الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تنزيه موسى عن نسبة الاضلال لله تعالى

نص الشبهة: 

فإن قال: فما معنى قوله تعالى حاكيا عن موسى (ع):﴿ ... رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ .

الجواب: 

(الجواب): قلنا: أما قوله تعالى ﴿ ... لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ... 1ففيه وجوه:
أولها أنه أراد لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذف (لا) وهذا له نظائر كثيرة في القرآن، وكلام العرب فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ ... أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ... 2وإنما أراد (لئلا تضل) وقوله تعالى: ﴿ ... أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ 3، وقوله تعالى ﴿ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ... 4.

وقال الشاعر: نزلتم منزل الأضياف منا *** فعجلنا القرى أن تشتمونا والمعنى أن لا تشتمونا.
فإن قيل: ليس هذا نظيرا لقوله تعالى ﴿ ... رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ... 1لأنكم حذفتم في الآية (أن) و (لا) معا وما استشهدتم به إنما حذف منه لفظة (لا) فقط.
قلنا: كلما استشهدنا به فقد حذف فيه الكلام ولا معا، ألا ترى أن تقدير الكلام لئلا تشتمونا.
وفي الآية إنما حذف أيضا حرفان وهما أن ولا، وإنما جعلنا حذف الكلام فيما استشهدنا به بإزاء حذف أن في الآية من حيث كانا جميعا ينبئان عن الغرض ويدلان على المقصود ألا ترى أنهم يقولون جئتك لتكرمني، كما تقولون جئتك أن تكرمني. والمعنى أن غرضي الكرامة، فإذا جاز أن يحذفوا أحد الحرفين جاز أن يحذفوا الآخر.
ثانيها: إن اللام ها هنا لام العاقبة وليست لام الغرض، ويجري مجرى قوله تعالى ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ... 5وهم لم يلتقطوه لذلك بل لخلافه، غير أن العاقبة لما كانت ما ذكره حسن إدخال اللام، ومثله قول الشاعر:
وللموت تغذو الوالدات سخالها *** كما لخراب الدور تبنى المساكن ونظائر ذلك كثيرة.
فكأنه تعالى لما علم أن عاقبة أمرهم الكفر، وأنهم لا يموتون إلا كفارا، وأعلم ذلك نبيه، حسن أن يقول إنك آتيتهم الأموال ليضلوا.
وثالثها: أن يكون مخرج الكلام مخرج النفي والانكار على من زعم أن الله تعالى فعل ذلك ليضلهم، ولا يمتنع أن يكون هناك من يذهب إلى مذهب المجبرة 6 في أن الله تعالى يضل عن الدين، فرد بهذا الكلام عليه كما يقول أحدنا: إنما آتيت عبدي من الأموال ما آتيته ليعصيني ولا يطيعني، وهو إنما يريد الإنكار على من يظن ذلك به، ونفي إضافة المعصية إليه.
وهذا الوجه لا يتصور إلا على الوجهين: إما بأن يقدر فيه الاستفهام وإن حذف حرفه، أو بأن يكون اللام في قوله (ليعصيني) لام العاقبة التي قد تقدم بيانها. ومتى رفعنا من أوهامنا هذين الوجهين، لم يتصور كيف يكون الكلام خارجا مخرج النفي والانكار.
ورابعها: أن يكون أراد الاستفهام، فحذف حرفه المختص به، وقد حذف حرف الاستفهام في أماكن كثيرة من القرآن.
وهذا الجواب يضعف لأن حرف الاستفهام لا يكاد يحذف إلا وفي الكلام دلالة عليه وعوض عنه، مثل قول الشاعر: كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا لأن لفظة أم يقتضي الاستفهام، وقد سأل أبو علي الجبائي نفسه عن هذا السؤال في التفسير، وأجاب عنه بأن في الآية ما يدل على حذف حرف الاستفهام، وهو دليل العقل الدال على أن الله تعالى لا يضل العباد عن الدين.
