حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
دور علي عليه السلام و تلاميذه في الفتوحات
فتح فارس و الروم كان وعداً نبوياً
كان النبي صلى الله عليه و آله يدعو الناس في مكة إلى الإسلام و يخبرهم بأن الله تعالى وعده أن يورِّث أمته ملك كسرى و قيصر ! فكل من قرأ سيرته صلى الله عليه و آله يجد أن فتح فارس و الروم كانا وعداً نبوياً من أول إعلان الدعوة ، و كان المشركون يسخرون من ذلك ! و استمر هذا الوعد عنصراً ثابتاً في مراحل دعوته صلى الله عليه و آله ، فكان برنامجاً إلزامياً للسلطة الجديدة بعد وفاته صلى الله عليه و آله ، أيّاً كانت تلك السلطة .
ففي سنن البيهقي : 7 / 283 : ( فو الذي نفس محمد بيده ليفتحن عليكم فارس و الروم )
و في الكافي : 8 / 216 : ( عن أبي عبد الله عليه السلام : لما حفر رسول الله صلى الله عليه و آله الخندق مروا بكدية فتناول رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) المعول من يد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أو من يد سلمان رضي الله عنه ، فضرب بها ضربة فتفرقت بثلاث فرق ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : لقد فتح علي في ضربتي هذه كنوز كسرى و قيصر ، فقال أحدهما لصاحبه : يعدنا بكنوز كسرى و قيصر و ما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلى ) 1 .
و عندما جاءته رسالة تهديد من كسرى أخبره الله تعالى بأنه سيقتله في اليوم الفلاني :
في سيرة ابن هشام : 1 / 45 : ( كتب كسرى إلى باذان : إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه بني فسر إليه فاستتبه ، فإن تاب و إلا فابعث إليَّ برأسه ، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكتب إليه رسول صلى الله عليه و سلم : إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا ، فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر ، و قال : إن كان نبيا فسيكون ما قال ، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال ابن هشام : قتل على يدي ابنه شيرويه ) .
و هذا يدل ، على أن الإتجاه إلى الفتوحات خطة نبوية و عقيدة معروفة عند المسلمين ، و أنه كان من الواجب على أي سلطة تأتي بعد النبي صلى الله عليه و آله أن تتبنى هذ ( الستراتيجية ) و تسير فيها .
دور علي عليه السلام و شيعته في الفتوحات
في رأيي أن السلطة بعد النبي صلى الله عليه و آله خافت من حرب مسيلمة و الأسود العنسي التي يسمونها حروب الردة ، كما خافت من التوجه إلى فتح بلاد فارس و الشام ، و أن الذي دفعها إلى الفتوحات هو علي عليه السلام و الذين قادوا أهم الفتوحات هم تلاميذه الفرسان ، الذين لم تعطهم السلطة مناصب قيادية ، لكنهم كانوا القادة الميدانيين الذين خاضوا غمار المعارك و حققوا الإنتصارات الواسعة ، كانوا من شيعة علي عليه السلام و هم :
حذيفة بن اليمان ، و سلمان الفارسي ، و عمار بن ياسر ، و أبي ذر الغفاري ، و خالد بن سعيد بن العاص الأموي و أخواه أبان و عمرو ، و هاشم بن أبي وقاص الأموي المعروف بالمرقال و أولاده خاصة عبد الله و عتبة . و بريدة الأسلمي ، و عبادة بن الصامت ، و أبي أيوب الأنصاري ، و عثمان بن حنيف و إخوته، و عبد الرحمن بن سهل الأنصاري ، و مالك بن الحارث الأشتر و إخوته ، و عدد من القادة النخعيين معه ، و صعصعة بن صوحان العبدي و إخوته ، و الأحنف بن قيس ، و حجر بن عدي الكندي ، و عمرو بن الحمق الخزاعي ، و أبي الهيثم بن التيهان ، و جعدة بن هبيرة ابن أخت أمير المؤمنين عليه السلام ، و النعمان بن مقرن ، و بديل بن ورقاء الخزاعي ، و جرير بن عبدالله البجلي ، و محمد بن أبي حذيفة الأنصاري ، و أبي رافع و أولاده ، و المقداد بن عمرو ، و واثلة بن الأسقع الكناني ، و البراء بن عازب ، و أبي أيوب الأنصاري ، و بلال بن رباح مؤذن النبي صلى الله عليه و آله ، و عبدالله بن خليفة البجلي ، و عدي بن حاتم الطائي ، و أبو عبيد بن مسعود الثقفي ، و أبي الدرداء .. و يليهم : جارية بن قدامة السعدي ، و أبي الأسود الدؤلي ، و محمد بن أبي بكر ، و المهاجر بن خالد بن الوليد.. و غيرهم من القادة الميدانيين !
و لكل واحد من هؤلاء الأبطال أدوار مهمة ، عتَّم عليها إعلام الخلافة و رواتها ، و أبرزوا بدلها أصحاب الأدوار الشكلية أو الثانوية أو المسروقة !
إني أدعو الباحثين خاصة في تاريخ الفتوحات الإسلامية ، لأن يكشفوا هذه الحقيقة الضخمة التي غطت عليها حكومات الخلافة القرشية ، و رواتها الذين كتبوا التاريخ بحبر الحكام .
علي عليه السلام يشكو ظلامته و تعمد نسيان دوره في الفتوحات
تعامل علي و أهل البيت عليهم السلام مع الموجة القرشية ضدهم بعد النبي صلى الله عليه و آله بنبل رسالي ، و نفذوا ما أمرهم به حبيبهم النبي صلى الله عليه و آله ، و سجلوا صبراً لا نظير له ، فكظموا غيظهم و صبَّروا أنصارهم ، و ارتفعوا على جراحهم ، فعملوا مخلصين في تسيير سفينة الإسلام و فتوحاته !
قال عليٌّ عليه السلام في كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها : ( أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه و آله نذيراً للعالمين ، و مهيمناً على المرسلين ، فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ماكان يلقى في روعي و لا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه و آله عن أهل بيته و لا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده ، ( يقصد عليه السلام أن هذا كان أمراً غير معقول لا يتصور ) فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه و آله ! فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل و زهق ، و اطمأن الدين و تَنَهْنَهْ ) 2 .
و قام أمير المؤمنين عليه السلام بمهمته العظيمة في التخطيط و التوجيه و غرس الثقة و القوة في نفوس القادة و الجنود ، حتى امتدت الدولة الإسلامية فشملت إيران و بلاد الشام و مصر و غيرها .
و لكن التاريخ الإسلامي نسب تلك الفتوحات إلى أبي بكر و عمر و عثمان و خلفاء بني أمية و تعمد أن يغطي على دور علي عليه السلام ، لذلك نراه يشكو ظلامته و يسجلها للتاريخ :
قال شرح النهج : 20 / 298 : ( قال له قائل : يا أمير المؤمنين أرأيت لوكان رسول الله صلى الله عليه و آله ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم ، و آنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها ؟ قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت ، و لو لا أن قريشاً جعلت إسمه ذريعة إلى الرياسة ، و سلماً إلى العز و الأمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، و لارتدت في حافرتها ، و عاد قارحها جذعاً ، و بازلها بكرًا ، ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة ، و تمولت بعد الجَهد و المخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، و ثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، و قالت : لو لا أنه حق لما كان كذا ، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها و حسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكد عند الناس نباهة قوم و خمول آخرين ، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، و خبت ناره ، و انقطع صوت وصيته ، حتى أكل الدهر علينا و شرب ، و مضت السنون و الأحقاب بما فيها ، و مات كثير ممن يعرف ، و نشأ كثير ممن لا يعرف.
و ما عسى أن يكون الولد لو كان ! إن رسول الله صلى الله عليه و آله لم يقربني بما تعلمونه من القُرْب للنسب و اللحمة ، بل للجهاد و النصيحة ، أفتراه لوكان له ولد هل كان يفعل ما فعلت ! و كذاك لم يكن يَقْرُب ما قَرُبْتُ ، ثم لم يكن عند قريش و العرب سبباً للحظوة و المنزلة ، بل للحرمان و الجفوة .
اللهم إنك تعلم أني لم أرد الأمرة ، و لا علو الملك و الرياسة ، و إنما أردت القيام بحدودك ، و الأداء لشرعك ، و وضع الأمور في مواضعها ، و توفير الحقوق على أهلها و المضي على منهاج نبيك ، و إرشاد الضال إلى أنوار هدايتك ) . انتهى .
ثلاثة عناصر تشكل دور علي عليه السلام في الفتوحات
العنصر الأول : في دور علي عليه السلام في الفتوحات أن تلاميذه تصدوا لقيادة معاركها ، حتى لو تعطهم السلطة دوراً القيادة العليا . كما نرى في خالد بن سعيد بن العاص و أبي ذر و حذيفة بن اليمان و هاشم المرقال و الأشتر و حجر بن عدي و غيرهم . و كل واحد منهم يحتاج إلى دراسة خاصة .
أما العنصر الثاني : فهو أن عمر بن الخطاب بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر مع القوات الإيرانية ، أعطى علياً عليه السلام الدور الأساسي في إدارة الفتوحات !
ذلك أن الفرس طمعوا في استرجاع المناطق التي فتحوها ، و هي البصرة و الكوفة و المدائن و جلولاء و خانقين و قسم من الأهواز ، فاستجمعوا قواهم و جمعوا مائة و خمسين ألف مقاتل في نهاوند ، و قرروا أن يجتاحوا هذه المناطق ثم يزحفوا إلى المدينة المنورة ، لاستئصال أصل دين العرب بزعمهم !
فهذه المرحلة كانت سبباً في أن الخليفة عمر أطلق يد علي عليه السلام في إدارة الفتوحات ، فقد روت المصادر أن عمر خاف خوفاً شديداً ، فاستشار كبار الصحابة ، و عمل برأي علي عليه السلام و أطلق يده في إدارة الفتح و إرسال القادة الذين يختارهم ، فاختار النعمان بن مقرن ، فإن قتل فحذيفة ، فإن قتل فجرير بن عبد الله البجلي ، و كانت معركة نهاوند الفاصلة التي قصمت قوة فارس !
قال ابن الأعثم في الفتوح : 2 / 290 : ( ذكر كتاب عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمار بن ياسر ، سلام عليك . أما بعد فإن ذا السطوات و النقمات المنتقم من أعدائه ، المنعم على أوليائه ، هو الناصر لأهل طاعته على أهل الإنكار و الجحود من أهل عداوته ، و مما حدث يا أمير المؤمنين أن أهل الري و سمنان و ساوه و همذان و نهاوند و أصفهان و قم و قاشان و راوند و اسفندهان و فارس و كرمان و ضواحي أذربيجان قد اجتمعوا بأرض نهاوند ، في خمسين و مائة ألف من فارس و راجل من الكفار ، و قد كانوا أمَّروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، منهم ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، و سنفاد بن حشروا ، و خهانيل بن فيروز ن و شروميان بن اسفنديار ، و أنهم قد تعاهدوا و تعاقدوا و تحالفوا و تكاتبوا و تواصوا و تواثقوا ، على أنهم يخرجوننا من أرضنا ، و يأتونكم من بعدنا ، و هم جمع عتيد و بأس شديد ، و دواب فَرِهٌ و سلاح شاك ، و يد الله فوق أيديهم . فإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، و قد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، و قد عزموا أن يقصدوا المدائن ، و يصيروا منها إلى الكوفة ، و قد والله هالنا ذلك و ما أتانا من أمرهم و خبرهم ، و كتبت هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ليكون هو الذي يرشدنا و على الأمور يدلنا ، و الله الموفق الصانع بحول و قوته ، و هو حسبنا و نعم الوكيل ، فرأي أمير المؤمنين أسعده الله فيما كتبته . و السلام .
قال : فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه و قرأه و فهم ما فيه وقعت عليه الرعدة و النفضة ، حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه ! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد و جعل ينادي : أين المهاجرون و الأنصار ! ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، و أعينوني أعانكم الله ! ). انتهى . و في تاريخ الطبري : 3 / 209 : ( و كتب إليه أيضاً عبد الله و غيره بأنه قد تجمع منهم خمسون و مائة ألف مقاتل ، فإن جاؤونا قبل أن نبادرهم الشدة ، ازدادوا جرأة و قوة... ثم نقل الطبري مشورة عمر للصحابة و قوله : ( أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي و من قدرت عليه ، حتى أنزل منزلا واسطاً بين هذين المصرين فأستنفرهم ، ثم أكون لهم رداء حتى يفتح الله عليهم و يقضى ما أحب ، فإن فتح الله عليهم أن أضربهم عليهم في بلادهم و ليتنازعوا ملكهم ... ؟
فقام طلحة ابن عبيد الله و كان من خطباء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فتشهد ثم قال : أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور و عجمتك البلايا و احتنكتك التجارب ، و أنت و شأنك و أنت و رأيك ، لا ننبو في يديك و لا نكل عليك . إليك هذا الأمر فمرنا نطع و ادعنا نجب ، و احملنا نركب ، و أوفدنا نفد ، و قدنا ننقد ، فإنك ولي هذا الأمر ، و قد بلوت و جربت و اختبرت ، فلم ينكشف شئ من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار . ثم جلس .
فعاد عمر فقال : إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا . فقام عثمان بن عفان فتشهد و قال : أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم ، و تكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ، ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين الكوفة و البصرة ، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فإنك إذا سرت بمن معك و عندك ، قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم ، و كنت أعز عزاً و أكثر... ثم جلس .
فعاد عمر فقال : إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا . فقام علي بن أبي طالب فقال : أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم ، و إن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم ، و إنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك الأرض من أطرافها و أقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات و العيالات ! أقْرِرْ هؤلاء في أمصارهم ، و اكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق : فلتقم فرقة لهم في حرمهم و ذراريهم ، و لتقم فرقة في أهل عهدهم لئلا ينتقضوا عليهم ، و لتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم . إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا هذا أمير العرب و أصل العرب ، فكان ذلك أشد لكلبهم و ألبتهم على نفسك . و أما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك ، و هو أقدر على تغيير ما يكره . و أما ما ذكرت من عددهم ، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة و لكنا كنا نقاتل بالنصر . فقال عمر : أجل والله لئن شخصت من البلدة لتنتقضن عليَّ الأرض من أطرافها و أكنافها ، و لئن نظرت إلى الأعاجم لا يفارقن العرصة ، و ليمدنهم من لم يمدهم و ليقولن هذا أصل العرب ، فإذا اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب ) . انتهى .
و في نهج البلاغة : 2 / 29 : ( و قد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه : إن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا قلة ، و هو دين الله الذي أظهره ، و جنده الذي أعده و أمده ، حتى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع . و نحن على موعود من الله ، و الله منجز وعده و ناصر جنده .
و مكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمه ، فإن انقطع النظام تفرق و ذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً . و العرب اليوم و إن كانوا قليلاً ، فهم كثيرون بالإسلام و عزيزون بالإجتماع ، فكن قطباً ، و استدر الرحى بالعرب ، و أصلهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك !
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب ، فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و طمعهم فيك . فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين ، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، و هو أقدر على تغيير ما يكره . و أما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، و إنما كنا نقاتل بالنصر و المعونة ) .
و وصف ابن الأعثم في الفتوح : 2 / 291 ، مشاورة عمر للصحابة فقال : ( أيها الناس : هذا يوم غم و حزن فاستمعوا ما ورد عليَّ من العراق ، فقالوا : و ما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن الفرس أمم مختلفة أسماؤها و ملوكها و أهواؤها و قد نفخهم الشيطان نفخة فتحزبوا علينا ، و قتلوا من في أرضهم من رجالنا ، و هذا كتاب عمار بن ياسر من الكوفة يخبرني بأنهم قد اجتمعوا بأرض نهاوند ، في خمسين و مائة ألف ، و قد سربوا عسكرهم إلى حلوان و خانقين و جلولاء ، و ليست لهم همة إلا المدائن و الكوفة ، و لئن وصلوا إلى ذلك فإنها بلية على الإسلام و ثلمة لا تسد أبداً ، و هذا يوم له ما بعده من الأيام ، فالله الله يا معشر المسلمين ! أشيروا عليَّ رحمكم الله ، فإني قد رأيت رأياً ، غير أني أحب أن لا أقدم عليه إلا بمشورة منكم ، لأنكم شركائي في المحبوب و المكروه .
ذكر ما أشار به المسلمون على عمر رضي الله عنه :
و كان أول من وثب على عمر بن الخطاب و تكلم : طلحة بن عبيد الله فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك بحمد الله رجل قد حنكته الدهور و أحكمته الأمور و راضته التجارب في جميع المقانب ، فلم ينكشف لك رأي إلا عن رضى ، و أنت مبارك الأمر ميمون النقيبة ، فنفذنا ننفذ ، و احملنا نركب ، و ادعنا نجب .
قال : ثم وثب الزبير بن العوام فقال : يا أمير المؤمنين إن الله تبارك و تعالى قد جعلك عزاً للدين.... و بعد فأنت بالمشورة أبصر من كل من في المسجد ، فاعمل برأيك فرأيك أفضل ، و مرنا بأمرك فها نحن بين يديك .
فقال عمر : أريد غير هذين الرأيين ، قال : فوثب عبد الرحمن بن عوف الزهري فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كل متكلم يتكلم برأيه ، و رأيك أفضل من رأينا ، لما قد فضلك الله عز و جل علينا ، و أجرى على يديك من موعود ربنا ، فاعمل برأيك و اعتمد على خالقك ، و توكل على رازقك و سر إلى أعداء الله بنفسك ، و نحن معك ، فإن الله عز و جل ناصرك بعزه و سلطانه كما عودك من فضله و إحسانه .
فقال عمر : أريد غير هذا الرأي ، فتكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد علمت و علمنا أنا كنا بأجمعنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله منها بنبيه محمد ( صلى الله عليه و آله ) ، و قد اختارك لنا خليفة نبينا محمد ، و قد رضيك الأخيار و خافك الكفار ، و نفر عنك الأشرار ، و أنا أشير عليك أن تسير أنت بنفسك إلى هؤلاء الفجار بجميع من معك من المهاجرين و الأنصار ، فتحصد شوكتهم و تستأصل جرثومتهم . فقال عمر رضي الله عنه : و كيف أسير أنا بنفسي إلى عدوي و ليس بالمدينة خيل و لا رجل ، فإنما هم متفرقون في جميع الأمصار ؟
فقال عثمان : صدقت يا أمير المؤمنين ، و لكني أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيقبلوا عليك من شامهم ، و إلى أهل اليمن فيقبلوا إليك من يمنهم ، ثم تسير بأهل الحرمين مكة و المدينة إلى أهل المصرين البصرة و الكوفة ، فتكون في جمع كثير و جيش كبير ، فتلقى عدوك بالحد و الحديد و الخيل و الجنود .
قال فقال عمر : هذا أيضاً رأي ليس يأخذ بالقلب ، أريد غير هذا الرأي .
قال : فسكت الناس ، و التفت عمر رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه فقال : يا أبا الحسن ! لم لا تشير بشئ كما أشار غيرك ؟
ذكر مشورة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه :
قال : فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إنك قد علمت أن الله تبارك و تعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه و آله و ليس معه ثان و لا له في الأرض من ناصر و لا له من عدوه مانع ، ثم لطف تبارك و تعالى بحوله و قوته و طوله ، فجعل له أعواناً أعز بهم دينه ، و شد أزره و شيد بهم أمره ، و قصم بهم كل جبار عنيد و شيطان مريد ، و أرى موازريه و ناصريه من الفتوح و الظهور على الأعداء ما دام به سرورهم و قرت به أعينهم ، و قد تكفل الله تبارك و تعالى لأهل هذا الدين بالنصر و الظفر و الاعزاز . و الذي نصرهم مع نبيهم و هم قليلون ، هو الذي ينصرهم اليوم إذ هم كثيرون....
و بعد فقد رأيت قوماً أشاروا عليك بمشورة بعد مشورة فلم تقبل ذلك منهم ، ولم يأخذ بقلبك شئ مما أشاروا به عليك ، لأن كل مشير إنما يشير بما يدركه عقله ، و أعملك يا أمير المؤمنين أنك إن كتبت إلى الشام أن يقبلوا إليك من شامهم لم تأمن من أن يأتي هرقل في جميع النصرانية فيغير على بلادهم ، و يهدم مساجدهم ، و يقتل رجالهم ، و يأخذ أموالهم ، و يسبي نساءهم و ذريتهم !
و إن كتبت إلى أهل اليمن أن يقبلوا من يمنهم ، أغارت الحبشة أيضاً على ديارهم و نسائهم و أموالهم و أولادهم ! و إن سرت بنفسك مع أهل مكة و المدينة إلى أهل البصرة و الكوفة ، ثم قصدت بهم قصد عدوك ، انتقضت عليك الأرض من أقطارها و أطرافها ، حتى إنك تريد بأن يكون من خلفته و راءك أهم إليك مما تريد أن تقصده ، و لا يكون للمسلمين كانفة تكنفهم ، و لا كهف يلجؤون إليه ، و ليس بعدك مرجع و لا موئل ، إذ كنت أنت الغاية و المفزع و الملجأ . فأقم بالمدينة و لا تبرحها ، فإنه أهيب لك في عدوك ، و أرعب لقلوبهم ، فإنك متى غزوت الأعاجم بنفسك يقول بعضهم لبعض : إن ملك العرب قد غزانا بنفسه ، لقلة أتباعه و أنصاره ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و على المسلمين ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه ، و ابعث من يكفيك هذا الأمر . و السلام .
قال : فقال عمر رضي الله عنه : يا أبا الحسن ! فما الحيلة في ذلك و قد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند في خمسين و مائة ألف ، يريدون استئصال المسلمين ؟
فقال له علي بن أبي طالب : الحيلة أن تبعث إليهم رجلاً مجرباً قد عرفته بالبأس و الشدة ، فإنك أبصر بجندك و أعرف برجالك ، و استعن بالله و توكل عليه و استنصره للمسلمين ، فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحب و تريد ، و إن يكن الأخرى و أعوذ بالله من ذلك ، تكون ردءا للمسلمين و كهفاً يلجؤون إليه و فئة ينحازون إليها .
قال فقال له عمر : نعم ما قلت يا أبا الحسن ! و لكني أحببت أن يكون أهل البصرة و أهل الكوفة هم الذين يتولون حرب هؤلاء الأعاجم ، فإنهم قد ذاقوا حربهم و جربوهم و مارسوهم في غير موطن . قال فقال له علي رضي الله عنه :
إن أحببت ذلك فاكتب إلى أهل البصرة أن يفترقوا على ثلاث فرق : فرقة تقيم في ديارهم فيكونوا حرساً لهم يدفعون عن حريمهم . و الفرقة الثانية يقيمون في المساجد يعمرونها بالأذان و الصلاة لكيلا تعطل الصلاة ، و يأخذون الجزية من أهل العهد لكيلا ينتقضوا عليك . و الفرقة الثالثة يسيرون إلى إخوانهم من أهل الكوفة . و يصنع أهل الكوفة أيضاً كصنع أهل البصرة ، ثم يجتمعون و يسيرون إلى عدوهم ، فإن الله عز و جل ناصرهم عليهم و مظفرهم بهم ، فثق بالله و لا تيأس من روح الله ﴿ ... إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ 3 .
قال : فلما سمع عمر مقالة علي كرم الله وجهه و مشورته ، أقبل على الناس و قال : ويحكم ! عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ! والله لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي ، ثم أقبل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أبا الحسن ! فأشر عليَّ الآن برجل ترتضيه و يرتضيه المسلمون أجعله أميراً ، و أستكفيه من هؤلاء الفرس .
فقال علي رضي الله عنه : قد أصبته ، قال عمر : و من هو ؟ قال : النعمان بن مقرن المزني ، فقال عمر و جميع المسلمين : أصبت يا أبا الحسن ! و ما لها من سواه . قال : ثم نزل عمر رضي الله عنه عن المنبر و دعا بالسائب بن الأقرع بن عوف الثقفي فقال : يا سائب ! إني أريد أن أوجهك إلى العراق فإن نشطت لذلك فتهيأ ، فقال له السائب : ما أنشطني لذلك ... ). انتهى .
أما العنصر الثالث : فهو دور أمير المؤمنين عليه السلام في استكمال الفتوحات في خلافته بالرغم من ثلاثة حروب داخلية فتحوها عليه ! و قد سجل التاريخ منها فتح قسم من إيران كان مستعصياً ، و فتح قسم من الهند :
أمير المؤمنين عليه السلام يرتب وضع البصرة و يواصل فتح إيران و الهند
في تاريخ اليعقوبي : 2 / 183 : ( و لما فرغ من حرب أصحاب الجمل ، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان ) .
و في شرح نهج البلاغة : 18 / 308 : ( هبيرة بن أبي وهب ، كان من الفرسان المذكورين ، و ابنه جعدة بن هبيرة ، و هو ابن أخت علي بن أبي طالب ، أمه أم هاني بنت أبي طالب ، و ابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة ، هو الذي فتح القهندر و كثيراً من خراسان ، فقال فيه الشاعر :
لولا ابن جعدةَ لم تُفتح قهندركم *** و لا خراسانُ حتى ينفخ الصور . انتهى 4 .
و قال الطبري في تاريخه : 4 / 46 : ( فانتهى إلى أبرشهر و قد كفروا و امتنعوا فقدم على علي فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه و صالحه أهل مرو ، و أصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلتا بأمان فبعث بهما إلى علي فعرض عليهما الإسلام و أن يزوجهما ، قالتا زوجنا ابنيك فأبى ، فقال له بعض الدهاقين إدفعهما إليَّ فإنه كرامة تكرمني بها ، فدفعهما إليه فكانتا عنده يفرش لهما الديباج و يطعمهما في آنية الذهب ، ثم رجعتا إلى خراسان ). انتهى .
و قال ابن خياط في تاريخه : 143، في حوادث سنة 36 : ( و فيها ندب الحارث بن مرة العبدي ( من البحرين ) الناس إلى غزو الهند ، فجاوز مكران إلى بلاد قندابيل و وغل في جبال الفيقان ... ) .
وفي فتوح البلدان للبلاذري : 3 / 531 : ( فلما كان آخر سنة ثمان و ثلاثين و أول سنة تسع و ثلاثين في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، توجه إلى ذلك الثغر الحارث بن مرة العبدي متطوعاً بإذن علي ، فظفر و أصاب مغنماً و سبياً ، و قسم في يوم واحد ألف رأس ) . انتهى .
نماذج من أدوار تلاميذ علي عليه السلام في الفتوحات !
سلمان في فتح الأهواز و إسلام الهرمزان ، و فتح المدائن ، و بقية إيران ،
حجر بن عدي في القادسية و المدائن و جلولاء ، و أرمينية ، و بيروت .
عمار بن ياسر في فتح العراق و فارس .
هاشم المرقال في جلولاء و خانقين و غيرها .
خالد بن سعيد بن العاص و إخوته في فتح الشام
الأشتر في القادسية و اليرموك .
أبو ذر في فتح الشام و قبرص و مصر .
حذيفة في القادسية و فتوح العراق و فارس و أرمينية .
محمد بن أبي بكر و محمد بن أبي حذيفة في معركة ذات الصواري مع الروم .
رأيت رواية ألفتتني ، لأنها تدل على أن أبا ذر رحمه الله كان موجوداً في فتح الشام ، فتتبعت خيوطها ، ففتحت عليَّ باباً و كشفت لي حقائق عن الفتوحات الإسلامية ، تخالف روايات الحكومات الرسمية ما هو مشهور غير أن
قال القاضي النعمان في شرح الأخبار : 2 / 156 : ( غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس و هو أمير على الشام ، فغنموا و قسموا الغنائم ، فوقعت جارية في سهم رجل من المسلمين و كانت جميلة ، فذكرت ليزيد فانتزعها من الرجل ! و كان أبو ذر يومئذ بالشام ، فأتاه الرجل فشكا إليه و استعان به على يزيد ليرد الجارية إليه ، فانطلق إليه معه و سأله ذلك فتلكأ عليه ! فقال له أبو ذر : أما والله لئن فعلت ذلك ، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول : إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية ، ثم قام ! فلحقه يزيد فقال له : أذكرك الله عز و جل أنا ذلك الرجل ؟! قال : لا . فرد عليه الجارية ) . انتهى .
و في سير أعلام النبلاء : 1 / 329 ، و تاريخ دمشق : 65 / 250 : ( فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل فاغتصبها يزيد ) . انتهى . و قد روت هذا الحديث أكثر مصادرهم ، و غطى أكثرها على آل أبي سفيان ، فلم يذكروا أن مناسبة الحديث غصب ابن أبي سفيان للجارية ، و قد رأيت في آخر الفصل السابق تصحيح الألباني للحديث ، دون أن يذكر مناسبته ! كما أنهم لم يذكروا شيئاً عن سلوك أخيه معاوية ، لكنه كان في جوه ! و ممن غطى على بني أمية و حاول تكذيب الرواية بخاري ، فقال في تاريخه : 1 / 45 : ( كان أبو ذر بالشام و عليها يزيد بن أبي سفيان فغزا الناس فغنموا ... و هنا بتر بخاري القصة ، وق ال : ( و المعروف أن أبا ذر كان بالشام زمن عثمان و عليها معاوية و مات يزيد في زمن عمر ، و لا يعرف لأبي ذر قدوم الشام زمن عمر ) . انتهى . و إن أحسنا الظن ، فالبخاري غير مطلع ، و إلا فهو متعصب لبني أمية !
و قد روى ابن كثير في النهاية : 8 / 254 ، قصة هذه الجارية ، ثم قال : ( و كذا رواه البخاري في التاريخ و أبو يعلى عن محمد بن المثنى ، عن عبد الوهاب ، ثم قال البخاري : و الحديث معلول و لا نعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب ) .
أقول : لكن بخاري لم يروها كاملة ، و لا قال كما نقل عنه ابن كثير !
يدل الحديث المتقدم على أن أبا ذر رضوان الله عليه شارك في فتح الشام ، و كان له نفوذ على قادة جيش الفتح ! و هو ما تحرص مصادر دولة الخلافة على إخفائه ، حتى لا تُنسب الفتوحات إلى شيعة علي عليه السلام ، و حتى لايظهر انحراف خلفائها و أمرائها ، و إدانة الصحابة الأجلاء لهم !
إني أدعو الباحثين خاصة في تاريخ الفتوحات الإسلامية ، لأن يفتحوا الباب على هذه الحقيقة الضخمة التي غطت عليها حكومات الخلافة القرشية ، و التي يشكو علي عليه السلام من ظلامتها !
