مجموع الأصوات: 143
نشر قبل 12 سنة
القراءات: 12039

حقول مرتبطة: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

دم الشهيد

عندما يكون الدم رخيصاً، وإراقته أمراً يسيراً، فعلى الأمة السلام. فحين سالت دماءٌ زاكياتٌ في أرض كربلاء المقدّسة بدأت الأمة مسيرة التخلف إلى أن وصل بها الحال إلى ما هو عليه واقعها اليوم. والعجب كل العجب أن تجد العالم العربي اليوم قد تلوّنت صفحاته بالدماء، وما يزيد الأمر غرابةً وتعجباً أن تُراق هذه الدماء من قبل جهاتٍ في داخل الوطن العربي، وليست من خارجه، فبعد أن استيقظ العالم الغربي لخطورة الحروب وإراقة الدماء فيما بينهم، فاستبدلوا تلك الحقبة بمزيد من الجهد في التنمية وتطوير الكفاءات الداخلية وبناء الدولة الديمقراطية، قام العالم العربي باستيراد تلك البضاعة منتهية الصلاحية.

والشهادة شعارٌ ظهر مع بزوغ فجر الإسلام، فقد قال رسول الله : «قام الإسلام على ثلاث: مال خديجة، وسيف علي، وأخلاق محمد»، وسيف علي بن أبي طالب هو رمز الجهاد، الذي تتحقق به الشهادة. وهكذا توسّمت الشهادة قيمةً عليا من القيم الإسلامية، وهنا ينبغي أن يُنظر إليها بمنظور خاص، فوق مستوى ما يُنظر لسواها من القيم الإسلامية العليا.

والشهادة أمنيةٌ يتمنّاها كل مؤمن، بل ويُردد ذكرها كلّ صباح، ففي دعاء العهد، نقرأ هذه الفقرة: «اَللّـهُمَّ اجْعَلْني مِنْ أَنْصارِهِ وَأَعْوانِهِ وَالذّابّينَ عَنْهُ وَالْمُسارِعينَ إِلَيْهِ في قَضاءِ حَوائِجِهِ، وَالْمُمْتَثِلينَ لأَوامِرِهِ وَالُمحامينَ عَنْهُ، وَالسّابِقينَ إِلى إِرادَتِهِ وَالْمُسْتَشْهَدينَ بَيْنَ يَدَيْهِ».

وفي معادلة الصراع تظهر جهتان: جهةٌ تتطلع للشهادة، وأخرى تتصدّى لها، وفي كربلاء المقدّسة سنة 61هـ دار صراعٌ بين هاتين الجهتين، فالحسين وأهل بيته وأصحابه كانوا يمثّلون تلك الجهة التي تعشق الشهادة وتبذل نفسها فداءً لولي الله الأعظم، وفي المقابل كانت هناك جهة تصدّت لها تمثّلت في جيشٍ حانقٍ وحاقد غرتّه الدنيا بزبرجها وخيلائها، وقادها رجل قال عنه الحسين : «ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله».

وهنا رسالتان لكل جهة

الجهة الأولى: المتصدّون للمتطلعين للشهادة

حين يكون المنصب والجاه والزعامة هي الحاكمة على عقلية الفرد، فإنه من الطبيعي أن يتصدّى لكل من يسعى لزعزعة سلطانه وملكه، أو حتى من يعتقد أنه خطراً على حكمه. ولذا قال ذلك الخليفة العبّاسي لابنه: "يا بني الملك عقيم، ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك".

وفي كربلاء لم يكن الحسين متوجّهاً لمناهضة حاكم، والانقلاب على سلطانه، ورغم ذاك فإن جيش يزيد قد قاتل الحسين لا لشيء إلا لأن الحسين  فيما يعتقده يزيد يُمثّل خطراً على سلطانه وحكمه، ووجوده على قيد الحياة يُبقيه مضطرباً قلقاً على حكمٍ دنيويٍّ زائل، فباع آخرته بحطام دنياه.

وهكذا هو الحال في أرجاءٍ كثيرة من العالم العربي، فقد ثار الشباب ليس لمنازعة الحاكم على حكمه، والانقلاب على سلطانه، إنما للمطالبة بالعدالة والحريّة والكرامة والحقوق المفروضة والعيش الكريم، وكلّها مطالب مشروعة، لا ينكرها حتى الحاكم الذي يغتصبها، فلماذا لا تُعطى هذه الحقوق لأهلها؟ لست أدري!

ولذا يتوجّب على الجهات المتصدّية للمتطلعين للشهادة أن يضعوا في أذهانهم قول الله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، وقول الرسول الأعظم محمد : «لزوال الدنيا جميعاً أهون على لله من دم يسفك بغير حق»، وقوله : «لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً»، وقوله: «من شرك في دم حرام بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آئس من رحمة الله»، كي ينئوا بأنفسهم عن ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم الذي لا يُغتفر.

