حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
المواطنة و الثقافة الوطنية
ثمة علاقة في المضمون بين مفهومي المواطن والمواطنة. حيث إننا لا يمكن أن نحقق مواطنة بمعنى المشاركة وتحمل المسؤولية النوعية في الشؤون العامة، بدون مواطن يشعر بعمق بحقوقه وواجباته في الفضاء الاجتماعي والوطني. فلا مواطنة بدون مواطن، ولا مواطن إلا بمشاركة حقيقية في شؤون الوطن على مختلف المستويات. لذلك فإن بوابة انجاز حقيقة المواطنة في المجالين العربي والإسلامي، هي العمل على إنجاز مفهوم المواطن الذي يحررنا على المستويين الثقافي والاجتماعي من حالة السديم البشري الذي لا شأن له في أمور حياته الكبرى، ولا يتدخل في بناء حاضره وصياغة مستقبله.
وبدون الدخول في جدل لغوي أو سجالات أيدلوجية وسياسية حول مصطلح (المواطن) ومدى توافره في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي، فإننا نعتقد أن المضمون السياسي والحقوقي الذي يحتضنه هذا المفهوم، هو ذات المضامين التي يقرها الإسلام للأفراد وآحاد المسلمين. فالإنسان المسلم في التجربة السياسية الإسلامية بحقوقه ومكاسبه وواجباته ومسؤولياته هو ما نصطلح عليه اليوم مفهوم المواطن. فالمضمون والحقائق الكبرى واحدة بين هذين المفهومين.
لذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية تؤكد على حقوق الإنسان المسلم وضرورة صيانة حقوقه واحترام خصوصياته، وأنه على علاقة عضوية بين جميع أفراد المجتمع.
فقد جاء في الحديث الشريف: (يا أيها الناس إن أباكم واحد وأمكم واحدة، كلكم لآدم وآدم من تراب. لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).. وأن (المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم).. فهذه الحقوق التي تؤكد عليها النصوص الإسلامية، هي ذاتها الحقوق التي يتضمنها مفهوم المواطنة المعاصر.
وبمقدار ما ينتقص من هذه يبرز الخلل السياسي والاجتماعي. فحينما يتطابق المثال والواقع على هذا الصعيد، يكون الاستقرار السياسي الحقيقي، وتنتهي كل موجبات الاهتزاز والانحراف. أما حينما يتفارق الواقع مع المثال وتتسع الفجوة بينهما، فإنه بمقدار هذه الفجوة، تبرز المشكلات وتتضخم التوترات والمآزق. من هنا فإن الاستقرار السياسي والأمن الشامل، لا يتحققان على الصعيد الواقعي، إلا بحصول المواطن على كل حقوقه، وبإمكانه الفعلي في ممارسة دوره الكامل في الحياة العامة. فحيثما كانت هناك ديمقراطية حقيقية ومشاركة سياسية نوعية، كان هناك الأمن والاستقرار. وبغياب الديمقراطية والمشاركة السياسية، تغيب الكثير من العوامل التي تساهم بشكل مباشر في الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي.. وعليه فإن الإصلاح السياسي المتواصل، الذي يطرد معوقات التقدم ويزيل كوابح التطور ويحفز جميع شرائح المجتمع للمشاركة الفعالة، هو الضمان الحقيقي للأمن والاستقرار.
واستقرار المجتمعات المتعددة الأيدلوجيات والثقافات، لا يتحقق إلا من خلال مواطنة متساوية، تسمح للجميع وبدون استثناء المشاركة الحقيقية في الحياة السياسية والعامة. لذلك فإن مفهوم المواطنة لا يخص أو لا يتوجه فقط إلى الأقلية في مقابل الأكثرية، بل هو يستوعب الجميع، فهو يحافظ على حقوق الأقلية والأكثرية في نطاق مفهوم المواطنة الجامعة.
وذلك لأن المواطنة في أحد تجلياتها تعني: المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن المعطيات الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية. فكل مواطن له كامل الحقوق وعليه كل الواجبات.
وعلى ضوء هذا بإمكاننا القول: إن المواطنة بقيمها وحقوقها، وواجباتها ومسؤولياتها، هي الحجر الأساس لتطوير النظام السياسي وصيانة حقوق الإنسان وتجديد الحياة السياسية والثقافية وتنمية مقومات السلم الاجتماعي وعوامله وتعزيز الوحدة الداخلية.
والمواطنة وفق هذا المنظور لا تبنى إلا في بيئة سياسية ديمقراطية - قانونية، تتجاوز كل أشكال الاستفراد بالسلطة والقرار أو الاستهتار بقدرات المواطنين وإمكاناتهم العقلية والعملية.
والقاعدة العريضة التي تحتضن مفهوم المواطنة في الفضاء السياسي والاجتماعي، هي قاعدة العدالة والمساواة. فكلما التزم المجتمع بهذه القيم ومتطلباتها، أدى ذلك على المستوى العملي إلى بروز حقائق إيجابية في طبيعة العلاقة التي تربط بين مكونات الوطن الواحد وتعبيراته.
فمقتضى العدالة الاعتراف بوجود التعددية في الفضاء الاجتماعي والسياسي وتنظيم العلاقة بين هذه التعدديات على أسس المواطنة المتساوية.
فالمواطنة الحقيقية لا تتعالى على حقائق التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولا تمارس تزييفاً للواقع، وإنما تتعامل مع هذا الواقع من منطلق حقائقه الثابتة، وتعمل على فتح المجال للحرية والانفتاح والتعددية في الفضاء الوطني. فالأمن والاستقرار والتحديث، كل ذلك مرهون إلى حد بعيد إلى وجود مواطنة متساوية مصانة بنظام وقانون يحول دون التعدي على مقتضيات المواطنة الواحدة المتساوية ومتطلباتها.
