مرجع الشيعة في التفسير والتأويل يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشروحات الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، ومرجع أهل السنّة والجماعة يعود إلى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، ولكنهم يعتمدون على الصحابة ـ دون تمييز ـ أو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة في نقل الأحاديث وشرحها وتفسيرها.
الشيخ موسى جار الله طاف في البلاد الاسلامية، متنسما اخبارها، واقفا على احوالها. وقد وجه في نهاية مطافه إلى علماء الشيعة اسئلة غلفها بالمحافظة على الوحدة الاسلامية. وظن انه احرج بها المصلحين وحين وصلت هذه الاسئلة إلى سماحة العلامة آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين اصدر هذا الكتاب شافيا وافيا.
كلمات كالسهم نفذت إلى أعماقي. فتحت جرحا لا أظنه يندمل بسهولة ويسر ، غالبت دموعي وحاولت منعها من الانحدار ما استطعت!. ولكنها انهمرت وكأنها تصر على أن تغسل عار التاريخ في قلبي، فكان التصميم للرحيل عبر محطات التاريخ للتعرف على مأساة الأمة وتلك كانت هي البداية لتحديد هوية السير والانتقال عبر فضاء المعتقدات والتاريخ والميل مع الدليل.
كنت قلقا جدا وأنا أحاول تجنب أي حوار مع ابن عمي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسد في سلوكه أدبا وأخلاقا ومنطقا مما جعلني أفكر في أنه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة رغم قناعتي بأن ما يؤمن به لا يتجاوز أطر الخرافة ، أو ربما نزوة عابرة جعلته يتبنى هذه الأفكار الغربية.
كتابي متواضع لا تكلف فيه ، هو قصة رحلة ، قصة اكتشاف جديد ، ليس اكتشافا في عالم الاختراعات التقنية أو الطبيعية ، و لكن في دنيا المعتقدات في خضم المدارس المذهبية و الفلسفات الدينية. و لما كان الاكتشاف يعتمد أولا على العقل السليم و الفهم القويم الذي ميز الإنسان عن بقية المخلوقين. فإنني أهدي كتابي إلى كل عقل سليم ، يمحص الحق فيعرفه من بين رُكام الباطل.
كان التحول بداية السعادة الروحية إذ أحسست براحة الضمير و انشرح صدري للمذهب الحق الذي اكتشفته أو قل للإسلام الحقيقي الذي لا شك فيه ، و غمرتني فرحة كبيرة و اعتزاز بما أنعم الله عليّ من هداية و رشاد . و لم يسعني السكوت و التكتم على ما يختلج في صدري و قلت في نفسي : لا بد لي من إفشاء هذه الحقيقة على الناس ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾1 و هي من أكبر النعم.
استنتجت من خلال البحث أن مصيبة الأمة الإسلامية انجرت عليها من الاجتهاد الذي دأب عليه الصحابة مقابل النصوص الصريحة فاخترقت بذلك حدود الله و محقت السنة النبوية و أصبح العلماء و الأئمة بعد الصحابة يقيسون على اجتهادات الصحابة و يرفضون بعض الأحيان النص النبوي إذا تعارض مع ما فعله أحد الصحابة ، أو حتى النص القرآني ...
لقد آليت على نفسي عند الدخول في هذا البحث أن لا أعتمد إلا ما هو موثوق عند الفريقين و أن أطرح ما انفردت به فرقة دون الأخرى ، و على ذلك أبحث في فكرة التفضيل بين أبي بكر و علي بن أبي طالب و أن الخلافة إنما كانت بالنص على علي كما يدعي الشيعة أو بالانتخاب و الشورى كما يدعي أهل السنة و الجماعة .
قلت لأحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الأبرياء و هتك الأعراض و تحكمون بأنه اجتهد و أخطأ و له أجر واحد . و إذا كان يزيد قتل أبناء الرسول و أباح المدينة لجيشه و تحكمون بأنه اجتهد و أخطأ و له أجر واحد حتى قال بعضكم : " قتل الحسين بسيف جده " لتبرير فعل يزيد .
فرحت كثيرا و نظمت الكتب في بيت خاص سميته بالمكتبة ، و استرحت أياما ، و تسلمت جدول أوقات العمل بمناسبة بداية السنة الدراسية الجديدة فكان عملي ثلاثة أيام متوالية من التدريس و أربعة أيام متوالية من الراحة في الأسبوع. و بدأت أقرأ الكتب فقرأت كتاب عقائد الإمامية ، و أصل الشيعة و أصولها و ارتاح ضميري لتلك العقائد و تلك الأفكار التي يرتئيها الشيعة ، ثم قرأت كتاب المراجعات للسيد شرف الدين الموسوي ، و ما أن قرأت منه بضع صفحات حتى استهواني الكتاب و شدني إليه شدا فكنت لا أتركه إلا غضبا.