الجهة الثانية: المتطلعون للشهادة

الشهادة غاية لا ينالها إلا ذو حظٍّ عظيم. وفي ظل الأوضاع المتوتّرة في أرجاءٍ واسعة العالم العربي فإن فرصة الشهادة أصبحت أكبر، وكل من يتطلع للشهادة يُمكنه الوصول إليها بسهولةٍ بالغة.

والسؤال المهم: هل الشهادة غاية لذاتها؟ أم أنّها غاية لتحقيق غاياتٍ أسمى وأكبر؟

إن المتأمّل بوعي وحكمة يقطع بأن الشهادة ليست غاية لذاتها، وإنما هي غاية لما بعدها. وما بعدها قد يكون أحد أمرين:

الأول: تحقيق واقعٍ حضاري على الأرض

وهذا الهدف في بعض الظروف والأوضاع لا يُمكن الوصول إليه إلا بتقديم التضحيات، وبذل النفوس، ولذا نجد في السيرة النبويّة المطهّرة العديد من الغزوات، والتي كان من أجلى أهدافها هذا التطلّع الريادي.

ومن جانبٍ آخر، فإن هذا التطلع الكبير لا يُمكن تحقيقه عفوياً وبلا تخطيط ودراسة، فقد يسقط الكثير من الشهداء دون الوصول لهذا الهدف، والسبب هو عدم الحكمة في اتّخاذ الموقف.

وقد يكون تحقيق هذا الهدف النبيل سلمياً، وهذا ما شاهده العالم خلال ثورات الربيع العربي، والتي ما زالت تواصل مسيرتها حتى يأذن الله تعالى بحكمته لتحقيق هذه الغاية التي تتطلع إلها كل الشعوب العربية.

الثاني: رضا الله تعالى والجنّة

صحيح أن الشهادة تُحقق رضا الله تعالى والجنّة، إلا أن ذلك لا يتحقق لأيٍّ كان، فكم من قتيلٍ وسط الصراع لم يفز بشرف الشهادة، ومن هنا يتوجّب على المتطلعين للشهادة أن يكونوا أكثر حكمةً في مواقفهم، وأن يكون رضا الله سبحانه هو الغاية التي ما بعدها غاية، فإذا شاءت حكمته الفوز بالشهادة فذلك شرفٌ كبير، وإذا كانت مشيئته بخلاف ذلك فالأمر لله، ولا اعتراض على حكمه.

ولذا ينبغي للمتطلعين للشهادة أن يختاروا تحركهم بوعي وحكمة، لا أن يكونوا مع الرياح، تُسيّرهم كيفما شاءت، وعليهم أن يستلهموا من ثورة الإمام الحسين المباركة دروساً وقيماً تنهض بواقعهم، وتُحقق لهم رضا الله سبحانه، ليفوزوا بنعيم الدنيا والآخرة.

فالإمام الحسين حين قاد تلك الثورة العظيمة ضد طاغية عصره يزيد لم يتحرك تحركاً عشوائياً، وإنما خطط لتحركه، ليس فقط في حدود المعركة التي شهدتها أرض كربلاء يوم العاشر من المحرم سنة 61 هـ، بل كان تخطيطه بعيد المدى، إذ استمر لما بعد استشهاده حيث تابعت المسيرة أخته العقيلة زينب فقدمت أروع نموذج للصمود ومقاومة الطغيان، وفي ذلك أبلغ درس للشعوب العربية بأن تقف المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل، بما يلائم ظرفها والظرف العام، في حركة سلمية تنادي بإحقاق الحق ورفع كل مظاهر التفرقة والتمييز.

وإن أخطر ما يُخاف على ثورات الربيع العربي أن تُسرق تلك الجهود الكبيرة من قبل أناس همهم مصالحهم الشخصية فيتسلّطون على الناس كما تسلّط من سبقهم، ولا يمكن الوقوف ضدَّ هذا الخطر إلا بالوعي والتحلّي بالحكمة والتخطيط الرصين للتحرك السلمي في المطالبة بالحقوق.

وإذ نعيش هذه المناسبة العظيمة، ذكرى عاشوراء الشهادة، حريٌّ بالخطباء أن يوجّهوا اهتمامهم فيما يخدم المرحلة بتوجيهٍ هادفٍ للشباب، كي يكونوا أكثر وعياً في إدارتهم لذواتهم بالدرجة الأولى، ولتحركهم السلمي، ووعيهم السياسي بالدرجة الثانية.

أسأل الله أن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه، وأن يحفظ الشباب ويلهمهم الصواب والحكمة في جميع شؤونهم وأحوالهم وتحركهم السلمي المشروع، إنه سميع الدعاء قريب مجيب.

لمزيد من المعلومات يمكنكم مراجعة الروابط التالية: