الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

أورع الناس من وقف عند الشبهة

يقول الإمام الحسن العسكري (ع) في مقولة له:
( إن أورع الناس من وقف عند الشبهة)1
نعم.. إن أورع الناس من وقف عند الشبهة، دعنا نتسائل عدة تساؤلات لنتأمل مستفيدين من فيض الإمام (ع) الإلهي..
فما هو المراد هنا من الشبهة في قول الإمام (ع)؟
وما المراد من الوقوف؟!
ولماذا ذكر (ع) الشبهة ولم يذكر الحرام؟!
ولماذا لم يذكر المكروه والمباح؟!
لماذا قال (ع) أورع الناس ولم يقل أتقى الناس؟!
هذه كلمة على قلة مفرداتها إلا أننا نقتبس منها عناوين كثيرة ونقتبس منها الخير.. كل الخير منطلقين من القرآن الكريم، وكيف لا يكون كذلك وهم ترجمان 2 القرآن الكريم.
الإمام (ع) عندما يقول: (أورع الناس) أي أن الدرجة الرفيعة من المؤمنين الأتقياء الورعين هو من وقف عند الشبهة لأن هناك فارقة خفية بين المفهوم الحقيقي للتقوى والمفهوم الحقيقي للورع، حيث يعرَّف التقوى بالابتعاد عن المعاصي، والتقوى كما يقول الإمام الصادق (ع): (أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك)3، أما الورع فهي درجة أعلى من التقوى فلا يمكن أن نقول كل تقي ورع ولكن يمكن أن نقول كل ورع تقي، كما هو الحال في مقولتنا كل مؤمن مسلم، ولا يمكن أن نقول كل مسلم مؤمن، وكل تقي مؤمن وليس كل مؤمن تقي، وكل ورع تقي وليس كل تقي ورع، وكل ورع ورع ولكن من هو أشد ورعًا يكون من هذا القبيل، فمن هو أشد ورعًا هو الورِع - بكسر الراء - فمن هنا ينبغي لنا أن نأخذ هذه الكلمات بمفاهيمها ومصاديقها ونطبقها على سير حياتنا التي نعيش فيها..
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): (في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب)4 لماذا إذًا الوقوف على الشبهات يكون من الورع الشديد؟! إنما يكون ذلك لأن الشبهة سواء كانت الشبهة المعتادة وهي التي اعتاد الناس عليها من حيث الموضوع أم الشبهة التي لم يعتد الناس عليها من حيث الحكم، لأن العلماء عند كلامهم عن الشبهات يقسِّمونها لقسمين:
الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية 5، وأكثر الكلام إنما هو في الشبهة الحكمية، فنقول على أن الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية كلاهما محلا للابتلاء، والقصد عند قولنا محلا للابتلاء نريد بذلك لا على نحو التكليف الذي فيه الحرام، بحيث إذا ارتكبناه نكون قد عصينا الله، ولا التكليف الواجب الذي إذا تركناه عاقبنا الله على تركه، إذًا فما هو نوع التكليف هنا؟!
التكليف هنا إنما الخوف من الوقوع في الحرام فندع الحلال، وهناك قاعدة موجودة عند الفقهاء وهي قول الإمام أمير المؤمنين (ع): (كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه)6، فلو اشتبهت في شيء فليس حرام عليك، ولكن لو ارتكبته وكان في حقيقته وواقعه حرام حتمًا ستترتب عليك آثاره.
مثال توضيحي:
