الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الفقيه رئيس الدّولة الإسلاميّة في عصر الغيبة

المسألة الأُولى: في البحث عن مبدأ ولاية الفقيه بمستوىً يجعله رئيساً للدولة الإسلامية.

ولكي يمكن مواكبة هذا البحث ـ حتى لمن لم يقتنع بما مضى من جواز الخروج على الطغاة في عصر الغيبة ـ نفترض في المقام أنه عرضت الحكومة على المؤمنين بلا حرب ولا قتال، فهل يجوز للمؤمنين الامتناع عن استلام الحكم ليبقى الحكم بيد الفسقة والفجرة أو بيد الكفار ! أو يجب عليهم التصدّي للحكم في هذه الحالة؟

من الواضح أنه يجب التصدي للحكم في هذه الحالة، ولا يجوز جعل السلطة عمداً واختياراً بيد الظلمة أو الكفرة ممّا يؤدّي إلى حصول الظلم والطغيان ومعصية اللّه عزّ وجلّ واضمحلال كثير من الأحكام، وعندئذ فهل تكون ولاية الأمر للفقيه، أو لا؟

الأساس الفقهي لولاية الفقيه

يمكن إثبات ولاية الأمر للفقيه على مستوى إدارة سلطة البلاد على أحد أُسس ثلاثة:

الأوّل: أساس الأُمور الحسبية وتطبيق ذلك يكون على أحد أُسلوبين:

أوّلهما: تطبيق عنوان الأُمور الحسبيّة على المصالح التي تحفظ بالسلطة والحكم من مصالح الإسلام وأحكامها التي تنتهك لولا حكم إسلامي عادل، أو مصالح المسلمين التي لا تراعى ضمن حكم غير إسلامي أو غير عادل، فبما أننا نجزم بعدم رضا الشارع بفوات تلك المصالح ثبت لدينا ضرورة التصدّي للحكم في الجملة بعنوان التصدّي للأُمور الحسبية، ونضمّ إلى ذلك أحد أمرين: إمّا القول بأن القدر المتيقن ممن نعلم برضا الشارع بتصدّيه لهذه الأُمور الحسبية هو الفقيه، وبما أن الولاية خلاف الأصل فلابد من الاقتصار فيها على القدر المتيقّن، وإمّا القول بورود أدلّة خاصّة تشترط الفقاهة في قيادة الأُمة، وبهذا يثبت أنّ ولاية الأُمور تكون للفقيه.

إلاّ أن هذه الولاية التي ثبتت عن هذا الطريق فيها بعض النقائص، فمثلا لا تثبت بهذا ولاية الفقيه في الأُمور التي لم تصل إلى مستوى الضرورة وإن كانت في إجرائها مصلحة للبلاد، ففتح الشوارع ـ مثلا ـ أو الإصلاحات الزراعية أو تقسيم الأراضي وما شابه ذلك إنما يجوز إجراؤها على خلاف رضا المُلاّك بمقدار ما وصل الأمر فيها إلى حد الضرورة واللابدية التي نقطع معها بعدم رضا الشارع بفوات ذلك، ولا يجوز إجراؤها بمقدار ما يعدّ من الأُمور الكمالية والمصالح الثانوية للبلاد لعدم ثبوت كونها من الأُمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بفواتها.

ولو وقع الخلاف بين السلطة وبين شخص من الأشخاص في ثبوت الضرورة وعدمها، فالسلطة أرادت إعمال الولاية لما تراه من الضرورة، والشخص لم يكن مقتنعاً بذلك لم تجب على الشخص الطاعة؛ لأنه لا يعتقد بدخول ذلك في الأُمور الحسبية.

ولو أصدرت السلطة أمراً عامّاً لضرورته، ولكن الشخص رأى في مصداق من مصاديق ذلك الأمر انتفاء الضرورة لم تجب عليه الطاعة، فنظام المرور مثلا وإن كان بشكل عام أمراً ضرورياً لحفظ سلامة الأُمة، ولكن حينما يتفق صدفة خلوّ الطرق بحيث لا يبقى أي ضرر في مخالفة نظام المرور جازت المخالفة، إلاّ إذا كانت تلك المخالفات بمستوىً يوجب تضعيف الدولة، وبالتالي العجز عن تحقيق المصالح المهمّة التي نقطع بعدم رضا الشارع بفواتها.

وثانيهما: تطبيق عنوان الأُمور الحسبية على نفس السلطة والحكم ببيان: أنّ إعمال السلطة حتى في الموارد التي يرى الشخص عدم الضرورة في ذلك أمر ضروري؛ لأنه إذا صار القرار على استثناء كلّ مورد يرى الشخص عدم ضرورة إعمال السلطة والولاية فيه ـ بأن يقال: إنه لا تجب على ذاك الشخص في ذلك المورد الطاعة ـ انهارت المصالح المهمة أيضاً؛ إذ حتى لو فرضنا أن الناس يصدقون فيما يدّعون من اعتقاد عدم الضرورة يكون هذا الاعتقاد منهم في كثير من الأحيان خطأً، فلو سمح لكل واحد أن يعمل وفق اعتقاده لانهارت المصالح المهمة الثابتة في موارد أخطاء البعض.

