حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
مسألة التوفي
نص الشبهة:
قد عرفتَ تصريحَ القرآن الكريم بأنّ الأمر قد شُبِّهَ لهُم ، وما قَتلوه وما صَلبوه ، بل رَفَعه اللّهُ إليه . وكان القوم من أَوّلِ أَمرِهم على شكٍّ من ذلك ، وكان هناك أقوامٌ أنكروا وقوعَ القتل على شخصِ المسيح ، وكان اختلاف الأناجيل الأربعة في سَردِ القضيّة تأييد لهذا الشكّ والترديد . غير أنّ هنا سؤالاً : هل المسيح رُفِع بِرُوحه وجَسدِه إلى السماء وهو حيٌّ يُرزق حتّى يرجع إلى الأرض في آخر الزمان كما في كثير من رواياتٍ إسلاميّة ؟ أم رُفع برُوحه دون جَسدِه وأنّ اللّه توفّاه أي أَماتَهُ وقبضَ روحَهُ ؟
الجواب:
يقول البعض من علماء الغرب : ليس في القرآن نصٌّ على بقاء المسيح حيّاً يُرزق في السماء ، بل التصريح بمُوته ، وأنّ اللّه توفّاه : 1 .
﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... ﴾ 2.
وهذا يدلّ على أنّه تعالى أَماتَه ثم رُفِع بروحه إلى السماء ...
وهكذا قوله : ﴿ ... فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ... ﴾ 3.
ولكنّ التوفية : أَخْذُ الشيء أخذاً مستوفياً ، أي بكمالِه وتمامِه ، ومنه : وفاء الدَّيَن ، وليس دليلاً على الموت صِرْفاً ، ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ... ﴾ 4، ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ... ﴾ 5.
على أنّ الأناجيل متّفقةٌ على أنّ المسيح ( عليه السلام ) قامَ مِن القبرِ وذهبَ إلى حيث لم يرَه أحد غير تلاميذه ، وافتقدوا جسده فلم يجدوه ؛ فلعلّه لمْ يَمُتْ حين الصَلب وإنّما ذهب وعيُه ، ثُمّ رجع إليه بعد وضعِهِ في القبرِ ، حيث لم يُهيلوا عليه التراب ـ حسبما نصّت عليه الأناجيل ـ وإنّما وُضِع على القبرِ حجرٌ فوجدوا الحجرَ مُدَحرجاً عن القبرِ .
وجاء في إنجيل ( متّى ) : إنّ مَلاك الربِّ نزلَ من السماءِ وجاء ودَحْرَج الحجر عن الباب ، وقال للمرأتَين اللتين جاءتا لتَنظرا القبرَ : لا تَخافا ، إنّي أعلمُ أنّكما تَطلبانِ يسوع المَصلوب ، ليس هو هاهنا ؛ لأنّه قام كما قال هلُمّا انظرا الموضعَ الذي كان الربُّ مضطَجِعاً فيه ، واذهبا سريعاً وقولا لتلاميذه : إنّه قام من الأَموات ، ها هو يَسبِقُكم إلى الجليل ، هناك ترونه .
فخَرَجتا سَريعاً مِن القبرِ بخوفٍ وفرحٍ عظيم راكِضَتَين ؛ لتُخبِرا تلاميذه ، فيما هما مُنطَلِقتانِ إذا يسوع قال لهما : سلامٌ لكما ، فَتَقدَّمتا وأَمسَكَتا بِقَدَميّه وسَجَدَتا له ، فقال لهما يسوع : لا تخافا ، اذهَبا قُولا لإخوتي أنْ يَذهبوا إلى الجليل وهناك يرَونَني .
وأمّا التلاميذ فانطَلقوا إلى الجليلِ حيثُ أَمرهم يسوع ، ولمّا رَأَوه سجدوا له ولكنْ بعضُهم شَكّوا ، فتقدّمَ يسوع وكلّمهم قائلاً : دُفِع إليّ كلَّ سلطانٍ في السماء وعلى الأرض ، فاذهبوا وتلمّذوا جميعَ الأُمّم . وعلِّمُوهم أنْ يَحفظوا جميعَ ما أَوصيتُكم به ، وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر ، آمين 6 .
وفي إنجيل لوقا : إنّهنّ 7 دَخَلْنَ القبرَ ولم يَجِدْنَ جسدَ يسوع ، وفيما هُنّ مُتحيّرات إذ وقف بِهنّ رَجُلانِ بثيابٍ برّاقةٍ ، وقالا لهُنّ : لماذا تَطلُبَنَّ الحيَّ بين الأموات ، وإنّه في الجليل .
