حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
اصول العلاج عند الخلقيين
" أقصر نفسك عما يضرها قبل أن تفارقك ، و اسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك ، فإن نفسك رهينة بعملك " .
الإمام الصادق ( عليه السلام )
تحدثنا عن العلاقة المتينة بين علم الطب وعلم الأخلاق ، وعلمنا كيف يكون الاتصال وثيقاً بين العلمين ، وكيف يشبه الطبيب بالخلقي والخلقي بالطبيب ، وليس الأمر بين العلمين مقصوراً على المشابهة فقط ، فإن بين العلمين اتصالاً هو أكثر من المشابهة ، ورابطة هي أشد من التماثل ، على أن بين العلمين فروقاً واضحة هي الفروق التي تكون بين علم وعلم آخر ، ومن هذه الفروق التي فلاحظها بين العلمين أن الأدواء التي يدافعها الطبيب عن الجسد ، والتي يمانعها الخلقي عن النفس كل منها انحراف وشذوذ وتخلف عن كمال محبوب ، ولكنا نجد ان الأدواء التي تحدث في الجسد تكون مبغوضة للإنسان ، ولا يمكن أن تكون مرغوبة له إلا في أحوال استثنائية لا يصح القياس عليها ، ونجد أدواء النفس على العكس من ذلك مرضية للنفس ومحبوبة لها عند أكثر الناس . والسر في هذا الحب العجيب ان هذه الأدواء تكفل للنفس بعض مشتهياتها وتحقق لها بعض ميولها ورغباتها ، والنفس تألفها لهذه اللذات الزائفة ، وإن كانت أدواء فاتكة وسموماً قاتلة ، وقد يبلغ الأمر ببعض النفوس الوضعية أن تنفر من الخلق الكريم لأنه يمنعها عن تحصيل هذه اللذات .
أدواء الجسد في الأكثر تصحب آلاما محسوسة والإنسان يمقتها لأنه يحس بآلامها . أما أدواء النفس فلا تكون كذلك لأنها تسبب آلاما معنوية وانحطاطاً كمالياً ، وقصير النظر لا يعبأ بهذا النقص ، ولا يعتني بهذا الألم ، لأنه يجهل ما يسميه الخاصة كمالاًً أو رقياً معنوياً .
(1) وإذن فأول علاج يصفه علم الأخلاق لهذه الأدواء هو العلم لأنه يرفع النفس من هذه الضعة ، وينقذها من هذا الانحطاط ، وهو الحاسة الدقيقة التي يدرك بها الإنسان لذة الكمال وألم الشقاء ، وقد سمعنا أحاديث الإمام الصادق ( عليه السلام ) في العلم .
(2) للباحث الخلقي غايتان متساويتان في الأهمية : (1) تهذيب الملكات السالفة وأحالتها إلى أخلاق صحيحة .(2) احتفاظ الإنسان بأخلاقه الصحيحة بعد التهذيب .
فالاعتدال الخلقي جهاد في جميع أدواره ، وهو جهاد لأنه خروج على غريرة وتمرد على قوة ، وهو جهاد لأنه إرغام أراده وقسر عادة ، وهو جهاد لأنه حمل للنفس على ما تكره ، وصرف لها عما تحب ، وهو جهاد لأن الفضائل أوساط ، ومعرفة هذه الأوساط تستدعي حزماً والإقامة عليها تستدعي عناءً ، وهو قبل هذا كله جهاد لأنه بحث عن عيوب النفس المحبوبة ، والحب كما في المثل المشهور : يعمي ويصم . وإذا كانت للنفس رغبات وأهواء تزاحم الخلق الصحيح في ابتداء تكوينه ، فإن لها نظائر من هذه الرغبات تزاحم الخلق الصحيح في أوقاته الأخرى والنفس من أجل هذه الرغبات المتزاحمة في جهاد متوا صل .
ومعنى هذا أن العلاج الخلقي في جميع أدواره يعتمد على الصبر والثبات ، فبالصبر تغرس الفضيلة في النفس ، والصبر هو الذي يتعاهدها لتنمو وينميها والصبر هو العدة التي يتدرع الإنسان بها أمام الأخطار ، وهو الخلق الأول الذي يجب تهذيبه ليكون عوناً على تهذيب غيره ، وهذا هو معنى قول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان " وهو معنى قوله أيضاً " رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحب العبد أو كره " .
