الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القدوة الحسنة

أساليب التأثير على الأفراد كثيرة، إلاَّ أنَّ القدوة التي تتحرَّك أمامهم تبقى الأشد والأمضى، وهي الَّتي تترك أثرها: أفراد، وجماعات... بل أجيالاً تأتي من بعد.

فالنموذج الَّذي نعيش معه هو الأكثر تأثيراً من مُجْمل الكلمات والنظريات والخُطب والتوجيهات... عندما نرى تطبيقاً حي، ومثالاً صادق.‏

بل إنَّ مختلف الأساليب والطرق، إذا أُتْبِعت بأعمال مخالفة لِما تدَّعي ولم تتجسَّد بقدوة، كانت النتائج عكسيةً وتُؤدِّي لخلاف المطلوب.‏

وليس من المبالغة القول أنَّ الإسلام اعتبر القدوة الحسنة هي العمدة في تربية المسلمين، في قوله جلَّ جلاله:‏ ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ... 1.‏

وبات معلوماً أنَّ أكثر التربية نجاحاً: القدوة الحسنة.‏

قال أمير المؤمنين عليٌ (ع):‏ «وَلْيَكُنْ تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومُعلِّم نفسه ومُؤدِّبُها أحقُّ بالإجلال من مُعلِّم النَّاس ومؤدِّبهم».‏

المعلِّم القدوة

إنَّ أدقَّ وأخطر ما يُواجه المدارس والمؤسسات التربوية الإسلامية، أن لا يكون المعلِّم قدوة لطلابه في سائر أمورهم، بعد أن لم تُنْشء هذه الصروح إلاَّ لهداية النَّاس... وليس وراء ذلك هدف آخر.‏

إنَّ المعلِّم في هذه المؤسسات إن لم يتمثَّل الإسلامُ به تمام، في سائر حركاته وسكناته، وفي أهدافه وتطلُّعاته، وفي تعامله وأسلوب عيشه... إنْ لم يكن ذلك، تَفُقُد عندئذٍ المؤسسات التربوية الإسلامية أهم هدف لوجوده، لتُصبح نسخة عن الآخرين الَّذين تصعب منافستهم على الغالب... تماماً كسائر المؤسسات الإسلامية (الإعلامية، السياسية، الاجتماعية...) مع سائر المؤسسات الأخرى.‏

إنَّ الأمة، وأهالي الطلاب، والمجتمع ككل، ينتظر من المؤسسة الإسلامية ما لا ينتظره من الآخرين، ولذلك يتعامل معه، ويأمل منه، ويتوجَّه إليه... بل يسعى من بلدٍ إلى بلد مضحياً غالباً باستقراره المعيشي والاقتصادي سعياً وراء النموذج الصالح لأبنائه، استيجاباً للصورة الَّتي استقرت في ذهنه منه أنَّ كل فردٍ من الهيئة التعليمية يُمثِّل الأسوة لأبنائه والمصدر للواجبات والمستحبات وهجران المحرَّمات، والتحلِّي بالأخلاق الإسلامية في التواضع والصدق وكظم الغيظ... ولذا نرى بعض ردود الفعل العنيفة الصادقة عندما يُواجه ما لم ينتظر!‏

فالمعلم في الإسلام دوره تربوي بامتياز وليس مجرد إلقاء معلومات وكفى... ليكون هادياً لهذه النُّفوس البشرية الَّتي وُضعت بين يديه، وهذا من فضل الله تعالى عليه يستحق شكر، ليسير بها منقادةً على هدي النَّبي الخاتم (ص) فتفوز بالدُّنيا والآخرة... أمَّا خلاف ذلك فهو وبالٌ على صاحبه ومَنْ يتأثَّر به لأن ﴿ ... أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... 2.‏

أكثر أساليب التربية نجاحاً

من أفضل طرق التهذيب، القدوةُ الَّتي تتعلَّم منه... وأن تكون كذلك في مسلكك وفعلك وقولك وعبادتك وأخلاقك... فتفعل ما تقول وتُعلِّم.‏

هكذا كان مولانا رسولُ الله (ص) في آدابه وسُننه وسائر تفاصيل حياته... وهكذا نكون لِمَنْ نُعلِّمه ونلتقي به يومي... في صلاتنا وعبادتنا وعفونا وتسامحنا وبِشْرنا وتضحيتنا وزهدنا وتقوانا وسعةِ صدورنا وصدق لساننا والعدل في ما بينن.‏

أمَّا مَنْ فقد ذلك، لا سمح الله تعالى، فهو يتوهَّم أنَّه يقوم بعملية تهذيبٍ وتربية!‏

ثَبُت أنَّ مَنْ يُعاشر الشجعان وأهل الكرم والعطاء والمؤدَّبين أو الرياضيين أو المزارعين أو المرابطين أو الأدباء... يكون على الغالب مثلهم.‏

كذلك مَنْ يُعاشر الجبناء أو البخلاء أو كثيري الكلام أو المخنَّثين أو المبالغين في الاهتمام بمظهرهم وجمالهم... يكون على الغالب مثلهم، إلاَّ ما رحم ربي سبحانه.‏

فمزاملة مَنْ يقرأ القرآن كل يوم، يستوحش لو ترك قراءته ليومين... بينما البعض يهجره شهر، ولا يلتفت.‏

كذلك مخالطة مَنْ يُصلِّي أول الوقت، يضطرب لو أخَّر صلاته ساعة، ولو بسبب، بينما البعض يُؤخِّر يومياً لساعات، ولا يرفُّ له جفن.‏

ومرافقة مَنْ يستيقظ لصلاة الصبح، يشعر بذنب لو تركها مرَّة كل مدَّة، بينما البعض لا يُصلِّيها أداءً إلاَّ نادر، وكأنَّ قضاء صلاة الصبح هو المتَّبع عنده، فإذا استيقظ، قام لعاداته أو شرابه المفضَّل قبل قضاءِ صلاته!‏

من السهل «تأليف» كتاب في التربية، وحشده بالنظريات، وتزيينه بالإحصاءات والمصطلحات السائدة أو المستوردة، والوصول إلى الأهداف بسرعة قياسية... لكنْ هذا لا يكفي إنْ لم يتحوَّل إلى سلوك وتصرفات وأخلاق تُعبِّر عن المؤلَّف أو المحاضرة... وإلاَّ فهو طبيب يُداوي النَّاس بدواء لا يُؤمن به... ويصدق عليه قولُ الله تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ 3.‏

وأجابت إحدى زوجات رسول الله (ص) عندما سُئلت عن خُلقه، قالت: «كان خُلُقُه القرآن» يعني كان ترجماناً وتعبيراً عمَّا في كتاب الله عزَّ وجلَّ.‏

حقُّ طلابنا

إنَّ من حق طلابنا علينا أن نكون، ونعمل ليكون لهم:‏

قدوةٌ في المنزل: الأم في دينها وصلاتها وخُلُقها وسلوكها وحشمتها ولسانها وورعها وحيائها وعفَّتها وإخلاصها وأدبه... بعيداً عن الكِبْر والغرور والتفاخر بالملابس والسهرات والأموال والزينة والمشتريات والمقتنيات، وبعيداً عن الغنج والدلال أمام غير المحارم.‏

والأب في احترامه لشعائر الدِّين وأداء الفرائض ورفاق الخير ونُصرة الحق وترك المحرَّمات واحترام الآخرين والحرص على الوقت والامتناع عن مال الحرام والجديَّة في الحياة والثبات والسكينة عند الملمَّات... قيل:‏

«لِيَكُن أولُ إصلاحك لولدك، إصلاحُك لنفسك... فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت».‏

قدوة في المدرسة: في كون المعلِّم مصلحاً لنفسه، قدوة، صاحب رسالة وهدف، خادماً للإسلام، يحمل همَّه وقضيَّته ومشروعه... لديه الحد الأدنى من الثقافة الإسلامية في السيرة والأخلاق والفقه والقرآن، لا أقل من ما هو مكلَّف به كأضعف تقدير...‏

ومن الأمور الهامة للمعلِّم المسلم، أن يُميِّز الهفوات والمخاطر في المناهج، وما يتسلَّل إليها من مفاهيم غير إسلامية.‏

ومن الخطر الاستعانة بمدرِّسين ومدرِّسات من غير الوسط الإسلامي، اتِّكالاً على شهادتهم وخبرتهم ولسانهم... فما يأخذونه من دين أجيالنا أعظم ممَّا يُعطونه لدنياهم.‏

قدوة في البيئة المحيطة: وهي وإن كانت فائقة الصعوبة في ظل الأجواء السائدة والظروف الضاغطة... إلاَّ أنَّ هذا البلاء لا ينبغي الاستسلام أمامه، بل نحرص على مصاحبة الأخيار وأهلِ الخُلُق والأدب، والصالح من العلماء، ومجانبة أماكن الفساد، والقيام بالرحلات للطبيعة... نحرص على ذلك، قدر الإمكان والله المستعان.‏

وفي نصِّ أمير المؤمنين (ع) لابنه الحسن:‏ «ثم الصِقْ بذوي المرؤات والأحساب، وأهلِ البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم أهلِ النَّجدة والشجاعة، والسَّخاء والسَّماحة...».‏

المشكلة المحيطة

البحث يطول... وله تفريعاتٌ شتَّى، إلاَّ أنَّ مشكلتنا التربوية الكبرى يُمكن ترميزها:‏

أ ـ في عدم وجود القدوة.‏

ب ـ في جهل الموجود منها بكثير من مقوِّماته.‏

ج ـ في وفِرْة القدوة المقابلة المفسِدة، والمُلْهية، والصارفة4.‏