وإنّ التلاميذ لمّا وجدوا المسيح نفسَه في وسطهم هناك وقال لهم سلامٌ لكم فجَزعوا وخافوا وظَنّوا أنّهم نظروا روحاً فقال لهم : ما بالَكم مُضطَرِبِينَ ؟ انظروا يديَّ ورجليَّ إنّي أنا هو ، جسّوني فإنّ الروحَ ليس له لحمٌ وعظام كما تَرَون لي ، فطلب منهم طعاماً ،فَنَاوَلوه جزءً مِن سمكٍ مشويٍّ وشيئاً مِن شَهْدِ عسلٍ ، فأخذ وأكلَ قُدّامهم ، ثُمّ أَوصاهم بوصايا ، ثمّ رفع يديه إلى السماء وبارَكَهم ، وفيما هو يُبارِكُهم انفرد عنهم واُصعِد إلى السماء 8 .
وقريبٌ مِن ذلك جاء في إنجيل يوحنّا 9 .
وفي إنجيل ( مرقس ) : ثُمّ أنّ الربّ بعد ما كلَّمَهم ارتفعَ إلى السماء وجلسَ عن يمينِ اللّه ... 10 .
ومِن هنا يعتقد البعضُ أنّ قوله تعالى : ﴿ ... وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ... ﴾ 11 بمعنى أنّ صَلبَه لم يؤدِّ إلى قتلِه ، ولكن شُبِّه لهم أنّه قُتِل على خَشَبة الصَلب ، ولم يكونوا على يقينٍ مِن أنّه ماتَ حقيقةً وذلك معنى ﴿ ... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾ 11.
وذلك أنّ ( بيلاطس ) كان يَعتقد براءةَ المسيح مِن كلّ ما يَرميه به اليهود ، كما أنّ امرأته أيضاً كانتْ عاطِفَةً على يسوع ، مهتمّةً بأمره ، حريصةً على أنّه لا يُمَسّ بِسُوء ، وقد أوصت زوجها بذلك...
ففي إنجيل متّى : وإذ كان جالساً على كرسيّ الولاية ، أرسلت إليه امرأته قائلةً : إيّاك وذلكَ البارّ ؛ لأنّي اليوم تألّمتُ كثيراً في حُلُمٍ مِن أجلِه 12 .
ومِن ثَمّ نرى أنّ المسيح لم يَمكُث على خَشَبة الصَلب طويلاً ، ولمْ تُكسَر رجلاه كما كُسِرت رِجلا المَصلوبَينِ الآخَرَينِ ، بل جاء يوسف ـ وهو أحد تلاميذ المسيح ـ وتسلّم الجسد ، وتعجّبوا مِن موتِه سريعاً ، فلفّه في كفنٍ ووَضَعَه في قبرٍ له كان هناك .
ولا سبب لذلك إلاّ العناية الخاصّة التي كانت تحوط المسيح من ناحية الوالي بيلاطس وزوجه ويوسف ونيقوديموس ...
فلهذه الاعتبارات جَعلوا يقولون : إنّ المسيح تَظاهَرَ بالموتِ وحَسِبَه الناسُ ميّتأً ، ولم يكنْ قد مات ، والذي تولّى إنزالَه رجلٌ من تلاميذه في الحقيقة ، وكان ذلك التَظاهر بإيحاءٍ منه وساعَدَه الوالي على ذلك بأنْ سُلِّم له في إنزالِه عن الخَشَبة ، واليهود في غفلةٍ عمّا بينه وبين المسيح من العلاقة ، ولفّه في كفنٍ ووضعه في القبر وأجافَ على الباب حجراً 13 .
* * *
هذا ، ولم يُصرِّح القرآن بنوعية الشُبهة ، وقِصّة إلقاء الشَبَه على ( يهوذا الأسخر يوطى ) . جاءت في إنجيل برنابا وبعض المصادر النصرانيّة ؛ ولعلّه الأصلُ في شيوع ذلك بين مفسّري العامّة ، وعمدتُهم : وهب بن منبّه 14 الذي اشتهر بِكَثرَةِ النقل عن أهل الكتاب ولا سيّما نصارى نجران 15 ولم يُؤثَر عن أئمّةِ أهل البيت ( عليهم السلام ) شيء من ذلك في تفاسيرنا القديمة المعتمدة 16 سِوى ما جاء في التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم القمي 17 ولم يَثبُت انتسابُ هذا التفسير إلى عليّ بن إبراهيم ، وإنّما هو من صُنْع أحد تلامذته المجهولين 18 ، ومِنْ ثَمّ لا يُعتَمد بما تفرّد به هذا التفسير ما لمْ يدعَمْه شواهد تُوجب الاطمئنان .
