الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القيادة ، حكمة و رحمة

من أهم مميزات القيادة أن تكون لديها القدرة الكافية على التعامل مع الأتباع المؤمنين بها بالطريقة التي تضمن ولاءهم في كل الحالات، اليسيرة منها والعسيرة على حد سواء، وأن يكون ذلك الولاء نابعاً من الإرادة الإختيارية الحرة للأتباع التي تجعلهم في موقع القادر على العطاء لكل ما يمكن بشوق ورغبة واندفاع.
وهذه الميزة المهمة لمنصب القيادة هي التي تحققت بأوضح صورها وأجلى مصاديقها بأئمة أهل البيت عليهم السلام الذين سكنت محبتهم في القلوب فاستوطنتها إلى الحد الذي لو فتحت قلب التابع لهم لم تجد إلا أسماءهم محفورة ومجبولة بالدم الذي يخفق منه.
من هنا، ننتقل إلى ليلة العاشر من المحرم، وهي الليلة الأخيرة التي كانت قد بقيت للحسين عليه السلام وأصحابه في هذه الحياة الدنيا، ولنحاول أن نرسم الصورة الجمالية التقريبية لتلك الليلة من خلال مجرياتها.
تذكر روايات السيرة الحسينية أن تلك الليلة كانت مليئة بالحركة على كل المستويات، فبعض يعبد الله دعاءً وصلاةً وقراءة للقرآن، وبعض يتفقد المعسكر حتى يأمن مكر وغدر جيش النفاق الأموي، وبعض يحاول أن يطمئن العقيلة زينب عليها السلام عندما أحسوا بقلقها من وفاء الأصحاب عبر مسيرة تاريخية نادرة قام بها أولئك لكي تدخل السكينة إلى ذلك القلب المؤمن الهادئ.
إلا أن تلك الليلة قد شهدت موقفاً رسالياً أبوياً فيه من الحكمة، وفيه من رحمة القائد بالأتباع الشيء العظيم، ذلك الموقف هو الذي وقفه الإمام الحسين عليه السلام، عندما طلب من أصحابه أن ينصرفوا في جوف الليل لينقذوا أنفسهم من الموت المحتم، باعتبار أنهم معرضون للقتل بسبب وقوفهم إلى جانب الإمام عليه السلام، فإذا انصرفوا عنه لن يلحق بهم الأعداء، لأنهم يكونون قد نالوا مرامهم وحصلوا على مبتغاهم وهو قتل الحسين عليه السلام. إن مثل ذلك الموقف من الإمام الحسين عليه السلام وهو في تلك اللحظات الحرجة والصعبة يمثّل قمة التفاعل وعظمة الإحساس بالمسؤولية تجاه من هو مسؤول عنهم، فأي قائد يعيش ذلك الظرف العصيب الذي يحتاج فيه إلى جهد المرأة والطفل فضلاً عن الرجل، يسمح لأتباعه بأن يتحللوا من عهدهم وبيعتهم، ويطلب إليهم التسلل تحت جنح الظلام للنجاة؟ ولقد تركت لنا السيرة ذلك النص الخالد عن الإمام الحسين عليه السلام الذي ورد فيه ألا وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم في ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي، فإن القوم لا يطلبون غيري.

أليس من عادة القيادة أن تستدعي في أوقات الشدة والضعف أمام الأعداء كل من يمكن استدعاؤه لتقوى بهم وتتترس لمواجهة ذلك الوضع الخطير؟ فما بال الحسين عليه السلام يعمل عكس القاعدة المتعارفة هذه؟ هذا ما لن نجد تفسيراً له إلا عظمة تلك النفس المتعالية على الخوف، الواثقة بربها، والمطمئنة إلى مصيرها، والرؤوفة والغنية بالتضحية بأتباع تعلم أنه يمكن أن ينجوا من نفس المصير عبر الهرب في جوف الليل حيث لا رقيب يراقب ولا عين تشاهد ما يجري، وما أن يطلع الصباح حتى يكونوا بعيدين إلى الحد الذي لا تصلهم جحافل الأعداء المتربصين بهم.

وتكتمل الصورة البهية لليلة العاشربموقف الأصحاب الأوفياء، الذين أدركوا غرض إمامهم وسيدهم، فلم يرضوا بتركه وحيداً في مواجهة تلك القوى العاتية الظالمة. لقد أبوا الإنصراف عنه، وأصروا على البقاء معه، وكأن الواحد منهم هو الجميع، والجميع هم الواحد، في التصميم الراسخ والعزم الثابت، على مقابلة الوفاء والرحمة من القائد بهم، بوفاء مماثل، وبموقف عظيم لا نستطيع أن نعبر عنه بكلمات، لأنها تصغر أمامه ولا ترقى إليه في شفافيته وعفويته وطهارته وقوته المستمدة من قوة القيادة وحكمتها وأسلوبها الرائع في الإدارة والنظم.

إن تلك الليلة بما حوته من تلك المواقف التي تهز الواجدان وتحرك المشاعر وتوقظ الهمم هي التي يضعها مجاهدو المقاومة الإسلامية نصب أعينهم حيث هم في مواقع الشرف والفضيلة، في الثغور التي يرابطون فيها ضد أعداء الله، فيحيون لياليهم بالعبادة والتهجد استعداداً لانبلاج الصبح وخوض المعارك المشرفة في سبيل الوصول إلى الله بشهادة حمراء تؤهلهم لأن يكونوا مع الركب الحسيني المظفر الخالد. 1

  • 1. المصدر: موقع سماحة الشيخ محمد توفيق المقداد.