دور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات
و دور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات واحدٌ مما طمسه تاريخ الخلافة الرسمي ! فقد صوروا أبا ذر رحمه الله كأنه بدوي ساذج متزمت سيء الخلق ، و كأنه صغير الجثة ضعيف البنية عن الجهاد ! بينما نطقت ثنايا مصادرهم بالحقائق ، و أنه كان رجلاً جسيماً طويلاً ، و قائداً شجاعاً ذكياً ! ( و كان أبو ذر طويلاً عظيماً رضي الله عنه و كان زاهداً متقللاً من الدنيا ... و كان قوالاً بالحق ) 5 .
( و كان أبو ذر طويلاً عظيماً ) 6 .
( رجلاً طويلاً آدم أبيض الرأس و اللحية ) . 7 .
( فجلس ... فرجف به السرير ، و كان عظيماً طويلاً ) 8 .
و كان له فرس أصيل يقال له : الأجدل 9 . و مضافاً إلى الرواية المتقدمة في استنكاره على الأمير الأموي لغصبه الجارية التي تدل على أنه كان في فتح الشام 10 .
فقد قالت رواية الواقدي في فتوح الشام : 2 / 254 : ( ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ، ثم من بعده أبو ذر الغفاري ، ثم تبارد المسلمون بالحملة ، فلما رأى الروم ذلك أيقظوا أنفسهم في عددهم و عديدهم و تظاهروا البيض و الدرع ، ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك ) .
و قال الواقدي أيضاً : 2 / 583 : ( ثم استدعى من بعده أبا ذر الغفاري ، و أمَّره على خمسمائة فارس ، و سلمه الراية فتوجه و هو يقول :
سأمضي للعداة بلا اكتئاب و قلبي للِّقا و الحرب صابي
و إن صال الجميع بيوم حرب لكان الكلُّ عندي كالكلاب
أذلهمُ بأبيض جوهريٍّ طليقِ الحدِّ فيهم غيرُ آبي ) . انتهى .
بل تدل عدة روايات كما يأتي على أن أبا ذر رحمه الله سكن الشام من أول حكم عمر ، للمشاركة في الفتوحات ، و عاد منها في زمن عثمان ، ثم نفاه اليها عثمان لمدة سنة ، ثم أعاده و نفاه إلى الربذة فبقي فيها سنتين أو أكثر حتى توفي غريباً سنة 32 هجرية . و هذا يعني أنه قضى نحو عشرين سنة في الشام .
أما دور أبي ذر في فتح مصر فقد روت أكثر مصادر الحديث أنه كان يمرِّغ فرسه و يروِّضه ، فسألوه عن حبه له فقال : ( ليس من ليلة إلا و الفرس يدعو فيها ربه فيقول : رب إنك سخرتني لابن آدم و جعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله و ولده ، فمنها المستجاب و منها غير المستجاب ، و لا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً ) 11 روته هذه المصادر و غيرها ولم تذكر مناسبته مع أنه حديث نبوي ! إلا ثلاثة منها كشفت ربما عن غير قصد دور أبي ذر في فتح مصر !
قال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 197 : ( و أخرج أبو عبيدة في كتاب الخيل عن معاوية بن خديج ، أنه لما افتتحت مصر كان لكل قوم مراغة يمرِّغون فيها خيولهم ، فمر معاوية ( يقصد ابن حديج التميمي ) بأبي ذر رضي الله عنه و هو يمرغ فرساً له فسلم عليه و وقف ، ثم قال : يا أبا ذر ما هذا الفرس ؟ قال فرس لي ، لا أراه الا مستجاباً ! قال : و هل تدعو الخيل و تجاب ؟ قال : نعم ، ليس من ليلة إلا و الفرس يدعو فيها ربه فيقول : رب إنك سخرتني لابن آدم و جعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله و ولده ، فمنها المستجاب و منها غير المستجاب ، و لا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً ) .12 . و في نهاية الإرب : 2036 : ( لما نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل ، فمر حديج بن صومي بأبي ذر رضي الله عنه و هو يمرغ فرسه الأجدل ، فقال ... )
و أما دوره في فتح قبرص ، فقال البلاذري في فتوح البلدان : 1 / 182 : ( لما غُزيَت قبرس الغزوة الأولى ، ركبت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت ، فلما انتهوا إلى قبرس خرجت من المركب و قدمت إليها دابة لتركبها فعثرت بها فقتلتها ، فقبرها بقبرس يدعى قبر المرأة الصالحة .
قالوا : و غزا مع معاوية أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، و أبو الدرداء ، و أبو ذر الغفاري ، و عبادة بن الصامت ، و فضالة بن عبيد الأنصاري ، و عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري ، و واثلة بن الأسقع الكناني ، و عبد الله بن بشر المازني ، و شداد بن أوس بن ثابت ، و هو ابن أخي حسان بن ثابت ، و المقداد ، و كعب الحبر بن ماتع ، و جبير بن نفير الحضرمي ) . انتهى .
أقول : حشروا إسم كعب الأحبار معهم ، لإعطائه لقب المسلم المجاهد ! و كذلك حشروا إسم معاوية بعبارة مبهمة فيها تدليس ( و غزا مع معاوية ) ، مع أن تاريخ كعب و معاوية لم يسجل أنهما حملا سلاحاً و حاربا يوماً ، أو غزيا حتى لمرة واحدة ! و لذا قال في الإستيعاب : 4 / 1931 : ( و يقال إن معاوية غزا تلك الغزاة بنفسه ، و معه أيضاً امرأته فاختة بنت قرظة ) . انتهى .
و يشير النص التالي إلى أن معاوية كان ينتظر الجيش في الساحل بطرسوس !
ففي مسند الشاميين للطبراني : 2 / 73 ، عن جبير بن نفير قال : ( أخرج معاوية غنائم قبرس إلى الطرسوس من ساحل حمص ، ثم جعلها هناك في كنيسة يقال لها كنيسة معاوية ، ثم قام في الناس فقال : إني قاسم غنائمكم على ثلاثة أسهم : سهم لكم ، و سهم للسفن ، و سهم للقبط ، فإنه لم يكن لكم قوة على غزو البحر إلا بالسفن و القبط . فقام أبو ذر فقال : بايعت رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم : أتقسم يا معاوية للسفن سهماً و إنما هي فيؤنا ، و تقسم للقبط سهماً و إنما هم أجراؤنا ، فقسمها معاوية على قول أبي ذر ) 13 .
أما البخاري فروى الحديث بدون ذكر أبي ذر ، و لا أبي أيوب ، و لا غيرهما من الصحابة ! لأن غرضه فقط أن يمدح معاوية بأنه أول من ركب البحر للغزو ، و يروي حديثاً يحتمل أن يكون مدحاً لمعاوية !
قال بخاري في : 3 / 203 : ( أم حرام بنت ملحان قالت نام النبي ( صلى الله عليه و آله ) يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم ، فقلت ما أضحكك ؟ قال أناس من أمتي عرضوا على يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة ! قالت : فادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم نام الثانية ففعل مثلها ، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها ، فقالت ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين ! فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام ، فقربت إليها دابة لتركبها ، فصرعتها فماتت ) . انتهى. و قد صحح ابن حجر و غيره خطأ البخاري في روايته ولم يذكروا معاوية ! قال في تهذيب التهذيب : 12 / 411 : ( و الصحيح العكس ، فقد قال غير واحد و ثبت غير واحد أنها خرجت مع زوجها عبادة في بعض غزوات البحر ، و ماتت في غزاتها وَ قَصَتْها بغلتها عندما نقلوا ، و ذلك أول ما ركب المسلمون في البحر في زمن معاوية في خلافة عثمان . زاد أبو نعيم الأصبهاني و قبرت بقبرس . قلت : و الإسماعيلي في مستخرجه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن عمار قال : رأيت قبرها و وقفت عليها بقبرس ) . 14 و في تهذيب التهذيب : 12 / 82 : ( ركبتْ البحر عام قبرس ، مع ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة ، منهم أبو ذر ) .
أقول : يصعب تصديق حديث بنت ملحان و أمثاله ، الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه و آله كان يزورها كأنها والدته أو خالته ، و ينام في بيتها و يرى رؤية تتعلق بها ! و أنها كانت تفلي رأسه كابنها أو أخيها ، و كأن رأس النبي صلى الله عليه و آله فيه قمل كرؤوس رجالهم ! 15 .
- 1. و نحوه في سيرة ابن هشام : 2 / 365 .
- 2. نهج البلاغة : 3 / 118 .
- 3. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 87 ، الصفحة : 246 .
- 4. أقول : في معجم البلدان : 4 / 419 ، و صحاح الجوهري : 1 / 433 : قهندز بالزاي .
- 5. تهذيب الأسماء للنووي : 2 / 513 .
- 6. أسد الغابة : 5 / 188 ، و مستدرك الحاكم : 3 / 51 .
- 7. الطبقات : 4 / 230 .
- 8. سير أعلام النبلاء للذهبي : 2 / 69 .
- 9. أنساب الخيل لابن الكلبي : 6 ، و أسماء خيل العرب و فرسانها لابن الأعرابي : 2 .
- 10. سير أعلام النبلاء : 1 / 329 ، و تاريخ دمشق : 65 / 250 .
- 11. رواه أحمد : 5 / 162 ، و 170 ، و النسائي : 6 / 223 ، و في الكبرى : 3 / 36 ، و البيهقي في سننه : 6 / 330 ، و علل أحمد بن حنبل : 3 / 404 ، و علل الدارقطني : 6 / 266 ، و سنن سعيد بن منصور : 2 / 204 ، و العظمة لأبي الشيخ : 5 / 1780 ، و حلية الأولياء : 8 / 387 ، و الفردوس بمأثور الخطاب : 4 / 53 ، و تفسير ابن كثير : 2 / 334 ، و الفروسية لابن قيم الجوزية : 130، و كنز العمال : 6 / 321 ... الخ .
- 12. و حياة الحيوان للدميري : 930 .
- 13. و نحوه في : 2 / 120 ، و تاريخ دمشق : 66 / 193 ، و حلية الأولياء : 5 / 134 .
- 14. و نحوه في صحيح ابن حبان : 10 / 468 ، و طبقات ابن سعد : 8 / 435 ، و رجال صحيح البخاري للكلاباذي : 2 / 851 ، و تاريخ دمشق : 70 / 217، و غيرها .
- 15. الكتاب : دور علي عليه السلام و تلاميذه في الفتوحات .
تعليق واحد
شكرا جزيلا لكم
أضافه Anonymous في
شكرا جزيلا لكم