والمهمّ : أنّ الأناجيل وإنْ ذَكَرَتْ قصّة الصَلب لكن ليس فيها تصريح بموت المسيح بذلك . وقد عرفتَ عبارة ( لوقا ) : ( لماذا تَطلُبَنّ الحيَّ بين الأموات ) 19 الأمر الذي يلتئم واشتباه اليهود في زَعمِهم أنّهم قتلوا المسيح بالصَّلب .
والقرآن مصرّح بأنّ الأمر قد اشتبه عليهم ﴿ ... وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ... ﴾ 11... ﴿ ... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾ 11.
وأيضاً فإنّ الأناجيل متّفقة على أنّ المسيح رُفع بجسمه ورُوحِه ، وهذا هو ظاهر تعبير القرآن الكريم أيضاً : ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ... ﴾ 20 .
ومِن ثَمّ لم يُعهَد للمسيح ( عليه السلام ) قبرٌ لا عند المسيحيّين ولا عند غيرهم .
نعم زَعَمَ ( غلام أحمد القادياني ) أنّ المسيح أنجاهُ اللّه مِن كيد اليهود ، فذهب إلى بلاد الهند ، واستقرّ في بلاد كشمير ـ شمال الهند ـ بِسَفحِ الجبلِ ( جبال هملايا ) وأقام هناك إلى أن وافاه أجله ، ودُفن في تلك البلاد قُرب بلدة ( سرنجار ) وقبره معروف هناك .
قال الأُستاذ النجّار : كنت مسافراً في رحلةٍ إلى ( اسطنبول ) في سنة 1924 م وكان في السفينة الأُستاذ الشيخ أبو الوفاء الشرقاوي ، فسألته : هل سمع حين كان في ( سرنجار ) بكشمير عن قبرٍ بقربِها يقال له : قبر النبيّ الأمير ـ حسب تعبير القادياني ـ يعني المسيح ؟ فقال : نعم ، سمعتُ بذلك وأنّه في الصحراء .
والقادياني في زَعمه هذا حاولَ إثبات كونه هو المسيح الموعود بمجيئه في آخر الزمان ، ولكن كيف يكون هو المسيح وهو معروف النَسب بين قومه ؟! فذهب إلى تأويل الأمر على أنّ المسيح مات ولا يمكن أن يعود بشخصه ، ولكنّه يعود في شخصيةٍ أُخرى .
فقال : إنّي أنا هو المسيح . آتٍ بِهديهِ وتعاليمهِ مِن بثّ السلام والرحمة والتعاطف والمحبّة... وله كلام طويل في كتبه ومجلّته التي كان يُصدرها في حياته ، ولا يزال جماعته في نشاط من التبشير بمسيحيّته... والدولة الإنكليزيّة ـ في وقته ـ كانت تؤيّدُهم ؛ لأنّهم كانوا يقولون أنّ مسيحهم أبطلَ الجهاد ، وكان مُغرماً بالكافر المُستعمِر ، ويمدح حكمهم في البلاد ويراه نعمةً على أهل الهند 21 .
بقي الكلام حول قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ 22إلى مَ يعود الضمير من قوله ( قبل موته ) ؟ فيه قولان :
أحدهما : أنّه يعود إلى المسيح ، ويكون دليلاً على أنّه ( عليه السلام ) لم يَمت ، وتضافرت الروايات بأنّه ينزل في آخر الزمان ليكون مؤيِّداً للمهديّ المنتظر عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف ، فهناك يبدو الحقّ وتتجلّى الحقيقة لدى أبناء كلّ مِن اليهود والنصارى ، أمّا اليهود فيبدو لهم خطأهم في إنكار نبوّته ، وأمّا النصارى ففي زَعمهم أنّه إله .
