيوان ومن لحم الحيوان وثمار النبات يتغذى الإنسان ، ومن عصارة الاغذية تتكون النطفة التي منها نخلق والخلية التي عنها نتطوّر .
وكلتا النشأتين ضم عناصر وتأسيس خلايات ثم إقامة بناء ونفخ حياة . . وفارق الشأة الأولى هو هذا التطور الذي خضع له الكائن . . هذا المدرجة التي منها عبر ، والسّلم الذي فيه ارتقى . .
كان تراباً ، وهذه جزيئاته الأولى .
ثم كان نطفة ، وهي مادته القريبة .
فكان علقة .
فكان مضغة .
ثم تم البناء ، وقام الهيكل ، ونفخت الروح . وخرج طفلاً يبتسم للدنيا ، وبلغ أشده يكدح فيها ، ومرت به أدوار الحياة وتناقلته نواميسها وتلاقفته تياراتها .
إذن فالنشاة الأولى أشد تعقيداً وأعسر متناولا من النشأة الثانية .
أعسر متناولاً في المقاييس البشرية ، لا في قدرة الله عز اسمه ، حيث تبطل الحدود ، وتضل المقاييس ، تتساوى النسبة فلا شيء أصعب من شيء ولا تكون أيسر من تكوين .
من تراب . ثم من نطفة . ثم من علقة . ثم من مضغة تجمد وتشتد وتتصور عظاماً وتكسى لحماً هذا السلم الذي يرقاه التراب ليصير إنساناً وبتعبير آخر أدنى إلى الصواب ، يرقاه الإنسان النطفة حتى يكون الإنسان الطفل والإنسان القوي الأيد . فإن النطفة تحتوي خلاصة الإنسان وخلاصة صفاته وسماته واستعداداته وموروثاته .
هذه حقيقة قررها العلم الحديث وأثبتتها تجاربه ومشاهداته فلا مراء فيها ولا لبس ، وفي القرآن الكريم : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ 22.
وموضع الاعتبار من هذا الوحي الكريم هو قوله جعلناه نطفة . جعلنا الإنسان هذا المخلوق الذي أنشأنا جنسه من قبل فابتدأناه من سلالة من طين . جعلنا الإنسان هذا بخصائصه وفوارقه نطفة في قرار مكين ، وأعددنا له المنهاج الطبيعي الذي لا يحور ، فارتقى الإنسان النطفة وارتقت معه الخصائص والفوارق فكان علقة ثم كان مضغة ، ومر في طيقه دائباً لا ينحرف ولا يتأخر ، ولا يكل ولا يهدأ حتى إذا اعدته الطبيعة للهدف ، وادنته الرحلة من الغاية أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين .
أما كيف اتحدت الجرثومتان ( جرثومة الذكورة وجرثومة الأنوثة ) فكانتا خلية واحدة تحمل خصائص الكائن وخوارق التكوين وعجائب القدرة فهذا ما ادع بيلنه إلى الدكتور الكبير( الكسيس كاريل ) في كتابه ( الإنسان . . . ذلك المجهول ) .
( وفي وقت الحيض ينفجر الكيس المشتمل على البويضة ، ثم تبرز البويضة فوق غشاء بوق فالوب ، فتنقلها السيليا (الاهداب) المتحركة للغشاء إلى داخل الرحم وتكون نواتها قد تعرضت في تلك الاثناء لتغيير هام . ذلك انها تكون قد قذفت بنصف مادتها ـ أو بعبارة أخرى ـ بنصف كل كروموسوم ، وعندئذ يخترق الحيوان المنوي سطح البويضة ، وتتحد كروموسوماته التي تكون قد فقدت نصف مادتها بكروموسومات البويضة . وهكذا يولد مخلوق جديد . انه يتألف من خلية واحدة طعمت فوق مخاط المهبل ، وتنفصل هذه الخلية إلى جزئين ثم يبدأ نمو الجنين) 23 .
وأما هذه الخلية الواحدة المطعمة تحتوي على جميع صفات الكائن وجميع سماته واستعدادته وموروثاته فقد تحدث عنه الاستاذ ( ا .كريستي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك فقال 24 .
( كل خلية ذكراً كانت أو انثى تحتوي كروموزومات 25 وجينات (وحدات الوراثه) والكروموزومة تكون النوية (نواة صغيرة) المعتمة التي تحتوي الجينة ، والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حتى أو إنسان والسيتوبلازم 26 هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين . وتبلغ الجينات ( وحدات الوراثة) من الدقة أنها – وهي المسؤولة عن المخلوقات البشرية جميعاً التي على سطح الارض من حيث خصائصها الفردية واحوالها النفسية وألوانها وأجناسها ـ لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد لكان حجمها أقل من حجم ( الكستبان) .
( وهذه الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات ، والكستبان الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم ، ومع ذلك فان هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها ، فهل هذه الجينات والسيتوبلازمات تحبس كل الصفات المتوارثة العادية لجمع من الأسلاف ، وتحتفظ بنفسية كل فرد منهم ، في مثل تلك المساحة الضئيلة ؟ وما هو المحبوس هناك ؟ كتاب تعليمات ؟ صف من الذرات) ؟
ودليل البعث في الآية الكريمة :
1 ـ إن يداً كونت الإنسان هذا التكوين العجيب وابتدأت خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من أمشاج ، إن يداً كونته ولم يكن شيئاً مذكوراً ، ليس الكثير ولا من الصعب عليها إن ترد هذا المخلوق إلى الحياة بعد إن يموت ، وبعد إن يصبح رميماً ، وبعد إن تتفرق أجزاؤه . بل وبعد أن تتفجر ذراته .
وان علماً أحاط يتلك الهباءات المتبددة فجمعها من كل صوب ، ورّكبها خلايا ، ثم بناها جسماً ونفخ فيها روحاً ، ليس من الغريب ولا من البعيد عليه إن يكون محيطاً بتلك الهباءات بعد إن تتفرق وتتمزق فيؤلفها للخلق الجديد كما ألفها من قبل للخلق الأول .
2 ـ وان قدرة هيمنت على هذا الكائن من قبل إن يوجد فأعدت له المناهج وألفت له العناصر واخضعته للقوانين وعاقبت عليه الأوامر وأظهرت فيه الخوارق وتعهدته في كل أدواره بما تدعو إليه الحكمة وتبدو فيه القوة والمكنة ثم لم تزل مهيمنة عليه طوال حياته لا تغفل تدبيره لحظة ، ولا يستغني هو عنها في آن . إن قدرة هذه هيمنتها على كل إنسان لهي قدرة مستطيلة مطلقة لا يمكن إن يستعصي عليها شأن من شؤونه ولا حال مرتقبة من أحواله .
3 ـ والنظام الذي خطط انشأة هذا الكائن ، والتطور الذي مر عليه حتى أصبح انساناً تاماً سوياً له حزمه ونشاطه ووعيه وادراكه ، هذا التطور الدائب الذي لا يقف ولا ينحرف يدلنا على إن الإنسان إنما خلق للكمال ، والطبيعة انما تدأب في تسييره لتبلغ به هذه الغاية ، والمرء إنما يكدح في حياته ليبلغها كذلك . وقد أتمّ الدين له هذا المنهاج ، وضمن له بلوغ الكمال الأعلى إذا اتبع هداه .
وإذن فلا ينتهي طريقه بالموت .
ولا ينتهي مع هذه الحياة أبداً .
ما موت ؟
وما حياة فيما الإنسان إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ؟ .
هذان هما النهاية المحسوسة لنشأة الإنسان هذه ، فهل يجوز إن يكون هما النهاية الكبرى لذلك النظام الرتيب ؟ وهل يجوز إن يكونا هما الغاية المقصودة من ذلك التدبير الحكيم ، ولتلك القدرة القاهرة ، ولذلك الدين القيم الحنيف ؟ .
انهما ابتسار لا بلوغ غاية .
وترى الأرض هامدة
﴿ ... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 27.
وهذا مثال شاخص للبعث يعترض الإنسان كل آونة ويراه في كل وجه .
للأرض حياة كما للإنسان حياة .
للأرض موت كما للإنسات موت .
نعم كما للكائنات الحية التي تتألف من عناصر الأرض ، وتيى وتعيش على ظهرها ، وتغتذي وتنمو من ترابها ، كما لهذا المواليد حياة وموت فلامها الأرض كذلك حياة وموت . وما حياة البنين إلا قبسة من حياة الاباء .
وحياة الأرض هي هذه الطاقة التي توقظ البذرة اليابسة في أعماقها فتجذر ، وتحيي الجذور الهامدة في تربتها فينمو ، وترفذ الساق النابت في ثراها فيفرع ، و تحبو الغصن من نشاطها فيورق ، وتهب الزّهوة من ورائها فتنضر ، وتؤتي الثمرة من زكاتها فتطيب وتزكو .
هي مبعث هذه الحركة الدائبة الدائمة ، ومصدر هذا الجمال النضير البهيج .
ويأتي على هذه البقاع حين من الدهر . على هذه الأرض التي كانت موطناً للخصب ، وسبباً للبهجة . يأتي عليها بذاتها حين من الدهر ليس بالمديد ، فإذا الحركة راكدة ، وإذا الحياة هامدة ، فلا إحياء لبذرة ولا إنماء لودية ، ولا إرفاد لغصن ولا امداد لساق .
