مجموع الأصوات: 13
نشر قبل 5 أشهر
القراءات: 590

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تنزيه الانبياء كافة عن الصغائر والكبائر

(واعلم) ان جميع ما تنزه الانبياء عليهم السلام عنه ، ونمنع من وقوعه منهم من يستند إلى دلالة العلم المعجز إما بنفسه أو بواسطة ، وتفسير هذه الجملة ، ان العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدعي النبوة والرسالة ، وجاريا مجرى قوله تعالى له : صدقت في انك رسولي ومؤد عني. فلابد من ان يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على الله سبحانه في ما يؤديه عنه ، لانه تعالى لا يجوز أن يصدق الكذاب ، لان تصديق الكذاب قبيح ، الجبائي : هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي يكنى بأبي علي وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره ، وإليه تنسب الطائفة الجبائية. كما قلنا ان الكذب قبيح ، فأما الكذب في غير ما يؤديه عن الله وسائر الكبائر فانما دل المعجز على نفيها ، من حيث كان دالا على وجوب اتباع الرسول وتصديقه فيما يؤديه ، وقبوله منه ، لان الغرض في بعثة الانبياء عليهم السلام ، تصديقهم بالاعلام ، المعجز هو أن يمتثل ما يأتون به ، فما قدح في الامتثال والقبول واثر فيهما ، يجب أن يمنع المعجز منه ، فلهذا قلنا : انه يدل على نفي الكذب والكبائر عنهم في غير ما يؤدونه بواسطة ، وفي الاول يدل بنفسه.

فإن قيل : لم يبق إلا أن تدلوا على ان تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والامتثال ، قلنا : لا شبهة في أن من نجوز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه الاقدام على الذنوب ، لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئا من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا ان وقوع الكبائر منفر عن القبول ، والمرجع فيما ينفر ومالا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالادلة والقياس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وأنه من أقوى ما ينفر عن قبول القول ، فان حظ الكبائر في هذا الباب لم يزد على حد السخف والمجون والخلاعة ولم ينقص منه.

فإن قيل : أو ليس قد جوز كثير من الناس على الانبياء عليهم السلام الكبائر مع انهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرايع ، وهذا ينقض قولكم ان الكبائر منفرة. قلنا : هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه ، لانا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق ، وان لا يقع امتثال الامر جملة. وإنما أردنا ما فسرناه من ان سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه ، وإنا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول. كما إنا مع الامان من الكبائر نكون أقرب إلى قبول القول. وقد يقرب من الشئ ما لا يحصل الشئ عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده ، ألا ترى أن عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجره وتبرمه منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ، ولا يخرجه من ان يكون منفرا ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من ان يكون مقربا ، فدل على ان المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

فان قيل : فهذا يقتضي ان الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين انها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير. قلنا : الطريقة في الامرين واحدة ، لانا نعلم ان من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الاحوال وان تاب منهما ، لا يكون حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذنوب ، وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا ، وفي نفسونا كحال من لم نعهد منه إلا النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيرا ما يعير الناس. وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسكن إلى قبول قوله ، كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الاحوال ولا على وجه من الوجوه. ولهذا من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيبا ونقصا وقادحا ومؤثرا. وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة ، وناقصا عن رتبته في باب التنفير ، وجب ان لا يكون فيه شئ من التنفير ، لان الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان احدهما أقوى من صاحبه. ألا ترى ان كثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماك فيهما منفر لا محالة ، وان القليل من السخف الذي لا يقع إلا في الاحيان والاوقات المتباعدة منفر أيضا ، وان فارق الاول في قوة النفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الاول من ان يكون منفرا في نفسه.

فإن قيل : فمن أين قلتم ان الصغائر لا تجوز على الانبياء في حال النبوة وقبلها؟ قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمل ، لانا كما نعلم ان من يجوز كونه فاعلا لكبيرة متقدمة قد تاب منها واقلع عنها ولم يبق معه شئ من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك. وكذلك نعلم ان من يجوز عليه الصغائر من الانبياء (ع) أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوته أو قبلها ، وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوز عليه فعل شئ منها. فاما الاعتذار في تجويز الصغائر بأن العقاب والذم عنها ساقطان فليس بشئ ، لانه لا معتبر في باب التنفير بالذم والعقاب حتى يكون التنفير واقعا عليهما ، ألا ترى ان كثيرا من المباحات منفر ولا ذم عليه ولا عقاب وكثيرا من الخلق والهيئات منفر وهو خارج عن باب الذم. على ان هذا القول يوجب على قائله تجويز الكبائر عليهم قبل البعثة ، لان التوبة والاقلاع قد ازالا الذم والعقاب اللذين يقف التنفير على هذا القول عليهما.