قال عليّ بن إبراهيم القمي : حدّثني أبي عن القاسم بن مُحمّد عن سليمان بن داوود المنقري عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب ، قال : قال لي الحجّاج : إنّ آية في كتاب اللّه قد أعيتني ! قلتُ : أيّة آية هي ؟ قال : قوله تعالى :﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ 22 وإنّي لآمر باليهودي والنصراني فيُضرب عنقُه ، ثم أرمقُه بعيني فما أراه يحرّك شَفتيه حتّى يخمد ! فقلتُ : ليس على ما تأوّلتَ ، قال : كيف هو ؟ قلت : إنّ عيسى يَنزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا ، فلا يبقى أهلُ ملّةٍ يهودي ولا نصراني إلاّ آمن به قبل موته ، ويصلّي خلف المهديّ ، قال : ويحك أنّى لكَ هذا ؟ ومن أين جئتَ به ؟ فقلت : حدّثني به مُحمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( عليهم السلام ) فقال : جئتَ بها واللّه من عينٍ صافية 23 .
وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب مثَلَه ، فقال الحجّاج : من أين أخذتها ؟ فقلتُ : مِن مُحمّد بن عليّ قال : لقد أخذتَها مِن معدنها . وفي رواية أُخرى : يعنى ابن الحنفيّة 24 .
وأَخرجه كبارُ المفسّرين ، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : ذهب إلى هذا القول ابن عبّاس وأبو مالك والحسن وقُتادة وابن زيد ، واختاره الطبري ، قال : والآية خاصّة لمَن يكون في ذلك الزمان 25 وهو الذي ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسير أصحابنا . وذكر الحديث عن شهر بن حوشب عن محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة ، وذكر البلخي مثل ذلك .
قال : وضَعَّف هذا الوجه الزجّاج وقال : الذين يَبقون إلى زمنِ نزول عيسى من أهل الكتاب قليل ، والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب أجمع 26 .
وهكذا الطبرسي في مجمع البيان 27 .
وذكر الإمام الرازي حديث شهر بن حوشب ، قال : فاستوى الحجّاج جالساً ـ حين ذكرتُ له ذلك ـ وقال : عمّن نقلتَ هذا ؟ فقلتُ : حدّثني به مُحمّد به عليّ ابن الحفنيّة . فأخذ ينكتُ في الأرض بقضيب ، ثم قال : لقد أخذتَها من عينٍ صافيةٍ 28 .
والقول الثاني : أنْ يعود الضمير إلى الكتابي ، ومعناه : لا يكون أحد من أهل الكتاب حين يخرج مِن الدنيا عند الموت إلاّ ويؤمن بالمسيح ، وذلك عند زوال التكليف ومعاينة الموت ؛ حيث الحقيقة تنكشف لدى حضور الموت .
قال الطبرسي : وذهب إليه ابن عبّاس في روايةٍ أُخرى ومجاهد والضحّاك وابن سيرين وجويبر ، قال : ولو ضربتُ رقبته لم تخرج نفسه حتّى يؤمن 27 .
قال الشيخ مُحمّد عبده : ﴿ ... قَبْلَ مَوْتِهِ ... ﴾ 22 أي قبل موت ذلك الأحد ، الذي هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم ، وحاصل المعنى : أنّ كلّ أحدٍ من أهل الكتاب عندما يُدرِكُه الموت ينكشف له الحقّ في أمر عيسى وغيره مِن أمر الإيمان فيؤمن بعيسى إيماناً صحيحاً ، فاليهودي يعلم أنّه رسولٌ صادق غير دعيّ ولا كذّاب . والنصراني يعلم أنّه عبد اللّه ورسوله فلا هو إله ولا ابن اللّه .
ورجّح هذا المعنى على المعنى الأَوّل باحتياج ذلك إلى تأويلِ النفي العامّ هنا بتخصيصه بمَن يكون منهم حيّاً عند نزول عيسى ، قال : والمُتبادر من الآية هو المعنى الذي أختاره ، وهذا التخصيص لا دليل عليه ، وهو مبنيّ على شيءٍ لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينةً له .
قال : والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسِّرةً للآية ، أمّا المعنى المُختار الذي هو الظاهر المُتبادر من النَظم البليغ فيؤيِّده ما ورد من اطّلاع الناس قبل موتهم على منازلهم في الآخرة ، قال : وممّا يؤيِّد هذه الحقيقة النصّ في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق 29 .
