مجموع الأصوات: 62
نشر قبل 6 سنوات
القراءات: 6305

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الرسول الاكرم... محررا

وسط ذلك الظلام الدامس، الذي نشر أجنحته على أرجاء و بقاع مكة... بزغ النور المحمدي ليكون نوراً يبدد تلك السحب الداكنة التي كبلت الإنسان و أفقدته أعز ما يملك.

ووسط ذلك الوضع الفاسد... جاء محمد  ليصنع واقعاً أفضل...

ويقف الإنسان متأملاً متسائلاً كيف استطاع رسول الله  أن يبدل تلك الحالة السوداء، وكيف استطاع أن يكسر القيود والأغلال، وكيف استطاع أن يرسم لوحة فنية فيها أجمل المعاني و أسمى القيم؟ وكيف استطاع أن ينقذ شعبه من براثن الجهل والتخلف؟

أسئلة بحاجة إلى وقفة... أسئلة تبحث عن إجابة وافية، وما يمكننا في هذه المقالة إلا أن نسطر كلمات متواضعة لعلها تكون إجابة لبعضها.

المجتمع المتخلف

وصف القرآن الكريم ذاك المجتمع بالضلال في قوله تعالى:﴿ ... وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 1، وحين تتحدث السيدة فاطمة الزهراء عن ذلك الضلال الذي خيم على ذلك المجتمع فإنها تقول:«وكنتم على شفا حفرة من النار مدقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم».

وهذا الضلال جذره إنما يتمثل في التخلف الفكري، والقيود الفكرية التي كانت تكبل طاقات المجتمع، وتحد من نهوضه، وهذا التخلف أولد العديد من المآسي في ذلك المجتمع منها: سيادة وبروز الطبقية الأرستقراطية، والاستعباد الإنساني، و إزهاق الأرواح المتمثل في وأد البنات، و الإهانة الإنسانية المتمثلة في سلب العزة والكرامة من المرأة... و غيرها.

الرسول محرراً

من هنا فإن مثل هذا التخلف إنما هو بحاجة إلى من يبدده، و ينتشل ذلك المجتمع من تلك الهوة السحيقة، ويبعث فيه الروح والحياة، لهذا جاءت البعثة النبوية حاملة معها النور لذلك المجتمع، يقول ربنا:﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ 1.

ولنا أن نسأل كيف يكون الرسول منقذاً ومحرراً وباعثاً للحياة في ذلك المجتمع؟

والإجابة على ذلك تتمثل في قوله تعالى:﴿ ... وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... 2وهذه الآية ترشدنا إلى أن هناك ثمة أغلال, وقيود كانت تكبل ذلك المجتمع من النهوض، وحين التأمل فيها نجدها تنقسم إلى: قيود الجهل و الشهوات و الأهواء النفسية، وقيود التقليد الأعمى وإتباع الآباء. وقيود المضلين وأصحاب الأغراض والمصالح المتحكمين في المجتمع.

فلا يمكن لمجتمع أن ينهض وهو مكبل بهكذا قيود وأغلال، لذا فإن الإمام علي  يقول في مهمة الأنبياء  إنهم ـ الأنبياءـ:«يثيروا لهم دفائن العقول» و هذه الإثارة إنما كانت عبر:

اقرأ... مفتاح التحرر

﴿ ... اقْرَأْ ... 3هي أول كلمة سماوية تحاكي عقل الرسول... وهي كلمة العلم، وكلمة النور، وهي كلمة التحرر، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

ففي ذلك المجتمع الأمي بتعبير القرآن (الأميين)، وفي ذلك المجتمع الذي لم يتجاوز عدد من يعرف القراءة و الكتابة عدد الأصابع، جاءت هذه الكلمة لتكسر المؤامرة الاستكبارية، حيث أراد الأرستقراطيون أن تعم الأمية ذلك المجتمع وتغلف عقول الناس بغلاف الجهل و التجهيل، حتى يتسنى لهم السيطرة على رقاب العالمين.

نعم، اقرأ هي كلمة الهدم، وهي كلمة البناء، فهي تهدم المعتقدات والأباطيل المنتشرة في ذلك المجتمع، وهي كلمة بناء و نور يشرق على العقول، وهي كالغيث الذي ينزل على الأرض ليحولها إلى ربوة خضراء.

ثم تأتي آية أخرى توضح هذه الحقيقة، حيث يقول ربنا:﴿ ... ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ 4فبالقلم تتضح الحقائق، و بالقلم تفضح النوايا الشيطانية، و بالقلم تفند الإشاعات المزعومة ضد الرسالة والرسول   وهكذا يكون للقلم موقعيته في خدمة الدين و تبصير الناس بالحقائق والمثلى العليا.

وهكذا تكون عملية القراءة والكتابة عملية تحرر للعقل البشري، وبنور العلم يبصر الإنسان حقائق الحياة.

وهذه الطاقة الكامنة استطاع الرسول   بحكمته أن يكتشفها و يوظفها في خدمة الإنسان، ويصنع ذلك الإنسان الواعي، المفكر، المتحرر من براثن الجهل والظلا.

فإذا تحرر عقل الإنسان من سيطرة الجهل والشهوات والتضليل والإغراء فإنه يبصر النور ويهدي الإنسان إلى السعادة، وحين يتحرر العقل فإن تلك المأسي والويلات التي أصابت المجتمع القرشي أو أي مجتمع تصادر منه حريته الفكرية فإنها لن تحدث، ولن تتكرر، ومن ثم يستطيع العقل أن ينطلق نحو الإبداع والابتكار واستثمار الطاقات وتنميتها.

لا... لاستعباد العقل...

كما في المجتمع الجاهلي كانت هناك طائفة تصادر الحرية الفكرية، وتغلف العقول بمجموعة من الأباطيل، وتشيع الأكاذيب على الدعاة إلى الله فإننا اليوم نعيش هذه الحالة ولكن بغلاف آخر، يحمل الصورة الجميلة الداعية إلى السلام والتقدم العلمي، و لكنه يخفي وجهاً آخر، ويضمر نوايا شيطانية هادفة إلى إماتة العقل وتحريف القيم والمثل، والمفاهيم الإسلامية، حتى تصف أجهزة الإعلام اليوم عملية الجهاد بالإرهاب كما في فلسطين!! وقتل الأبرياء بالمقاومة كما في العراق!!

إننا اليوم نعاني من هجمة إعلامية شرسة على قيم الدين، يتبناها صليبيو هذا العصر، فهم يزرعون الرعب والظلم في أرجاء المعمورة قاهرين للشعوب، مستعبدين لهم، سالبين لحقوقهم... ومع ذلك يدَّعون أنهم يريدون السلام، فهذه دعوات بحاجة إلى تبصر ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة للعقل وإتباع ما يرمي إليه، وأن لا نخدع بما يرتله إعلام اليوم الجاهلي5.