فإن قيل : كيف تنفر الصغاير وإنما حظها تقليل الثواب وتنقيصه؟ لانها بكونها صغائر قد خرجت من اقتضاء الذم والعقاب ، ومعلوم أن قلة الثواب غير منفرة. ألا ترون ان كثيرا من الانبياء عليهم السلام قد يتركون كثيرا من النوافل مما لو فعلوه لاستحقوا كثيرا من الثواب ، ولا يكون ذلك منفرا عنهم. قلنا : ان الصغاير لم تكن منفرة من حيث قلة الثواب معها ، بل انما كانت كذلك من حيث كانت قبائح ومعاصي لله تعالى ، وقد بينا أن الملجأ في باب المنفر إلى العادة والشاهد. وقد دللنا على انهما يقتضيان بتنفير جميع الذنوب والقبائح على الوجه الذي بيناه. وبعد : فإن الصغاير في هذا الباب بخلاف الامتناع من النوافل ، لانها تنقص ثوابا مستحقا ثابتا. وترك النوافل ليس كذلك. وفرق واضح في العادة بين الانحطاط عن رتبة ثبتت واستحقت ، وبين قوتها. وان لا تكون حاصلة جملة. ألا ترى ان من ولى ولاية جليلة وارتقى إلى رتبة عالية ، يؤثر في حالة العزل عن تلك الولاية والهبوط عن تلك الرتبة ، ولا يكون حاله هذه كحاله لو لم ينل تلك الولاية ولا ارتقى إلى تلك الرتبة. وهذا الكلام الذي ذكرناه يبطل قول من جوز على الانبياء عليهم السلام الصغائر على اختلاف مذاهبهم في تجويز ذلك عليهم على سبيل العمد أو التأويل. إلا ان أبا علي الجبائي ومن وافقه في قوله ان ذنوب الانبياء لا تكون عمدا ، وإنما يقدمون عليها تأويلا ، ويمثل لذلك بقصة آدم (ع) ، فإنه نهي عن جنس الشجرة دون عينها فتأول فظن ان النهي يتناول العين ، فلم يقدم على المعصية مع العلم بأنها معصية قد ناقض ، فإنه إنما ذهب إلى هذا المذهب تنزيها للانبياء عليهم السلام ، واعتقادا ان تعمد المعصية مع العلم يوجب كبرها ، فنزهه عن معصية وأضاف إليه معصيتين ، لانه مخطئ على مذهبه في الاعراض عن تأمل مقتضى النهي ، وهل يتناول الجنس أو العين لان ذلك واجب عليه ومخطئ في التناول من الشجرة ، وهاتان معصيتان. وبعد : فإن تعمد المعصية ليس يجب ان يكون مقتضيا لكبرها لا محالة ، لانها لا يمتنع أن يكون مع التعمد لصاحبها من الخوف والوجل ما يوجب صغرها ، ويمنع من كبرها. وليس له ان يقول ان النظر فيما كلفه من الامتناع من الجنس أو النوع لم يكن واجبا عليه ، لان ذلك ان لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلفا ، وكيف يكون تناوله معصية؟ ولابد على هذا من ان يخطر الله تعالى بباله ما يقتضي وجوب النظر في ذلك عليه. وإذا وجب عليه النظر ولم يفعله فقد تعمد الاخلال بالواجب ، ولا فرق في باب التنفير بين الاقدام على المعصية والاخلال بالواجب. فإذا جاز عنده ان يتعمد الاخلال بالواجب ولا يكون منه كبيرا ، جاز ان يتعمد منه نفس التناول ولا يكون منه كبيرا. فأما ما حكيناه عن النظام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما ، من ان ذنوب الانبياء عليهم السلام تقع منهم على سبيل السهو والغفلة ، وأنهم مع ذلك مؤاخذون بها ، فليس بشئ ، لان السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من ان يكون ذنبا مؤاخذا به ، ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم. وحصول السهو في أنه مؤثر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والادلة ، فلو جاز ان يخالف حال الانبياء في صحة تكليفهم مع السهو ، جاز ان يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه وهذا واضح ، فأما الطريق الذي به يعلم ان الائمة عليهم السلام لا يجوز عليهم الكبائر في حال الامامة ، فهو أن الامام انما احتيج إليه لجهة معلومة ، وهي ان يكون المكلفون عند وجوده ابعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب على ما دللنا عليه في غير موضع ، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة. فيه. وموجبة وجود امام يكون اماما له ، والكلام في امامته كالكلام فيه ، وهذا يؤدي إلى وجود ما لا نهاية له من الائمة وهو باطل أو الانتهاء إلى امام معصوم وهو المطلوب. ومما يدل ايضا على ان الكبائر لا تجوز عليهم ، ان قولهم قد ثبت أنه حجة في الشرع كقول الانبياء (ع) ، بل يجوز ان ينتهي الحال إلى أن الحق لا يعرف إلا من جهتهم ، ولا يكون الطريق إليه إلا من أقوالهم على ما بيناه في مواضع كثيرة ، وإذا ثبت هذا جملة جروا مجرى الانبياء (ع) فيما يجوز عليهم ومالا يجوز ، فإذا كنا قد بينا ان الكبائر والصغائر لا يجوزان على الانبياء (ع) قبل النبوة ولا بعدها ، لما في ذلك من التنفير عن قبول اقوالهم ، ولما في تنزيههم عن ذلك من السكون إليهم ، فكذلك يجب أن يكون الائمة عليهم السلام منزهين عن الكبائر والصغائر قبل الامامة وبعدها ، لان الحال واحدة. وإذ قد قدمنا ما أردنا تقديمه في هذا الباب فنحن نبتدئ بذكر الكلام على ما تعلقوا به من جواز الكبائر على الانبياء (ع) من الكتاب 1.

 

 

  • 1. المصدر: كتاب تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى قدس سره.