الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الأصل الكريم والميلاد المبارك (للإمام علي)

وليدًا عظيمًا

كانت مكة تحتفل بالوافدين إلى زيارة بيت الله الحرام، في الشهر الحرام، رجب الأصب. وكانت الوفود الكريمة تؤدي مناسك البيت، والناس يطوفون حوله، وينادون ربهم حينًا، والأصنام أحيانًا. وكانت هنالك امرأة كريمة، تطوف لا كما يطوفون، إذ كانت تتجه إلى الله وحده لا شريك له، فتغمر نفسَها ضراعةُ المتبتِّل، وخشوعُ المحتاج، ووقارُ المطمئن إلى فضل الله، تدعو الله وحده، وتسأله أن يُخفِّف عنها وطأة ما تخافه وتحذره.
لقد كانت أُمًّا لثلاثة أبناء وبنت واحدة، ولكن لم يشتد بها المخاض ولا عصر أعصابها كهذه المرة.
ودعت، فألحَّت في الدعاء لعل الله يخفف عنها آلام الطلق، وتضرَّعت فأبلغت في التضرع، وفي الجانب الغربي من البيت، إذ اجتمع طائفة من الحجاج، حدث أمر عجيب:
لقد كانت في أُخريات أشواطها، عند مقترب الركن اليماني، إذ انشق لها جانب البيت، وكأن نداءً خفيًّا يدعوها: أن ادخُلي بيت ربك!.
دخلت البيت، والناس يشهدون في ذهول ويصيحون صيحة العجب!. فيتقاطر عليهم سائر الطائفين، يسألون عن الحدث؟ وَمَنْ هذه السيدة التي كانت الساعة تطوف؟. إنها حفيدة هاشم بنت أسد، زوجة أبي طالب والدة أم هاني وطالب وعقيل وجعفر، إنها فاطمة!.
ويجتمع الناس وبينهم الزعماء والأشراف. وبعد مدة، ينشق الجانب ذاته، فتتهلَّل وجوه الحاضرين كما يتهلل وجه الوليد العظيم، وهو يتقلب على أذرع الوالدة الكريمة.
إنه حادث فريد من نوعه، أن ينشق طرف البيت، فتدخل الحامل وتلد في مركز الإشعاع الروحي والبركة الإلهية، بيت الله الحرام الذي يعتبر أقدس محل «يحترمه العرب».
وإنها لكرامة لبني هاشم على قريش، ولقريش على العرب أن يُوْلِيْهِم ربُّ البيت بهذه العناية، فيسمح لامرأة منهم أن تضع حملها ببطن بيته، مكرَّمًا ومعظَّمًا.
وسرت البشرى في بيوت الهاشميين!. وانطلقت نساؤها تزف تهانيها إلى فاطمة معجبة مغرمة. وجاء الزعماء يبشرون أبا طالب بالوليد العظيم، ومن بين هؤلاء فتى يهمه أمر الوليد أكثر من غيره، ينظر إليه لا كما ينظر الرجال الآخرون، إنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله الذي لم يزل يُحسب من عائلة أبي طالب.
فإذا تناول الوليد تلا آياتِ الله فأعجب به وبارك بولادته.
وقالوا: إن الوليد لم يفتح عينيه إلَّا على مُحيَّا ابن عمه النبي العظيم وسُمِّيَ عليًّا، واختارت أمه له اسم (حيدر)، وإذا كان هذا الاسم يوحي باكتمال الجسم الذي يُبشِّر بالبطولة، فإن الاسم الآخر كان يوحي ببشائر السموِّ المعنوي.

الولادة المعجزة

كانت لولادته- كما لمقتله- عليه السلام، شهادة حق على صدق رسالات الله. إنه آية الله العظمى في كل جوانب حياته، من ولادته إلى شهادته.
فلماذا تُحاط ولادة الرسل والأئمة بالآيات؟ فموسى عليه السلام يُقذف في التابوت ليلقيه اليم بالساحل، وليُصنع على عين الله.
وعيسى عليه السلام يولد من غير أب، ويكلِّم الناس في المهد صبيًّا.
وسيدنا محمد صلى الله عليه واله ترافق ولادته حوادث عظيمة، تسقط شرفات قصر فارس، وتخمد نيرانهم، وتغيض بحيرة ساوة، وتفيض الأخرى في سماوة و ... و.
