نشر قبل 6 سنوات
مجموع الأصوات: 47
القراءات: 8973

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ولكن تعمى القلوب التي في الصدور

نص الشبهة: 

كانت العرب ولعلّ البشريّة جَمعاء ترى مِن القلب ـ ومَحلّه الصدر ـ مَركزاً للتعقّل والإدراك وكذا سائر الصفات النفسيّة؛ وذلك باعتبار كونه منشأ الحيويّة في الإنسان، فمِن القلب تنبثّ الحياة وتزدهر الحيويّة في الإنسان، ومنها النشاط الفكري وتجوال الخواطر وسائر أحوال النفس من حبٍّ وبغضٍ وابتهاجٍ وامتعاض! هذا مع العلم بأنّ البشريّة عرفت ـ منذ أُلوف السنين ـ أنّ مركز الإدراك هو المُخّ ومَحلّه الدِماغ من الرأس، ومنه اشتقاق الرِئاسة لمركزيّة التدبير. إذن لم تكن مركزيّة الدِماغ للإدراك ممّا تَجهله العرب وسائر الناس، فما وجه التوفيق؟

الجواب: 

وقد رجّح ابن سينا أن يكون المُدِرك هو القلب وأنّ الدِماغ وسيلةٌ للإدراك، فكما أنّ الإبصار والسَمع يحصلان في مراكزهما من المخّ وتكون العين والأُذُن وسطاً لهذا الحصول، كذلك الدِماغ وسط للإدراك والتفكير 1.﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ 2
وبذلك يتلخّص الإنسان ـ في نشاطه الفكري والعلمي ـ في قلبه، ويتّحد القلب مع النفس والروح في التعبير عن حقيقة الإنسان ذاته، ﴿ ... قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ... 3 أي نفسي.
قال العلاّمة الطباطبائي: لَمّا شاهد الإنسانُ أنّ الشعور والحسّ قد يَبطل في الحيوان، أو يغيب عنه بإغماءٍ أو صرعٍ ونحوهما، ولا تَبطل الحياة مادام القلب نابضاً، قطع بأنّ منشأ الحياة هو القلب وسرت منه إلى سائر الأعضاء، وأنّ الآثار الروحيّة وكذا الأحاسيس المُتواجدة في الإنسان ـ مِن مِثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف ـ كلّها للقلب، بعناية أنّه أَوّل متعلّق للروح، وهذا لا ينافي كون كلّ عضوٍ من الأعضاء مبدأ لعملٍ يخصّه، كالدماغ للفكر والعين للإبصار والأُذُن للسمع والرئتَين للتنفّس ونحو ذلك، فإنّها جميعاً مَنزلة الآلات والوسط إلى ذلك.
قال: ويتأيّد ذلك بما وَجَدَته التجارب العلميّة في الطيور، لا تموت بفقد الدماغ، سِوى أنّها تفقد الشعور والإحساس، وتبقى على هذه الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائيّة وإيقاف نبضات القلب.
والبحوث العلميّة لم تُوفّق لحدّ الآن للعثور على مصدر الأحكام الجسديّة أعني عرش التدبير في البدن، إذ أنّها في عين التشتّت والتفرّق في بِنيَتِها ونوعية عملها، هي مجتمعة تحت لواءٍ واحد ومؤتمرة بأوامر أميرٍ واحد، وحدة حقيقية من غير انفصام.
وليس ينبغي زَعمُ التغافل عن شأن الدِماغ وما يَخصّه من أمر الإدراك، وقد تنبّه الإنسان لِما عليه الرأس مِن الأهميّة في استواء الجسد مُنذ أقدم الزمان، وقد جرى على ألسنتهم التشبيه بالرأس والاشتقاق منه حيثما يُريدون التعبير بالمبدئيّة في أيّ شيء.
ولكن مع ذلك نَراهم ينسبون الإدراك والشعور وكذا صفات النفس ـ ممّا للشعور فيه حظّ ـ إلى القلب المُراد به الروح الساطية على البدن والمُدبّرة له، كما يَنسبونها إلى النفس بمعنى الذات، فلا فرق بين أنْ يُقال: هَواكَ قلبي أو هَوتك نفسي. فأُطلق القلب وأُريد به النفس ؛ باعتبار كونه مبدأ جميع الإدراكات (العقليّة) والصفات (النفسيّة)، وفي القرآن الشيء الكثير من ذلك: قال تعالى:﴿ ... يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ... 4 ﴿ ... يَضِيقُ صَدْرُكَ ... 5﴿ ... وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ... 6.﴿ ... إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ 7، إلى غيرها من آيات 8 9.