أمّا تخصيص السماح بالمخالفة بخصوص من طابق اعتقاده الواقع فلا يحلّ الإشكال؛ إذ لا يمكن تمييز ذلك لهم وكلّ منهم يدّعي أنه هو الذي لم يخطأفي اعتقاده.

فإذا طبّقنا عنوان الأُمور الحسبية بهذا البيان على نفس استلام زمام السلطة وإعمالها ضممنا إلى ذلك هنا أيضاً أحد الأمرين الماضيين، أي إما كون القدر المتيقّن ممن يجوز له ذلك هو الفقيه، أو أدلّة اشتراط الفقاهة في قيادة الأُمّة.

وهذا البيان خير من البيان الأوّل؛ لأنه عالج النقص الثاني من النقصين اللذين أشرنا إليهما في ذيل البيان الأوّل، نعم بقي النقص الأوّل على حاله، وهو أنه لا تثبت بذلك ولاية السلطان عندئذ على تنفيذ ما يراه من الكماليات والمصالح الثانوية غير الضرورية.

الثاني: أساس الأدلّة اللفظية الدالّة على أنه يجب على الناس خلق السلطة الإسلامية والحكم الإسلامي عند عدمها، كآيات الخلافة والأمانة بعد ضمّ ذلك أيضاً إلى أنّ المتيقن ممّن يجوز له ذلك هو الفقيه أو إلى أدلّة شرط الفقاهةفي الإمامة.

وهذا الوجه يكون في نتيجته أقوى من الوجهين الأوّلين؛ لأنّه لا يشتمل حتى على النقص الأوّل من النقصين اللذين مرّت الإشارة إليهما، فكلّما يعدّ عرفاً من شؤون إدارة النظام والحكم يصبح جائزاً للفقيه الوليّ ولو عدّ من الكماليات والمصالح الثانوية.

الثالث: أساس الدليل اللفظي الدالّ على مبدأ ولاية الفقيه، ونقتصر في بحث ذلك على نصّ واحد، وهو التوقيع المشتمل على قوله (عليه السلام): «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه» ولا نبحث هنا باقي النصوص التي قد يستدل بها على ذلك اختصاراً للحديث.

كما أننا نقتصر أيضاً في مقام التعرّض لإشكالات هذا النص وعلاجها على أهمّ تلك الإشكالات وهي:

۱ ـ الإشكال السندي: لعدم معروفية راوي الحديث، وهو إسحاق بنيعقوب.

۲ ـ احتمال كون اللام في الحوادث الواقعة لام عهد إشارة إلى حوادث وردت في سؤال السائل، والتي لا نعلم ما هي.

۳ ـ كون كلمة الرواة ظاهرة في الارجاع إلى الرواة بما هم رواة، وهذا يعني الإرجاع إليهم في أخذ الروايات وأخذ الفتاوى، وهو غير الولاية، أو الإرجاع إليهم في ذلك وفي ملء منطقة الفراغ في ما يحتاج ملؤه إلى تضلّع روائي، وهذا غير الولاية المطلقة.

ولنبدأ الآن ببحث هذه الأُسس التي أشرنا إليها لولاية الفقيه:

۱ ـ  على أساس مبدأ الأُمور الحسبيّة

۲ ـ على أساس الأدلّة اللفظيّة لوجوب إقامة الحكم

۳ ـ على أساس النصّ على ولاية الفقيه

المؤشّرات في الفقه إلى اتّجاه العناصر المتحرّكة الاقتصاديّة في الإسلام

هذا تمام كلامنا في المسألة الأُولى وهي أصل مسألة ولاية الفقيه.

من نتائج البحث

ومن النتائج التي توصّلنا إليها في هذا البحث ما يلي:

۱ ـ أنّ مسألة دخول السلطة في الحكم في حاقّ الشريعة الإسلاميّة وتشابكها مع أحكام الفقه الإسلاميّ أو ضرورة إقامة الدولة لا تنتهي إلى نتيجة ولاية الفقيه إلاّ بضمّ ذلك إلى دعوى القدر المتيقّن ممّن له حقّ التولّي في الأُمور الحسبيّة، أمّا الدليل اللفظي على شرط الفقاهة فغير موجود عدا ما تفترض دلالته بنفسه على مبدأ ولاية الفقيه.

۲ ـ أنّ حديث: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم» دلالته على ولاية الفقيه تامّة في كلا القسمين، أعني: ملء منطقة الفراغ واتخاذ الموقف على أساس تشخيص الموضوع، إلاّ في موارد نادرة. ولو لم نحتمل الفرق فقهيّاً بلحاظ تلك الموارد النادرة تمّت الدلالة ولو بالالتزام في تلك الموارد أيضاً.

۳ ـ سيتّضح في المسألة الثانية أنّه لا يوجد دليل مطلق على الانتخاب يشمل انتخاب غير الفقيه كي يعارض به التوقيع الشريف الدال على ولاية الفقيه، أمّا لو فرض وجود دليل من هذا القبيل فمقتضى الجمع بينه وبين التوقيع وجوب كون المنتخب الولي منحصراً في دائرة الفقهاء1.

  • 1. المصدر: كتاب ولاية اللأمر في عصر الغيبة، لسماحة السيد كاظم الحائري.