والإمام علي يولد في الكعبة بعد أن ينشق لأمه فاطمة بنت أسد، جانب المستجار، لماذا؟.
هل لأنهم قد اصطفاهم الله لرسالاته قبل الولادة، حيث بادروا بالتلبية في عالم الذر قبل غيرهم من الصالحين، فاجتباهم على علم، وأبان فضلهم بالولادة المعجزة 1.
أم لأن الله سبحانه اطَّلع على مستقبل حياتهم، فأكرم مواقفهم المسؤولة التي يعلم أنهم سوف يختارونها بكل حرية فأكرم مثواهم، وجزاهم بطيب الولادة، وإعجازها؟ ..
أم لأن الرب سبحانه أراد بذلك أن يُكرِّم الأصلاب الشامخة والأرحام الطاهرة ممن ولدوهم، كما فعل بمريم الصدِّيقة، لمكانها عند ربها، أو بزكريا وزوجته عليهم السلام؟.
أم لأسباب أخرى؟.
ولكن الولادة المعجزة بلاغ مبين للناس، بشأن الوليد العظيم دون أدنى شك.
بعد أن خرجت أم علي عليه السلام تحمله، استقبله النبي محمد صلى الله عليه واله وهو يعلم أنه سيكون وصيَّه وخليفته، فعمَّ السرور قلبه الكبير.
ولم يتفارقا منذ تلك اللحظة حتى ارتحل عنه النبيُّ صلى الله عليه واله إلى ربه، فلزم الوصي سنَّته حتى الشهادة.
وحين يصف الإمام بفخر عظيم تلك العلاقة الحميمة بينه وبين النبي صلى الله عليه واله لايدع لنا إشكالًا في أنها كانت من تقدير الله عزَّ وجلَّ، وأن لها آثارها في بلاغ رسالاته إلى الناس، يقول:
«أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَالمَنْزِلَةِ الخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى الله عليه واله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيمًا أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَمًا وَيَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّة» 2.

الفتى المبارك

ولم يزل يدرج ويترعرع متميزًا بين أترابه، في أعماله، وأقواله. ففي ذات يوم، وكان له آنذاك سنوات قلائل، وكان يلعب مع أترابه، إذ ينزلق أحد الأطفال بجانب بئر كانت هناك، وقبل أن يسقط فيها يلحقه علي عليه السلام فيأخذ منه عضوًا، فيعلق رأس الطفل إلى الأسفل وتمسك عضوه الأعلى يد عليّ، ويصيح الأطفال، ويأتي أهل الطفل، ويتعجبون للمنظر، وكان يسمّى عليٌّ مباركًا، فقالت والدة الطفل: أيها الناس! أترون مباركًا، كيف أنقذ ولدي من الهلاك.
وكانت الظروف صعبةً في مكة، وقد أصاب البلد الحرام قحط شديد، عمَّ بيت أبي طالب. فجاء النبي صلى الله عليه واله إلى بعض أعمامه الأثرياء، يفاوضهم في الأمر، واقترح أن يتكفلوا أبناء عمه، فلما عرضوا عليه قال: أبقوا لي عقيلًا وخذوا من شئتم، فأخذ كل من العباس وحمزة عمّا النبيِّ وهالة بنت عبد المطلب عمته، واحدًا من أبناء أبي طالب، وبقي علي عليه السلام فإذا بالنبي يستدعيه ليكون له صاحبًا، فيغمره البُشر، ويأوي إليه كما يأوي الفصيل إلى أُمه.
إن عليًّا الذي فتح عينيه- أول ما فتحهما- على ملامح النبي صلى الله عليه واله، وظل مغمورًا ببركاته أيام صغره، إن عليًّا الذي رأى في محمد صلى الله عليه واله الحب والحنان، وكل خصال الخير والجمال؛ لابد أن يأوي إليه ويُسارع إلى قبول كفالته له، ويفيض فرحًا بذلك وابتهاجًا.
أخذ علي، يتبع كفيله وحبيبه النبيَّ محمدًا صلى الله عليه واله ويطمئن إليه بكل قلبه، ويقلده في كل عمل!
وذهب النبي صلى الله عليه واله يغدق على ابن عمِّه كل ما أفاءت إليه رحمة الله، من آداب حِسان وخُلق كريم!