غير أنّ سياق الآية يُرجّح القولَ الأَوّل ؛ حيث وقع هذا التعبير عقيب ردِّ مزعومةِ اليهود : أنّهم صلبوه وقتلوه ، بل شُبِّه لهم الأمر وما قتلوه يقيناً ، فمعناه : أنّه لم يُقتل ولم يَمُت وأنّه حيٌّ يرزق ، وما مِن أحدٍ من أبناء اليهود والنصارى ليؤمنَنَّ به إيماناً بنبوّته الصادقة قبل أن يموت المسيح ، فالكلام هنا كلام عن موت المسيح ، وأنّه مات بالصَلب وقُتل أم لا ، فالآية تَنكر ذلك ، وتنصّ على أنّه لم يَمُت ، فكان قوله تعالى إشارةً إلى موت المسيح ( عليه السلام ) .
ولسيّدنا العلاّمة الطباطبائي ( قدس سرّه ) هنا نظرة دقيقة في دلالة سياق الآية على عود الضمير في ﴿ ... قَبْلَ مَوْتِهِ ... ﴾ 22 إلى المسيح ؛ وذلك حيث قوله تعالى ـ عقيب ذلك ـ : ﴿ ... وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ 22. فإنّه يدلّ على أنّه ( عليه السلام ) يشهد يوم القيامة بشأن مَن آمن به في حياته قبل موته ، أمّا فترة التوفّي ورَفعه إلى السماء فكان الشاهد عليهم هو اللّه سبحانه ، كما جاءت في سورة المائدة : 117 30 .
وأمّا مسألة تخصيص العموم فليس من التخصيص حقيقة ، وإنّما هو من باب التسامح والتوسعة في التعبير ، فخوطب الآباء بما يفعله الأبناء ، كما عوتب الأبناء بما فعله الآباء في كثير من مواضع القرآن 31 .
- 1. عيسى والقرآن ، ص 207 ، ترجمة وتحقيق الأُستاذ محسن بينا .
- 2. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 55، الصفحة: 57.
- 3. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 117، الصفحة: 127.
- 4. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 42، الصفحة: 463.
- 5. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 60، الصفحة: 135.
- 6. إنجيل متّى ، إصحاح 28 / 1 ـ 20 .
- 7. ذكر مرقس ولوقا : أنّ ثلاث من النساء ذهبنَ ليُفتّشن عنِ القبرِ .
- 8. إنجيل لوقا ، إصحاح 24 / 1 ـ 53 .
- 9. إنجيل يوحنّا ، إصحاح 20 و21 .
- 10. إنجيل مرقس ، إصحاح 16 / 19 .
- 11. a. b. c. d. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 157، الصفحة: 103.
- 12. إنجيل متّى ، إصحاح 27 / 19 .
- 13. راجع : قصص الأنبياء للنجّار ، ص 428 ـ 429 .
- 14. راجع : جامع البيان ، ج 6 ، ص 10 ـ 12 ، و مجمع البيان ، ج 3 ، ص 136.
- 15. راجع : الإسرائيليّات والموضوعات لأبي شُهبة ، ص 105 ، و معجم البلدان ، ج 5 ، ص267 .
- 16. راجع : تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 175 و283 ، و تفسير التبيان ، ج 2 ، ص 478 و ج 3 ، و مجمع البيان ، ج 2 ، ص 449 و ج 3 ، ص 135 ، و تفسير أبو الفتح الرازي ، ج 3 ، ص 55 و ج 4 ، ص 61 .
- 17. تفسير القمي ، ج 1 ، ص 103 .
- 18. راجع : صيانة القرآن من التحريف ، ص 229 ، طبع 1418 .
- 19. إنجيل لوقا ، إصحاح 24 / 5 .
- 20. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 158، الصفحة: 103.
- 21. راجع : قصص الأنبياء للنجّار ، ص 427 .
- 22. a. b. c. d. e. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 159، الصفحة: 103.
- 23. تفسير القمي ، ج 1 ، ص 158 .
- 24. الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 734 .
- 25. راجع : جامع البيان ، ج 6 ، ص 16 .
- 26. تفسير التبيان ، ج 3 ، ص 386 .
- 27. a. b. مجمع البيان ، ج 3 ، ص 137 .
- 28. التفسير الكبير ، ج 11 ، ص 104 .
- 29. تفسير المنار ، ج 6 ، ص 21 ـ 22 .
- 30. راجع : تفسير الميزان ، ج 5 ، ص 142 .
- 31. شُبُهَات و ردود حول القرآن الكريم ، تأليف : الأُستاذ محمّد هادي معرفة ، تحقيق : مؤسّسة التمهيد ـ قم المقدّسة ، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ص 103 ـ 110 .