والثقافة الوطنية تتشكل في خطوطها الرئيسة وآفاقها واولوياتها من الثوابت وطبيعة التفاعل والمثاقفة التي تكون بين مجموع التعدديات المتوافرة في الفضاء الوطني. وعلى هذا فإن الثقافة الوطنية هي التي تكون تعبيراً عن حالة التنوع والتعدد الموجودة في الوطن. فليست ثقافة فئة أو مجموعة، وإنما هي ثقافة الوطن بكل تنوعاته وأطيافه وتعبيراته. وبكون دور الدولة ومؤسساتها في هذا الإطار هو توفير المناخ القانوني والاجتماعي وبناء الأطر والمؤسسات القادرة على احتضان جميع التعبيرات لكي تشارك في صياغة مفهوم الثقافة الوطنية وإثراء مضامينها بقيم المجتمع والعصر.
"فالمعنى البدهي لتعبير الثقافة الوطنية يأتي من كونه تعبيراً عن حقيقة واقعة بالفعل، أي عن حقيقة اجتماعية - تاريخية قائمة وشاهدة.. بمعنى أنه ما من مجتمع له خصائص المجتمع التاريخية إلا وهو ينتج ثقافته الوطنية، اي ثقافته المرتبطة والمتأثرة بمجمل خصائصه التاريخية تلك. فهذه مسألة قد لا يكون فيها خلاف لفرط وضوحها. أما الإشكاليات التي يتوقف على حلها تحديد المفهوم العلمي للثقافة الوطنية. فهي آتية من التشابك والتداخل بين جملة من العلاقات الموضوعية التي يتضمنها هذا التعبير في ما يتضمنه من الدلالات.
إن هذه العلاقات تؤلف مركباً متشابكاً معقداً، ومتنامياً أيضاً بقدر تنامي الروابط في عصرنا، بين الثقافة وسائر مجالات النشاط البشري الاجتماعي دون استثناء. وذلك بناء على أن الثقافة ليست هي بذاتها تتحرك وتنمو وتتطور، بل بما هي نشاط اجتماعي، أي بما هي مرتبطة عضوياً وديناميكياً بكل قوى الحياة التي تنتج تاريخ نمو المجتمع وتطوره المادي والروحي1.
وهذا الارتباط والتفاعل الحيوي بين الثقافة والحياة، يتواصل مع الحراك الاجتماعي والثقافي والعلمي والسياسي المتوافر خارج نطاق الوطن. إذ إننا اليوم وفي ظل ثورة وتقنيات الإعلام والتواصل، لا يمكن أن ننفصل عن نشاط المجتمعات والأمم المنتجة لتاريخ التطور والتقدم المعاصر. لذلك فإن التفاعل الدينامي بين الثقافة والحياة، يتجاوز حدود المجتمع الخاص ويتفاعل ويتواصل من نتاج الآخرين وابداعاتهم في عالم النشاط الإنساني - الاجتماعي.
وتصاب بالتصحر والضمور تلك الثقافة الوطنية التي تقبل بخيار العزلة، وتمنع عن نفسها نهر التواصل الإنساني والحضاري.
فالتفاعل والحيوية اللذان تبديهما اليوم بعض الثقافات الوطنية تجاه الثقافات الإنسانية الأخرى، هما اللذان يساهمان في حمل عناصر الحيوية والخصوبة من تجارب تلك الثقافات والمجتمعات إلى ثقافاتنا ومجتمعاتنا.
فالثقافة الوطنية المطلوبة اليوم، هي التي لا تؤسس للعزلة والخروج من حركة التاريخ، بل هي التي تؤسس للتواصل والإبداع والإنتاج. فالمطلوب هو تلك الثقافة الحية المتواصلة بحيوية مع كل التجارب والإبداعات الإنسانية.
وهذا لا يتأتى على الصعيد العملي إلا بمواطنة متساوية، تتجاوز كل عقد الانفتاح والتواصل مع المختلف والمغاير في الدائرة الواحدة.
فالمواطنة بما تشكل من قيم العدالة والمساواة وسلطة القانون، هي التي توفر المناخ والبيئة المناسبين لانطلاق المجتمع الخاص بكل مكوناته للانفتاح والتواصل الفعال والرشيد مع إبداعات الحضارة ومكاسب العصر.
ومن هنا تتضح طبيعة العلاقة بين مفهومي المواطنة والثقافة الوطنية. فثراء الثقافة الوطنية مرهون إلى حد بعيد على توافر حقائق المواطنة في الفضاء الاجتماعي.
فالثقافة الوطنية تستمد حيويتها وفعاليتها الداخلية من حقائق المواطنة.
كما أن الثقافة الوطنية، هي التي تمنح المواطنة المدى الحيوي الذي تتحرك فيه على المستويات كافة.
فإذا أردنا ثقافة وطنية وحدوية ومتواصلة مع العصر والحضارة، فعلينا تأسيس مفهوم المواطنة في واقعنا الاجتماعي والوطني.
فالعلاقة جد عميقة بين هذين المفهومين، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال التخلي عن حقائقهما ومتطلباتهما. وذلك لأن التحام مفهوم المواطنة بحقائق الثقافة الوطنية المستوعبة لكل العناصر والتعبيرات، هو الذي يمنح المجتمع القدرة على التميز ومواجهة تحديات اللحظة التاريخية..
فالعلاقة بين مفهوم المواطنة ومفهوم الثقافة الوطنية، هي علاقة مشاركة إبداعية في خلق فضاء وطني جديد متجدد، يتجنب العزلة والانكفاء، ويحارب التعصب والشوفينية، ويؤسس للاندماج والوحدة على قاعدة الديمقراطية واحترام التعدد وصيانة حقوق الإنسان2.