لقد جف الينبوع فلا رفد .
وخمدت القوة فلا حركة .
وماتت الأرض فلا حياة .
ثم ماذا ؟
ثم ينزل الماء فتنتفض الأرض انتفاضة الحياة ، وتتفتح فروجها للروح الدافق ، وتنبسط أساريرها للنشاط البادئ .
و تستأنف الحياة ، وتجدد الحركة ، ويعود الدور ، فاذا كل نابتة تبتسم ، وإذا كل ذواية تزدهر .
( ترى الأرض هامدة) هذه هي الحالة الراهنة التي تكون عليها الأرض إذ تودع الحياة .
همود فلا حس ولا حركة يقول الله سبحانه في هذه الاية .
وخشوع فلا ندى ولا بلّة كما يقول تعالى في سورة فصلت .
) فإذا أنزلنا عليها الماء( ونزول الماء يعني نزول العناصر التي فقدتها الأرض ففقدت معها الحياة . ) فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ( وهذا تحديد علمي لصفة الأرض وهي تستجد الحياة . تحديد يعترف به العلم الحديث . يعترف به للحقيقة الثابتة . ولو أنصف لاعترف به كذلك القرآن العظيم !!
ولفظ الاهتزاز هنا يعني دبيب الحركة في الجسم مع دبيب الحياة .
والربو انتفاخ الأرض وتفتح مسامها للعناصر الوافدة 28 .
انزل الماء على الأرض الهامدة فاهتزت وربت ، اذن فقد استعادت الطاقة واستعادت الحياة واستعادت النشاط .
أما انباتها من كل زوج بهيج فهو اثر يعلن عن الحياة وليس من مقوماتها . وفي سورة فصلت :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ 29.
هذا هو البعث إحياء جسم فارقته الحياة .
وهذا هو النشور انتعاش حركة أخمدها الموت .
يحسه الإنسان ويلمسه ولا يرتاب فيه ولا يجادل .
فلم يشك إذن ولم ينكر إذا أخبر بمثل ذلك عن نفسه ؟! .
إذا قيل له ستبعث وتنشر . ستعود لك الحياة بعد الموت . ستتألف عناصرك بعد التفرق . ستحشر وتحاسب . وستلقى جزاء ما قدمت من عمل إن خيراً فخيراً وان شراً فشراً ؟!
وبعد فان الآية الكريمة ذكرت نشأة الإنسان الأولى وذكرت حياة الأرض الثانية ونسّقت بين المعجزتين في الدلالة على البعث ، ونسقت بينهما في الدلالة على القدرة ، ونسقت بينهما في الدلالة على التدبير ، ونسقت بينها في الدلالة على الموجد المبدئ المعيد وعلى علمه بما صنع ، وعلى حكمته فيما دبّر .
ومن يشك ومن يمتري في إن نفلة الإنسان العجيبة في أطوار نشأته الأولى من يشك في أنّها تتطلب موجداً حياً يهب الوجود والحياة .
بصيراً يعلم دقائق العناصر و مختلف الخصائص ، ويحيط بما يؤول إليه كل بسيط منها وبما يثمره كل تركيب .
قديراً يهيمن مشيئته على البسائط منها والمركبات ، وعلى المبادئ والغيايات .
مدبراً يوجه كل طور منها بما يوائم الحكمة ويتعهد كل نشأة بما تدعو إليه الحاجة؟!
ومن يشك ومن يمتري في إن إحياء الأرض الميتة و إخراج النبتة الطرية يستدعي ايضاً كل ذلك؟
من يرتاب في إن استخلاص ثمرة شهية أو زهرة شذية من عصارات يجود بها الطين ، وجزيئات يؤتيها الماء ، وغازات يمنحها الهواء ، وطاقة يهبها اشعة الشمس ، من يشك في إن استخلاص ذلك يتطلب علماً بدقائق علم الكيمياء وتفاصيل علم النبات ونواميس علم الحياة ، وبجزيئات عناصر الأرض والماء والهواء والضوء ثم قدرة كاملة على مد كل جزيء بحاجته ، وضم كل عنصر إلى إلفه ، وشد كل حجيرة إلى اختها وربط كل طور بغايته .
ومد الموجد القادر العليم المدبر كل فرد فرد من بني الإنسان ، وكل بقعة بقعة من فجاج الأرض بالحياة ، وبالتدبير وبالنظام الذي لا يختلف وبالتطور الذي لا يحيد وبالرعاية التي لا تغفل ولا تنسى .
فهو اذن دائم الحياة ، دائم العلم ، دائم القدرة ، دائم الاحاطة ، دائم الحكمة .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ 2130 .