ولم يزل عليٌّ يرى النبي صلى الله عليه واله دائم التفكير يقلّب وجهه في السماء يلتمس من ربه نورًا.
في تلك الأيام التي كان يتعبد النبي في غار حراء، كان علي يتدبر في عبادته، ويفكر فيها فيفهم معنى العبادة ومغزاها، ويؤمن بمن يعبده ويهتدي إليه بفطرته النقية التي لم يتسرب إليها الشك أبدًا!
إن عليًّا عليه السلام أُوتي من النبوغ والذكاء ما يُؤهله لكل ما كان النبي صلى الله عليه واله مؤهلًا له. ومن الخطأ أن نحدّد أول وقت آمن فيه، فلقد كان مؤمنًا بفطرته ولا يصح لنا أن نقرن إيمانه بزمان دون زمان، هكذا عبر النبي ذات مرة إذ سأله رجل من المسلمين عن أول وقت آمن فيه الإمام علي فقال: إنه لم يكن كافرًا حتى يؤمن، كما أنه نفسه بيّن ذلك حين أكَّد أنه لم يكن مسبوقًا بالشرك.
وعندما هبط الوحي على قلب محمد صلى الله عليه واله وجاء النبيُّ إلى الإمام يخبره، انفتح قلبه على أمر موعود، وحقيقة منتظرة، ذلك اليوم كان عمر الإمام عشر سنوات، ولم يكن يعرف إنسانٌ طيب يمتاز عليه من الآخرين، بل كانت فيه كل معاني الفضيلة والسمو: صدقه، أمانته، بره بالخلق، إحسانه، صلته للرحم وغير ذلك. أجل لم يكن هناك من يمتاز عليه غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله البر الكريم، فيكف لا يصدقه؟! وكيف لا يتبعه؟!.
وذات يوم دعاه النبي إلى الصلاة، فقام عليه السلام يتعلّم قواعدها ويتوجّه إلى المسجد الأقصى حيث القبلة الأولى للمسلمين. فيصلي بصلاة النبي، وتُصلي وراءهما خديجة زوجة الرسول. فهؤلاء ثلاثة ليس لهم الآن نظير على الأرض، يبتهلون إلى الله بركعات، يُرتِّلون من آي الذكر الحكيم، ما يزيدهم هدى، ويملأ شعورهم إيمانًا واطمئنانًا.
لقد تشكَّلت الآن أول خلية حيّة، بين ملايين الخلايا الميتة في المجتمع البشري. وهي تسعى لكي تزيد نفسها حجما وقوة، وتبعث الحياة- بإذن الله- إلى سائر الخلايا.
ومن هذا العقد من حياة علي عليه السلام يبتدئ عهده مع الجهاد والتضحية، لقد انتقل من بيت كفيله إلى بيت والده من سنتين، بيد أنه لا يزال يقضي غالب أوقاته في بيت خديجة قريبًا من الرسول صلى الله عليه واله ليرفع له كل يوم علمًا في المعارف والآداب، فيتَّبعه.
وظل الإسلام يتخذ من هذه الأنفس المباركة- أنفس محمد وعلي وخديجة- أولى قواعده وأزكاها، حتى اجتمع إليه رجال ونساء يتحدون بالإسلام الوضع الفاسد.
وظل دعاة الإسلام يبذلون في سبيل الدعوة طاقاتهم ودماءهم، حتى نمت شجرة الإسلام، وجاء الوحي يأمر النبي بأن يصدع بما يؤمر وينذر عشيرته الأقربين، ويُظهر الدعوة للناس أجمعين.
فأمر النبي عليًّا عليه السلام أن يُهيِّئ طعامًا ويدعو بني هاشم إلى بيته. واجتمعوا إليه يقودهم أبو طالب سيدهم ووالي أمورهم.
فلما طَعِمُوا ورأوا أن قصعة الثريد، التي أكلوا منها لم ينقص منها شيء وعجبوا، وجاء النبي يكلمهم بشأن الدعوة راح عمه أبو لهب، يبعث كلماته الساخرة!!
إن أبا لهب كان من ألدِّ أعداء الإسلام، مع أنه كان من أقرب الناس رحمًا بالنبي صلى الله عليه واله، ولم ينزل في القرآن آية تذكر فردًا من معاصري النبي بالسوء غير ما نزل في حق أبي لهب، وفي سورة كاملة تُبتدأ بقول شديد: ﴿ ... تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ 3 تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ [1].
