الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الامام الحسين بين الولادة والشهادة

ورد في السيرة النبوية أنّه بعد ولادة الإمام الحسين (عليه السلام) جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيت ابنته سيدة نساء العالمين (عليها السلام) ونظر إلى المولود الجديد، ثمّ أخذه بين يديه وقبَّله في نحره، فاسترعى هذا التصرّف انتباه الأم الفرحة، وما كان منها إلّا أن سألت أباها عن مغزى ذلك الفعل، فيأتيها الجواب الذي لا ينطق عن الهوى بأنّ "الحسين (عليه السلام)" يُقتَل عطشاناً مظلوماً مذبوحاً على يد الفئة الباغية التي وصفها القرآن الكريم بالشجرة الملعونة الناصبة العداء لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولدينهما وأمتهما، ويكون القتل على شاطىء نهر الفرات في مكانٍ يُسمَّى بـ"كربلاء"، ويتحوّل يوم الفرح والبهجة بذلك الجواب إلى يوم حزن ودموع وأسى للزهراء (عليها السلام) التي وصلها نعي ولدها في يوم مولده، ولكنّها برباطة جأش المرأة المؤمنة الصابرة تُسلِّم الأمر لله، وتسأل أباها، وهل يكون أحد منّا موجوداً زمن قتله؟ فيجيبها الأب الرؤوف بأنّ ذلك الزمن سيكون خالياً منّي ومنك وخالياً من أبيه وأخيه، وتعود تلك الأم العظيمة لتسأل: "إذن من يقوم بواجب التعزية في ذلك الزمن؟" فيطمئنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ الله سيهيّىء للإمام الحسين (عليه السلام) أنصاراً وأتباعاً يقيمون مجالس عزائه إلى يوم الدين، لتبقى قضيته "قضية الإسلام" حية في العقول والقلوب.
هكذا كانت الصورة التي احتفل فيها أهل البيت (عليهم السلام) بولادة الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك الشهيد العظيم الذي أعطى الإنسانية كلّها الدرس الأكثر تأثيراً وإيلاماً وتعبيراً عن التسليم لأمر الله وتحمّل الصعاب الشداد في سبيل الدفاع عن الرسالة الإلهية الخاتمة "ميراث السماء لأهل الأرض أجمعين".
لهذا نجد أنّ أنبياء الله (عليهم السلام) قد بكوا على الحسين (عليه السلام) قبل مولده وقبل استشهاده، بل إنّ البعض منهم قد طلب من الله أن يرزقه الولد ثمّ يفجعه به لكي يواسي بذلك رسول الرحمة محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) كما طلب ذلك نبي الله زكريا (عليه السلام).
ويوجد في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يشير إلى كربلاء عندما كان راجعاً من صفين، فيمر بتلك الأرض ويقف عندها ويتحدث عن مصاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) ومن معه في تلك البقعة، ويبكي على تلك المجزرة الدموية التي تلحق بأولاده وأحفاده ومن معهم.
وكذلك ورد عن زهير بن القين أحد الشهداء مع الحسين (عليه السلام) بأنّه عندما صادف الإمام (عليه السلام) في مسيره إلى كربلاء وطلب منه أن يكون معه في مواجهة يزيد، أسرع زهير بالإستجابة لأمر سلمان الفارسي كان قد أوصاه بذلك عندما كانا مشاركَيْن زمن الخلفاء بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إحدى الغزوات وكان المسلمون قد انتصروا فيها فقال سلمان لزهير: (إذا أدركتم قتال سيد شباب أهل الجنة فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم من هذه الغنائم).
هذا التواتر بين الأنبياء (عليهم السلام) والأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم وبين كثيرٍ من المسلمين يدلّ بوضوحٍ أن ذكرى ولادة الإمام (عليه السلام) كانت مشبعة بصورة الشهادة الحمراء التي ستكون طريق العروج لروح الإمام (عليه السلام) من هذه الدنيا إلى الله عزّ وجلّ.
ولهذا نجد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اهتمّ بالإمام الحسين (عليه السلام) اهتماماً خاصاً من ناحية التنمية والتنشئة ليكون له الدور الرائد في صياغته بالنحو الذي يتلاءم مع الوظائف الكبيرة والعظيمة التي كان مقدّراً لأبي عبد الله (عليه السلام) أن يواجهها في قادم الأيام حسبما أعلم الله نبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من غيب علمه.