الصبر وقوف النفس أمام الشدائد ، وثباتها عند هجوم النوازل فهو فرع من فروع الشجاعة ، والشدائد التي تثبت لها النفس قد تكون من الأمور الخارجة عن النفس كصروف الدهر وآلام الحياة ، وقد تكون من الأمور المتعلقة بالنفس كالآلام التي تحصل من مكافحة طغيان الشهوة وجموع الغضب ، والثبات عند جميع هذه الآلام شجاعة .
الصبر على جهاد قوة الشهوة شجاعة لا عفة ، ولكن ثمرة هذا الجهاد هي العفة ، والصبر على كفاح قوة الغضب شجاعة وثمرة هذا الكفاح شجاعة أخرى .
في العلاج الخلقي مصائب ، وهو جهاد مستمر ، ولكن هذه المصائب لا تحد من قدرة الإنسان شيئاً فالشخص حين يصدر العمل قادر على تركه ، وهو حين تركه مختار في فعله .
في وسع الإنسان أن يفكر في غايات أعماله فيحترز عن العمل القبيح ، وأخيراً عن الخلق الذميم . في وسعه أن يفكر في غاية العمل قبل إصداره ، ثم هو في سعة من الفعل أو الترك ، لأن له إرادة واختياراً . وإذا استطاع أن يخالف الملكة في المرة الأولى كانت مخالفتها في المرة الثانية عليه أسهل ، وهي في المرة الثالثة أخف مؤونة وأكثر سهولة . وهكذا تأخذ الشدة بالضعف وتعود الملكة الثابتة حالة زائلة ، ويصبح الخلق السيئ أثراً بعد عين .
وليحذر أن تغلبه العادة الأولى قبل أن يكمل التمرين على مخالفتها ، فإنها إذا غلبته مرة أفسدت عليه كثيراً من عمله وأحتاج إلى كفاح جديد ، والإمام الصادق ( عليه السلام ) يشير إلى هذا الطريق من المجاهدة بقوله " قف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل أن تقع فيه فتندم " وقوله : " إياك و مرتقى جبل سهل إذا كان المنحدر وعراً " .
(3) في وسع الإنسان الحازم أن يقف من نفسه موقف المحاسب الشحيح ، فيستعرض صفاتها بالنقد والتمحيص ، وسيوقفه الفحص على مواضع الخلل من ملكاته ، ومن السهل عليه بعد هذا أن يوجد في نفسه شوقاً إلى الفضيلة التي تباين ذلك الخلق السيئ الذي عرفه من نفسه ، فإذا أوجد في نفسه هذا الشوق فقد تم له كل شيء
أما معرفة عيوب النفس فسنذكر لها طرقاً عديدة بعد هذا ، وأما الشوق إلى الفضيلة فسبيله الفكر .
ليحدث الإنسان نفسه بمحاسن تلك الفضيلة ، وما تعقبه من آثار طيبة ، وعاقبة حميدة وما يناله أصحابها من مكانة سامية وشأن كبير ، ليحدث نفسه بذلك ، وليثق ان الشوق يحصل له قطعاً ، لأن النفس تحب الكمال وتطمح إلى الارتقاء ، ومن الخير له ان يطيل التفكير بذلك ، لتثبت الرغبة ويتأكد الميل .
وإذا تم للإنسان النجاح في هاتين المرحلتين فليجتهد بعد هذا في الأعمال التي توافق الفضيلة التي أشتاق إليها ، وكلما تكرر العمل ثبتت العادة الجديدة ، وانهار بناء الخلق القديم .
وقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في المرحلة الأولى من هذا العلاج : " أنفع الأشياء للمرء سبقه إلى عيب نفسه " وقال في المرحلة الثانية منه : " التفكير يدعو إلى البر والعمل به وقال في باب الزهد : " وإنما أردوا بالزهد الدنيا لتفرع قلوبهم للآخرة " والأئمة من أهل البيت ( عليه السلام ) كثيراً ما يعتمدون هذا الطريق في تهذيب الأخلاق ، وقد قدمنا للقارئ نموذجا صغيراً من كلمات الإمام الصادق في ذلك .
