ما معنى استغفار رسول الله و الأئمة و هم معصومون ؟

 

لو رجعنا إلى كلمات رسول الله صلى الله عليه و آله و كذلك الائمة من أهل بيته عليهم السلام لوجدنا أنهم يكثرون الاستغفار و يطلبون من الله المغفرة ، الأمر الذي يستنكره البعض لأنه يرى ذلك منافياً لمقام عصمتهم عليهم السلام ، و سبب استنكارهم هو أنهم يتصورون أن الاستغفار لا يكون إلا من المعصية و الذنب و ترك الواجبات و هو يتنافى مع مقام عصمتهم عليهم السلام .

الاستغفار لصفاء القلب و جلائه

رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي ، وَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ‏ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً " 1 ، و المعنى اللغوي للغين هو ما يتغشى القلب .

لكن العلامة السيد الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه جامع كلمات الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام في كتابه الموسوم بنهج البلاغة قال في بيان معنى هذا الحديث : 

و هذا القول مجاز، و المراد أنّ الغمّ يتغشّى قلبه عليه الصلاة و السلام حتّى يستكشف غمّته و يستفرج كربته بالاستغفار، فشبّه ما تغشّى قلبه‏ من ذلك بغواشي الغيم التي تستر الشمس ، و تجلّل الافق ، و " الغيم " و " الغين " اسمان للسحاب، و سواء قال : " يغان على قلبي " أو قال : " يغام على قلبي " 2 .

و ذكر العلامة الطريحي رحمه الله في كتابه مجمع البحرين شرحاً لهذا الحديث نقلاً عن أحد العلماء فقال :

قال القاضي : " لما كان قلب النبي صلى الله عليه و آله أتم القلوب صفاءً و أكثرها ضياءً ، و أعرفها عرفاناً ، و كان صلى الله عليه و آله مبينا مع ذلك لشرائع الملة و تأسيس السنة ميسرا غير معسر ، لم يكن له بد من النزول إلى الرخص ، و الالتفات إلى حظوظ النفس ، مع ما كان متمتعا به من أحكام البشرية ، فكأنه إذا تعاطى شيئا من ذلك أسرع كدورة ما إلى القلب لكمال رقته ، و فرط نورانيته ، فإن الشي‏ء كلما كان أصفى كانت الكدورة عليه أبين و أهدى و كان صلى الله عليه و آله إذا أحس بشي‏ء من ذلك عده على النفس ذنبا ، فاستغفر منه " 3.

فالاستغفار هنا ليس من الذنب و المعصية حتى يكون منافياً لمقام العصمة ، بل هو بمثابة ارتباط نوراني مع الله و جلاء للقلب من الهموم و الغموم و ما يحيط بهم من كل ما يكدر صفاء الروح من أعمال غيرهم ، فهو استمداد روحاني و رقي في المنزلة الرفيعة .

الاستغفار لترك الأولى

ثم إن من أسباب الاستغفار أولياء الله العارفين هو الاستغفار من ترك الأولى 4، حيث أنه لا ينبغي لمن يتمتع بمنزلة خاصة و مقام رفيع و شأن عظيم أن يدع أموراً خاصة رغم عدم وجوبها ، أو يفعل أموراً أخرى مباحة رغم عدم حرمتها .

و من هذا المنطلق نجد الامام زين العابدين عليه السلام يقول في مناجاته لله عَزَّ و جَلَّ : " ... أَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ ، وَ مِنْ كُلِّ رَاحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ ، وَ مِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ قُرْبِكَ ، وَ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ بِغَيْرِ طَاعَتِكَ " 5.

يقول العلاّمة المحقّق علي بن عيسى الاِرْبِلي : الاَنبياء و الاَئمّة تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى ، و قلوبهم مملوءة به ، و خواطرهم متعلّقة بالمبدأ ، و هم أبداً في المراقبة ، كما قال ( عليه السَّلام ) : " اُعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تره ، فإنّه يراك " ، فهم أبداً متوجهون إليه و مُقبِلون بكُلِّهم عليه ، فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية ، و المنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالأكل و الشرب و التفرّغ إلى النكاح و غيره من المباحات ، عَدّوه ذنباً و اعتقدوه خطيئة و استغفروا منه 6.

الإستغفار التربوي التعليمي

ثم إن من أسباب استغفار المعصومین علیهم السلام هو تربية الناس و تعليمهم طريقة التوبة و الاستغفار ، و بما أن للدعاء دوراً هاماً و مشهوداً في تربية الناس و حثِّهم على الإبتعاد عن الذنوب و المعاصي و سلوك النهج الإلهي ، فقد إهتمَّ الأئمة المعصومون عليهم السلام بهذه الوسيلة كل إهتمام ، فقدَّموا للناس كمَّاً هائلاً من الأدعية المؤثرة لمختلف الطبقات و الحالات و المناسبات ، و من خلال هذه الأدعية إستطاع الأئمة عليهم السلام تعليم الناس الكثير من العلوم والمعارف و الآداب ، و لولا هذه الأدعية لما كنَّا اليوم نعرف كيف نخاطب رب العالمين و نطلب منه العون و المدد في اللحظات الصعبة و الأزمات الحرجة التي نمرُّ بها .

نعم إن الدعاء مدرسة حقيقية أسَّسها أولياء الله عَزَّ و جَلَّ من أنبياء و أئمة من أجل تعليم الناس ، لذا فإستغفارهم في كثير من الأدعية إنما هو بهذا الهدف .

فوائد أخرى للاستغفار

و في الختام نقول : إن الاستغفار له آثار كثيرة لا تنحصر فيما ذكرنا ، فمن فوائد الاستغفار طرد الشياطين و استجلاب الرزق و غيرها ، و قد ذكرتها الاحاديث الشريفة .


  • 1. مستدرك وسائل الشيعة : 5 / 320 ، للشيخ المحدث النوري ، المولود سنة : 1254 هجرية ، و المتوفى سنة : 1320 هجرية ، طبعة : مؤسسة آل البيت ، سنة : 1408 هجرية ، قم / إيران .
  • 2. المجازات النبوية : 351 ، للسيد الشريف الرضي محمد بن حسين بن موسى ، المولود سنة : 359 هجرية ، و المتوفى سنة : 406 هجرية ، طبعة دار الحديث : سنة : 1422 هجرية ، قم / إيران .
  • 3. مجمع البحرين : 6 / 290، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي ، المولود سنة : 979 هجرية بالنجف الأشرف / العراق ، و المتوفى سنة : 1087 هجرية بالرماحية ، و المدفون بالنجف الأشرف / العراق ، الطبعة الثانية سنة : 1365 شمسية ، مكتبة المرتضوي ، طهران / إيران .
  • 4. ترك الأولى : مصطلح يراد به ترك عملٍ غير واجب كان الأولى بالإنسان فعله رغم عدم وجوبه و عدم المخالفة بتركه ، أو فعل عملٍ مباح لا حرمة فيه كان الأولى به تركه .
  • 5. أنظر : مناجاة الذاكرين ، و هي المناجاة الثالثة عشر في كل من الصحيفة السجادية الكاملة : 326 ، طبعة مؤسسة الأعلمي ، بيروت / لبنان ، و بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 91 / 151 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
  • 6. راجع : عصمة الأنبياء في القرآن الكريم : 218 ، للعلامة المحقق آية الله الشيخ جعفر السبحاني ، الطبعة الثانية ، سنة : 1420 هجرية ، مؤسسة الإمام الصادق ، قم / إيران .