من هنا، كانت استعدادات الإمام (عليه السلام) تامة على مستوى شخصيته التي اقتحمت كلّ الأسوار التي أراد أهل البغي وعلى رأسهم "يزيد بن معاوية" أن يحاصروا بها الأمة في دينها وحياتها وأساليب عيشها، وفجر تلك الثورة الإستشهادية المصبوغة بلون الدم الذي امتدّت تأثيراته فصبغ حياة كلّ الأجيال المسلمة إلى الآن وسيظلّ كذلك في المستقبل أيضاً، وأصبحت تلك الثورة الرائدة الرمز الأكبر لكلّ الأحرار الرافضين عيش الذلّ والهوان في مواجهة الطغاة والظالمين.
وكان أعظم إنجازات تلك الثورة هو "حفظ الإسلام المحمدي الأصيل" الذي كان السبب الأساس والمباشر لتلك الحركة الحسينية من خلال الثوار الحسينيين الذين حملوا الإسلام في قلوبهم والحسين (عليه السلام) شعاراً ومناراً لتحرّكاتهم ضدّ الظلم كلّه.
وبهذه المناسبة التي لها عميق التواجد في قلوبنا وإحساساتنا ولها عظيم الأثر في تكويننا الإنساني والروحي والمعنوي علينا أن نعي مسؤولياتنا الإسلامية الرسالية في زمنٍ طغى فيه الكفر والفساد وتسيطر فيه القوى المواجهة للمؤمنين على مقدرات العالم كلّه، وتمعن هذه القوى الشيطانية وعلى رأسها أمريكا في الوقت الحاضر على إسقاط كلّ الشعارات والممارسات المناوئة لها على امتداد الساحة العالمية من خلال إرهابها الذي تقوم به ضدّ الإسلام والحركات الإسلامية في بلداننا، بل وضدّ كلّ إنسانٍ يسعى ليعيش معاني إنسانيته بعيداً عن الضغوطات الإستكبارية تلك.
إنّ ذكرى ولادة الإمام العبقة بعطر الشهادة والممزوجة بسيرة سيد الشهداء (عليه السلام) ينبغي أن تكون لنا خير مثالٍ على نوع التربية المفروض أن نوفّرها لأبنائنا وأجيالنا الصاعدة، مُضافاً إلى التعبئة الجهادية والروحية التي نريد لها أن تكون الأساس في تكوين شخصياتنا الرسالية المجاهدة في الوقت الحاضر لنمارس الدور الحسيني ونكون الإستمرار له في هذا الزمن الذي سقط فيه كلّ الذين كانوا يحملون الشعارات الثورية ويحلمون بالخلاص من سيطرة القوى الشيطانية، ولم يعد في ساحة الجهاد والصراع ضدّ الإستعباد والإستبداد سوى هؤلاء المجاهدين المقتدين بالحسين (عليه السلام) الذين يرفعون اللواء عالياً ليبقى للحق صوت يهتف له ويدعو إليه، وهذا ما تقوم به الجمهورية الإسلامية في إيران والحركات الإسلامية في العالم وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية في لبنان والإنتفاضة المباركة لشعبنا المسلم الفلسطيني في الأرض المحتلة.
من هنا ندعو أمتنا بكلّ شعوبها لأن تعطي قضية الجهاد والإستشهاد اهتماماً أكبر ودوراً أساسياً في صياغة الشخصيات الرسالية المجاهدة لنكون بذلك من الذين يطبّقون النهج النبوي الخالد في التربية التي توصل إلى المستوى الإيماني والروحي والجهادي القادر على تحمّل المسؤوليات الجسام عندما يحين الظرف المناسب للدفاع عن الإسلام كعقيدة وعن المسلمين كأمة كانت خير عطاء للإنسانية من ربٍّ رحيم يريد للإنسان أن يعيش الخير كلّ الخير، والأمن كلّ الأمن في الدنيا، لتكون خير معبر له إلى بناء حياته الآخرة التي أعدّها للصادقين المخلصين من عباده.
ولنكن على ثقة ويقين بأنّ سلاح الشهادة هو الأقوى والأقدر على القتال والمواجهة وتحقيق الأهداف المقدّسة، كما حقّق ذلك الإمام الحسين (عليه السلام) بدمه المراق في كربلاء الذي حفظ الإسلام من الإندثار والتحريف. والحمد لله ربّ العالمين1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.