لو أنكم رأيتم عصيرًا واشتبهتم بينه وبين الخمر والعياذ بالله، ففي هذا الحال هذه شبهة فهل يجوز لك ارتكابها أم لا؟ لو أردت أن تشرب فهذا لونه أصفر وهذا لونه أصفر وهذا عصير وهذا خمر، فهذه الشبهة هنا تسمى الشبهة المحصورة، والشبهة المحصورة هي التي لا يجوز ارتكابها، إذًا ليس كل شبهة لا نعاقب عليها، حتى نعنون العنوان بدائرة كبيرة، هذه الشبهة المحصورة يحرم ارتكابها وذلك لأنه لو ارتكبنا وصار خمرًا لحرم علينا، لكن يتكلم الفقهاء لو أننا شربنا بقصد الخمر فتبين أنه عصير برتقال، هل يحرم ذلك أم لا؟ يقولون هنا في الواقع ما حصلت معصية ولكن نؤاخذ ونعاتب بسبب عدم ابتعادنا باعتبار أن الخمر حرام وقصدنا ارتكاب الخمر غير أنه في الواقع تبين أنه عصير برتقال، فواقعًا لم تحصل المعصية ولكن في الظاهر حصلت معصية لأننا تجرأنا على ارتكاب الحرمة الإلهية..
أما الشبهة غير المحصورة يجوز ارتكابها، على سبيل المثال: لو أننا علمنا أن أحد الباعة الذين يبيعون اللبن لبنه نجس، لكن لا نعلم هل هو الذي في سوق المعامير أم أنه في سوق سترة أم أنه في سوق المنامة؟ فهذه شبهة غير محصورة يجوز ارتكابها ولا يجب علينا حتى الاحتياط في تركها، إذًا عندما يقول الإمام العسكري (ع): (أورع الناس من وقف عند الشبهة) يعني أن كل شبهة يحتمل فيها المؤاخذة ويحتمل فيها المنجزية للعقاب من قبل الله تركها أولى، فلو شربنا ماءً فتبين أنه سمًا لابد من أن تترتب آثار السم الذي احتسيناه، وحتى إن لم يكن بغير عمد فتترتب الآثار، فهذه نتيجة حتمية وقهرية.
ونقتبس من قول الإمام العسكري (ع) لما نحن عليه في مجتمعاتنا الآن، ينبغي لنا إذا أردنا فعلا أن نكون صادقين مع الإمام ومع أهل البيت (عليهم السلام) وصادقين مع الله (عز وجل) وصادقين مع أنفسنا، وأن نبتعد عن كل شبهة حتى وإن لم يجب علينا الابتعاد عنها، لأن الشبهة إذا كانت بخصوصية غير محصورة لا يجب علينا الابتعاد عنها، ما أكثر اللحوم التي تباع في الأسواق، والقاعدة الشرعية تنص أنه: "ما يباع في أسواق المسلمين حكمه الحلية والطهارة"7، لكن متى ما علمت أن هذا اللحم محل شبهة فلا يجب عليك الامتناع في هذه الحالة، لكن لو ارتكبت فتبين أن هذا اللحم غير مذكى وأن هذا اللحم نجس، فأكلت منه فتكون لقمة الحرام سببًا لشقاءك وشقاء أولادك من بعدك 8.

  • 1. تحف العقول لابن شعبة الحرَّاني / ما روي عن الإمام العسكري (ع) / في قصارى كلماته  / ص363 .
  • 2. نقرأ في زيارة أئمة البقيع يوم الاثنين: "السلام عليكم يا تراجمة وحي الله، السلام عليكم يا أئمة الهدى.."
  • 3. بحار الأنوار / ج70 / ص285 | مجموعة ورام / ج2/ص246.
  • 4. جاء ذلك في وصية لأولاده عندما ضربه اللعين ابن ملجم في محراب صلاته.
  • 5. أصول الفقه للمظفر/ ج2 / بحث الاستصحاب / ص270.
  • 6. وسائل الشيعة / ج12 / ص60 / الباب 4 من أبواب ما يكتسب به / وفيه: (حتى تعلم أنه حرام بعينه).
  • 7. ما وراء الفقه / للسيد محمد صادق الصدر/ الجزء الثالث القسم الثاني / فصل في سوق المسلمين ص62، وتشمل قاعدة اليد أيضًا في نفس الكتاب.
  • 8. المصدر: موقع حوزة الإمام أمير المؤمنين (ع) الدينية.