وقد كان أول المستهزئين بالرسول، ذلك النهار، حيث قال بين فتيان بني هاشم الذين كانوا زهاء أربعين رجلًا، قال: لشدَّما سحركم صاحبكم، أي: ما أعجبه رجلًا قد سحركم. فتفرق القوم ولم يكلمهم الرسول صلى الله عليه واله.
فلما كان من غد استضافهم علي عليه السلام مرة أخرى فجاؤوا وأكلوا وشربوا، وقبل أن يتكلم أبو لهب، ابتدأهم الرسول قائلًا:
«يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ إِنِّي وَاللهِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا فِي الْعَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ. إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤْمِنُ بِي وَيُؤَازِرُنِي عَلَى أَمْرِي، فَيَكُونَ أَخِي وَوَصِيِّي وَوَزِيرِي وَخَلِيفَتِي فِي أَهْلِي مِنْ بَعْدِي؟».
فأحجم القوم جميعًا، إلًّا عليًّا، وكان ذلك اليوم- كما يصف نفسه- «وَإِنِّي لَأَحْدَثُهُمْ سِنًّا وَأَرْمَصُهُمْ 4 عَيْنًا، وَأَعْظَمُهُمْ بَطْنًا، وَأَحْمَشُهُمْ 5 سَاقًا، فَقُلْتُ أَنَا يَا نَبِيَّ اللهِ أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَى مَا بَعَثَكَ اللهُ بِهِ».
فأخذ برقبته ثم قال صلى الله عليه واله: «إِنَّ هَذَا أَخِي وَوَصِيِّي وَوَزِيرِي وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا».
فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ عليه السلام: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لِابْنِكَ وَتُطِيعَ» 6. وظلّت هذه الدعوة تتراوح بين علي عليه السلام وخديجة عليها السلام ثلاث سنوات، وكان النبي صلى الله عليه واله يصلي بهم في خفاء، ويؤدي بهم مناسك الحج على سنّة الإسلام، حنيفًا بها عما كان يأتيه أهل الجاهلية.
فلقد أُثر عن عبد الله بن مسعود قوله:
«إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ عَلِمْتُهُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه واله قَدِمْتُ مَكَّةَ فِي عُمُومَةٍ لِي فَأَرْشَدُونَا إِلَى الْعَبَّاسِ ابْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى مَنْ ثَمَ 7 فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذَ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الصَّفَا تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ وَلَهُ وَفْرَةٌ جَعْدَةٌ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ أَقْنَى الْأَنْفِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ 8 كَثُّ اللِّحْيَةِ 9 دَقِيقُ المَسْرُبَةِ 10 شَثْنُ الْكَفَّيْنِ 11 حَسَنُ الْوَجْهِ مَعَهُ مُرَاهِقٌ أَوْ مُحْتَلِمٌ تَقْفُوهُ امْرَأَةٌ قَدْ سَتَرَتْ مَحَاسِنَهَا حَتَّى قَصَدُوا نَحْوَ الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ اسْتَلَمَهُ الْغُلَامُ ثُمَّ اسْتَلَمَتْهُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَالْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ يَطُوفَانِ مَعَهُ. فَقُلْنَا: يَا أَبَا الْفَضْلِ إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُهُ فِيكُمْ أَ وَشَيْءٌ حَدَثَ؟.
قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله وَالْغُلَامُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالمَرْأَةُ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُ الله تَعَالَى بِهَذَا الدِّينِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ» 12. وقال عفيف الكندي:
«كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا، فَقَدِمْتُ الْحَجَّ فَأَتَيْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، لِأَبْتَاعَ مِنْهُ بَعْضَ التِّجَارَةِ، وَكَانَ امْرَأً تَاجِرًا، فَوَ الله إِنِّي لَعِنْدَهُ بِمِنًى إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ خِبَاءٍ قَرِيبٍ مِنْهُ فَنَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ، فَلَمَّا رَآهَا قَدْ مَالَتْ قَامَ يُصَلِّي.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْخِبَاءِ الَّذِي خَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْهُ فَقَامَتْ خَلْفَهُ فَصَلَّتْ ثُمَّ خَرَجَ غُلَامٌ حِينَ رَاهَقَ الْحُلُمَ مِنْ ذَلِكَ الْخِبَاءِ فَقَامَ مَعَهُ فَصَلَّى.