قلت لأحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الأبرياء و هتك الاعراض و تحكمون بأنّه اجتهد و أخطأ و له أجر واحد . و إذا كان يزيد قتل أبناء الرسول و أباح المدينة لجيشه و تحكمون بأنّه اجتهد و أخطأ و له أجر واحد ، حتّى قال بعضكم : « قُتل الحسين بسيف جدّه » لتبرير فعل يزيد . فلماذا لا أجتهد أنا في البحث؟
وصلت إلى جدة و التقيت صديقي البشير الذي فرح بقدومي و أنزلني في بيته ، و أكرمني غاية الإكرام ، و كان يقضي أوقات فراغه معي في النزهة و المزارات بسيارته ، و ذهبنا للعمرة معا و عشنا أياما كلها عبادة و تقوى ، و اعتذرت له عن تأخري لبقائي في العراق و حكيت له عن اكتشافي الجديد أو الفتح الجديد ، و كان متفتحا و مطلعا فقال : فعلا أنا أسمع أن فيهم بعض العلماء الكبار.
كانت أجوبة السيد محمد باقر الصدر ، واضحة و مقنعة و لكن أنى لها أن تغوص في أعماق واحد مثلي قضى خمسة و عشرين عاما من عمره على مبدأ تقديس الصحابة و احترامهم و خصوصا الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله بالتمسك بسنتهم و السير على هديهم ، و على رأس هؤلاء سيدنا أبو بكر الصديق و سيدنا عمر الفاروق ، و إني لم أسمع لهما ذكرا منذ قدمت العراق ، و إنما سمعت أسماء أخرى غريبة عني أجهلها تماما ، و أئمة بعدد إثنى عشر إماما ، و إدعاء بأن رسول الله قد نص على الإمام علي بالخلافة قبل وفاته ، كيف لي أن أصدق ذلك.
اتجهت بصحبة السيد أبو شبر إلى بيت السيد محمد باقر الصدر و في الطريق كان يلاطفني و يعطيني بسطة عن العلماء المشهورين و عن التقليد و غير ذلك ، و دخلنا على السيد محمد باقر الصدر في بيته و كان مليئا بطلبة العلوم و أغلبهم من الشبان المعممين و قام السيد يسلم علينا ، و قدموني إليه فرحب بي كثيرا و أجلسني بجانبه و أخذ يسألني عن تونس و الجزائر و عن بعض العلماء المشهورين أمثال الخضر حسين و الطاهر بن عاشور و غيرهم ، و أنست بحديثه و رغم الهيبة التي تعلوه و الاحترام الذي يحوطه به جلساؤه ، وجدت نفسي غير محرج و كأني أعرفه من قبل.
أدخلني صديقي إلى مسجد في جانب الحرم مفروش كله بالسجاد و في محرابه آيات قرآنية منقوشة بخط جميل ، و لَفَتَ انتباهي مجموعة من الصبيان المعممين جالسين قرب المحراب يتدارسون و كل واحد في يده كتاب ، فأعجبت لهذا المنظر الجميل و لم يسبق لي أن رأيت شيوخا بهذا السن أعمارهم تتراوح ما بين الثالثة عشرة و السادسة عشرة و قد زادهم جمالا ذلك الزي فأصبحوا كالأقمار ، سألهم صديقي عن " السيد " فأخبروه بأنه يصلي بالناس جماعة ، و لم أفهم من هو " السيد " الذي سألهم عنه غير أنني توقعت أنه أحد العلماء.
ذهبت إلى المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة ، و فيها جميع قضاتها و هم خمسة ، و عليهم رئيس ، كما هي الحال بمكة المكرمة ، دخلت غرفة أحدهم ، و جلست على بعض مقاعدها ، فنظر إليّ القاضي ، و قال : هل من حاجة ؟ قلت له : هل أنت قاض ٍ ؟
أعلمني صديقي ذات ليلة بأننا سنسافر غدا إن شاء الله إلى النجف ، و سألته و ما النجف ؟ قال : إنها مدينة علمية فيه مرقد الإمام علي بن أبي طالب ، فتعجبت كيف يكون للإمام علي قبر معروف. لان شيوخنا يقولون أنه لا وجود لقبر معروف لسيدنا علي ، و سافرنا في سيارة عمومية حتى وصلنا إلى الكوفة و هناك نزلنا لزيارة جامع الكوفة و هو من الآثار الإسلامية الخالدة.
بقيت في بيت صديقي ثلاثة أيام استرحت خلالها و فكرت مَليَّاً في ما سمعته من هؤلاء الذين اكتشفتهم و كأنهم كانوا يعيشون على سطح القمر ، فلماذا لم يحدثنا أحد عنهم إلا بما هو مُزرٍ و مُشين ، لماذا أنا أكرههم و أحقد عليهم دون أن أعرفهم ، لعل ذلك ناتج من الإشاعات التي نسمعها عنهم من أنهم يعبدون عليا و أنهم ينزلون أئمتهم منزلة الآلهة و أنهم يقولون بالحلول ، و أنهم يسجدون للحجر من دون الله ، و أنهم - كما حدثنا أبي بعد رجوعه من الحج - يأتون إلى قبر الرسول ليلقون فيه القذرات و النجاسات و قد أمسكهم السعوديون و حكموا عليهم بالإعدام.
سافرنا من دمشق إلى بغداد في إحدى سيارات شركة النجف العالمية الضخمة المكيفة و كانت الحرارة تبلغ أربعين درجة مئوية في بغداد ، عندما وصلنا اتجهنا فورا إلى بيته في حي جميلة ، دخلت البيت المكيف و استرحت ثم جاءني بقميص فضفاض يسمونه " دشداشة ". أحضر الفاكهة و الأكل و دخل أهله يسلمون عليّ في أدب و إحترام و كان والده يعانقني و كأنه يعرفني من قبل.