ودليل العقل أقوى مما يكون في الكلام دالا على حرف الاستفهام.
وهذا ليس بشئ، لأن دليل العقل وإن كان أقوى من كل دليل يصحب الكلام، فإنه ليس يقتضي في الآية أن يكون حرف الاستفهام منها محذوفا لا محالة. لأن العقل إنما يقتضي تنزيه الله تعالى عن أن يكون مجربا بشئ من أفعاله إلى إضلال العباد عن الدين، وقد يمكن صرف الآية إلى ما يطابق دليل العقل من تنزيهه تعالى عن القبيح، من غير أن يذكر الاستفهام ويحذف حرفه.
وإذا كان ذلك ممكنا لم يكن في العقل دليل على حذف حرف الاستفهام، وإنما يكون فيه دليل على ذلك لو كان يتعذر تنزيهه تعالى عن إرادة الضلال، إلا بتقدير الاستفهام.
فأما قوله تعالى: ﴿ ... فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ 1فأجود ما قيل فيه أنه عطف على قوله ﴿ ... لِيُضِلُّوا ... 1وليس بجواب لقوله ﴿ ... رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ... 1وتقدير الكلام ﴿ ... رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ 1وهذا الجواب يطابق أن يكون اللام للعاقبة، وأن يكون المعنى فيها لئلا يضلوا أيضا.
وقال قوم إنه أراد (فلن يؤمنوا) فأبدل الألف من النون الخفيفة.
كما قال الأعشى: وصل علي حين العشيات والضحى *** ولا تحمد المثرين والله فاحمدا
أراد فاحمدن، فأبدل النون ألفا،
وكما قال عمر بن أبي ربيعة: وقمير بدا ابن خمس وعشرين *** له قالت الفتاتان قوما
أراد قومن. ومما استشهد به ممن أجاب بهذا الجواب الذي ذكرناه آنفا في أن الكلام خبر، وإن خرج مخرج الدعاء. وما روي عن النبي صلي الله عليه وآله من قوله:"لن يلدغ المؤمن من جحر مرتين". وهذا نهي، وإن كان مخرجه مخرج الخبر.
وتقدير الكلام: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. لأنه لو كان خبرا لكان كذبا. وإذا جاز أن يراد بما لفظه لفظ الخبر النهي، جاز أن يراد بما لفظه لفظ الدعاء الخبر. فيكون المراد بالكلام"فلن يؤمنوا".
وقد ذكر أبو علي الجبائي أن قوما من أهل اللغة قالوا أنه تعالى نصب قوله تعالى: ﴿ ... فَلَا يُؤْمِنُوا ... 1وحذف منه النون. وهو يريد في المعنى"ولا يؤمنون"على سبيل الخبر عنهم، لأن قوله تعالى ﴿ ... فَلَا يُؤْمِنُوا ... 1وقع موقع جواب الأمر الذي هو قوله: ﴿ ... رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ... 1فلما وقع موقع جواب الأمر وفيه الفاء، نصبه بإضمار أن، لأن جواب الأمر بالفاء منصوب في اللغة. فنصب هذا لما أجراه مجرى الجواب، وإن لم يكن في الحقيقة جوابا.
ومثله قول القائل"أنظر إلى الشمس تغرب"(بالجزم)، وتغرب ليس هو جواب الأمر على الحقيقة، لأنها لا تغرب لنظر هذا الناظر، ولكن لما وقع موقع الجواب أجراه مجراه في الجزم، وإن لم يكن جوابا في الحقيقة.
وقد ذكر أبو مسلم محمد بن بحر في هذه الآية وجها آخر، وهو من أغرب ما ذكر فيها، قال: إن الله تعالى إنما آتى فرعون وملأه الزينة والأموال في الدنيا على طريق العذاب لهم والانتقام منهم لما كانوا عليه من الكفر والضلال، وعلمه من أحوالهم في المستقبل من أنهم لا يؤمنون. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ 7. فسأل موسى عليه السلام ربه وقال: رب إنك آتيتهم هذه الأموال والزينة في الحياة الدنيا على طريق العذاب ولتضلهم في الآخرة عن سبيلك التي هي سبيل الجنة وتدخلهم النار بكفرهم، ثم سأله أن يطمس على أموالهم بأن يسلبهم إياها ليزيد ذلك في حسرتهم وعذابهم ومكروههم، ويشد على قلوبهم بأن يميتهم على هذه الحال المكروهة. وهذا جواب قريب من الصواب والسداد 8.