(4) ذكر علماء الأخلاق لمعرفة الإنسان عيوب نفسه طرقاً متعددة نشير إلى بعضها فيما يأتي :
(أ) الخلفاء و الأصحاب :
يحاول الإنسان أي يرى صورته الظاهرية فيمتنع عليه أن يراها بغير المرآة ، ويحاول ان يطلع على عيوب نفسه فيتعذر عليه ذلك بغير الصديق ، صديقك غيرك فلا يصعب عليه ان يطلع على نقائصك ، وقد جعله الحب الصحيح كالجزء منك فهو لا يخفي عليك شيئاً تكرهه من نفسك ، " ولا خير في صحبة من لم يَرَ لك مثل الذي يرى لنفسه " ولذلك شرطوا أن يكون الصديق من أهل الأمانة والدين ، وقد سمعنا قول الإمام الصادق ( عليه السلام ) " أحب أخواني إلى من أهدى إليَّ عيوبي " وهو يقول أيضاً : " من رأى أخاه على أمر يكرهه فلم يرده عنه وهو يقدر عليه فقد خانه " .
(ب) اجتنب ما تعده قبيحاً من غيرك : تنظر إلى الناس الآخرين فترى عيوباً كثيرة تظهر في أعمالهم وأقوالهم ، فإذا أردت إصلاح نفسك فأجتهد أن لا تعمل نظير تلك الأعمال ولا تفكر في وجود تلك النقائص فيك ، فإن النفس تنكره إذا كان خفياً ، وتعتذر عن ارتكابه إذا كان ظاهراً ، فتضيع من منك الفرصة ، وتذهب عليك الوقت .
(ج) استفد من لسان عدوك ما خفي على عين صديقك .
قد يستر الحب بعض نقائصك على الصديق ، وقد يتجاهل بعض عيوبك حذراً من إساءتك ، ولكن العدو لا تخفي عليه نقائصك لأنه يراعيك بعين ساهرة ، وهو لا يخشى من أن يسيء إليك ، فاجتنب عما ينسب إليك من الصفات . والأفعال ولا يضرك أن يكون كاذباً إذا برأت نفسك من العيوب .
(د) إذا اتهمت نفسك بخلق ذميم وأردت موقع هذه التهمة من الصحة فحاول ان توجد عملاً يخالف ذلك الخلق ، فإذا صعب عليك العمل فأعلم ان ذلك الخلق من صفاتك .
(هـ) تستطيع النفس أن تخفي نقائصها على الإنسان ، ولكنها لا تستطيع أن تخفي عليه ميولها وأهواءها ، وهذا الهوى أثر لازم للخلق السيئ فإذا خفيت عليك نقائصك فاجتنب أقرب الأمرين إلى هواك ، ويريدون من الأمرين الفعل والترك .
5 ـ الخوف والرجاء
الخوف انفعال نفساني يحصل للإنسان أو للحيوان حين يتوقع صدور أمر يكرهه أو فوات شيء يحبه ، وهو إحدى الغرائز التي تولد معه وتنشأ و تصحبه في جميع أحواله ، وكم جلبت له هذه الغريزة من خيرات ، وكم جنت عليه من شرور . والرجاء هو انتظار النفس حصول أمر ترغب فيه ، وموضع الخوف والرجاء في الأكثر هو الشيء إذا كان مشكوك الوقوع . وللإنسان بين هاتين الملكتين شؤون وأطوار ، فقد يشتد به الخوف حتى يكون يأساً ، وقد يفرط به الرجاء حتى يكسبه تسامحاً وإهمالاً وقد يعتدلان فيكونان مزيجاً خلقياً يبعث إلى العدل ويرشد إلى الخير ، وقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في ذلك : " أرج الله رجاءً لا يجرِّئك على معاصيه ، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته " وقال : " لا يكون المؤمن مؤمناً مؤمنا حتى يكون خوفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو " .
الخوف والرجاء صفتان نفسانيتان ولكنهما لا يثمران الخير حتى يكون لهما مظهر في السلوك وتأثير في العمل هذا .
الخوف العملي إذا اشتد يسمى عند العلماء الخلقيين ورعاً . وإذا اشتد الورع يسمى تقوى : " وان قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى " 1
- 1. كتاب : الأخلاق عند الإمام الصادق ( عليه السلام ) للعلامة محمد أمين زين الدين .