فَقُلْتُ: لِلْعَبَّاسِ مَنْ هَذَا يَا عَبَّاسُ؟.
قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ابْنُ أَخِي.
فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ المَرْأَةُ؟.
قَالَ: امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ.
فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الْفَتَى؟.
قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنُ عَمِّهِ عليه السلام.
فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي يَصْنَعُ؟.
قَالَ: يُصَلِّي وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَمْ يَتَّبِعْهُ عَلَى أَمْرِهِ إِلَّا امْرَأَتُهُ وَابْنُ عَمِّهِ هَذَا الْفَتَى، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ كُنُوزُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ» 12. ومضت على الدعوة مدة، وعليٌّ عليه السلام يستقيم على الصراط السوي، ويقاوم الضغوط، ويصوغ الوحي شخصيته الفذة.
ثم التفَّ حول الدعوة رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر ربهم. فلما أمرهم النبي صلى الله عليه واله بالهجرة إلى الحبشة وأمَّر عليهم جعفرًا أخا عليٍّ عليهما السلام، قامت قيامة قريش الذين رأوا من مناوئهم- العظيم- القوة وحسن التدبير، فأخذوا يدرسون خطة أخرى أشد وأقسى مما سبق، وذلك بفرض حصار اجتماعي على بني هاشم زاعمين أنهم شذُّوا عن النظام الاجتماعي السائد.
فدبروا أمر الصحيفة الملعونة، حيث أَجمعوا على ألَّا يخالط النبيَّ صلى الله عليه واله ومن دار في أفقه من الهاشميين، وعلى رأسهم سيدهم أبو طالب، ولا يعاملهم أحدٌ أبدًا. فجمع أبو طالب أهله في شِعْبٍ له، وذبَّ عنهم بما كان لديه من طاقة وسلطان.
وتلك كانت فرصة سانحة للإمام عليّ عليه السلام أن ينهل، من نبع النبي الفيّاض، كلَّ مكرمة وفضيلة ومعرفة، كما استطاع أيضًا أن يمارس جهاده الشاق طيلة ثلاث سنوات.
ولعل هذا كان أول ميادين الجهاد التي خاضها ابن أبي طالب عليه السلام ولكن كان له من قبله جهاد آخر، إلَّا أنه ليس في هذا المستوى، وذلك أن النبي صلى الله عليه واله كان يمر بطرقات مكة فيرشقه أبناء مكة بالحجارة والحصى، بأمرٍ من أوليائهم، ولم يكن صلى الله عليه واله يعبأ بذلك، بيد أن عليًّا عليه السلام كان يصاحبه، فإذا أساء أحدهم إلى النبي صلى الله عليه واله أخذه وجدع أذنه، وكان عليّ عليه السلام قويًّا منذ صباه وشجاعًا، وكان كذلك مهيبًا في أعين أترابه، فإذا رأوه يمشي مع النبي صلى الله عليه واله، قالوا لبعضهم: «مهلًا فإن معه القَضِم». أي الذي يقضم أنوفهم وآذانهم 13.

  • 1. هكذا جاء في بعض النصوص المأثورة.
  • 2. نهج البلاغة الخطبة [192].
  • 3. القران الكريم: سورة المسد (111)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 603.
  • 4. الرمص وسخ يجتمع في موق العين، فإن سال فهو غمص، وإن جمد فهو رمص.
  • 5. يقال رجل حمش الساقين بمفتوحة فساكنة فمعجمة أي دقيقهما.
  • 6. بحار الأنوار، ج 18، ص 191.
  • 7. لعل مراده أنه كان جالسًا عند جماعة هناك.
  • 8. أي شديد السواد مع سعتها.
  • 9. مجتمع الشعر: غير طويل.
  • 10. المسربة: الشعر وسط الصدر إلى البطن.
  • 11. غليظ الكفين.
  • 12. a. b. بحار الأنوار، ج 38، ص 243.
  • 13. المصدر: كتاب الإمام علي( عليه السلام ) قدوة وأسوة ، لآية الله السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته.