الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ابو بكر شيخ يعرف

نص الشبهة: 

قد جاء في بعض المرويات: أن النبي «صلى الله عليه وآله» أقبل إلى المدينة وكان أبو بكر رديف النبي «صلى الله عليه وآله»، وأبو بكر شيخ يُعرَف، والنبي «صلى الله عليه وآله» شاب لا يُعرَف، فيلقى الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر من هذا الذي بين يديك؟ وفي لفظ أحمد: من هذا الغلام بين يديك، فيقول: يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه يهديه الطريق وإنما يعني سبيل الخير. وفي التمهيد: أن الرسول «صلى الله عليه وآله» كان رديف أبي بكر، فكان إذا قيل لأبي بكر: من هذا وراءك؟ الخ. وصرح القسطلاني: بأن ذلك كان حين الانتقال من بني عمرو بن عوف، أي من قباء إلى المدينة. وفي نص آخر: أنه لما قدم «صلى الله عليه وآله» المدينة تلقاه المسلمون ؛ فقام أبو بكر للناس، وجلس النبي «صلى الله عليه وآله» وأبو بكر شيخ، والنبي «صلى الله عليه وآله» شاب، فكان من لم ير النبي يجيء أبا بكر زاعماً أنه هو، فيعرفه النبي «صلى الله عليه وآله» حتى أصابت الشمس رسول الله، فجاء أبو بكر فظلل عليه بردائه، فعرفه الناس حينئذٍ (راجع في ذلك كلاً أو بعضاً: إرشاد الساري ج6 ص214 والسيرة الحلبية ج2 ص41، وصحيح البخاري ط مشكول باب الهجرة ج6 ص53 وسيرة ابن هشام ج2 ص137، ومسند أحمد ج3 ص287، والمواهب اللدنية ج1 ص86، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص202، والمعارف له ص75 والندير ج7 ص258 عن كثير ممن تقدم وعن الرياض النضرة ج1 ص78 و 79 و 80، وعن طبقات ابن سعد ج2 ص222.).

الجواب: 

ولكن ذلك لا يمكن أن يصح وذلك للتالي:

أولاً: إن كون أبي بكر يُعرَف، والنبي لا يُعرَف، لا يمكن قبوله، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يعرض دعوته على مختلف القبائل التي كانت تقدم مكة، طيلة سنوات عديدة وقد سار ذكره في الآفاق، وبايعه من أهل المدينة أكثر من ثمانين ورآه حوالي خمسمئة من أهل المدينة قدموا مكة، قبل ثلاثة أشهر فقط كما تقدم.
فكيف يكون أبو بكر يعرف، والنبي «صلى الله عليه وآله» لا يعرف؟! 1.
ومن جهة أخرى: فلم يكن أحد يهتم بسفر أبي بكر أو يحس به ولا يجد أي من الناس دافعاً للتعرف عليه.
هذا كله، عدا عن أن أبا بكر قد فارق الرسول «صلى الله عليه وآله» حينما وصلا إلى قباء، ولم يبق معه إلى حين دخول المدينة.
وأما ما ذكر أخيراً: من أن من لم ير النبي «صلى الله عليه وآله» كان يجيء أبا بكر زاعماً أنه هو فهو ينافي قولهم: إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان شاباً لا يعرف وأبو بكر شيخ يعرف.
ثانياً: لقد كان الناس من أهل المدينة ينتظرون قدومه «صلى الله عليه وآله» بفارغ الصبر، وقد استقبله منهم حين قدومه حوالي خمسمئة راكب 2 بظهر الحرة وكان النساء والصبيان والشبان وغيرهم يهزجون ـ كما قيل ـ:

طلـع البـدر عليـنا *** من ثـنـيات الـوداع
وجب الشكر علـيـنا *** ما دعا لله داع
أيها المبعوث فـيـنا *** جئت بالأمـر المطاع

وكان قد مكث في قباء أياماً يستقبل الناس ؛ فهل يمكن أن يكون متنكراً حين قدومه من قباء إلى المدينة، كما يقول القسطلاني؟! 3.
أو هل يمكن أن يكون قد دخل المدينة ولم يكن معه أحد من أهل قباء، ولا من أهل المدينة وأين كان عنه علي حينئذٍ؟!
وألم يكن أهل المدينة قد أتوا زرافات ووحداناً إلى قباء ليتشرفوا برؤيته؟! ولماذا لم يدل العارفون به أولئك الذين يشتبهون في أمره عليه؟!

ثالثاً: لقد كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يكبر أبا بكر بسنتين وعدة أشهر؛ لأنه «صلى الله عليه وآله» ولد عام الفيل، وأبو بكر استكمل بخلافته سن رسول لله «صلى الله عليه وآله»، حيث توفي ـ كما يدعون ـ بسن النبي «صلى الله عليه وآله» عن ثلاث وستين سنة 4.
إذاً فكيف يصح قولهم: إنه شيخ والنبي «صلى الله عليه وآله» شاب؟
ومما ذكرناه نعرف: عدم صحة ما روي عن يزيد بن الأصم ـ المتوفى بعد المئة عن 73 سنة ـ من أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لأبي بكر: أنا أكبر أو أنت؟
قال: لا، بل أنت أكبر مني وأكرم، وخير مني، وأنا أسن منك 5.
وأما الاعتذار عن ذلك: بأن الشيب كان في وجه أبي بكر ولحيته كثيراً بخلافه «صلى الله عليه وآله» 6 ـ أو أن أبا بكر كان تاجراً، يعرفه الناس في المدينة عند اختلافه إلى الشام ـ فلا يصح ؛ لأن الشيب وعدمه لا يخفي الشيخوخة والشباب، حتى لقد ورد التعبير في بعض تلك المرويات بـ «ما هذا الغلام بين يديك»؟
فما معنى التعبير بالغلام عن رجل يزيد عمره على خمسين سنة؟
إلا أن يقال: الغلام يطلق على الشيخ والشاب فهو من الأضداد.
وأيضاً: فقد روي عن ابن عباس بسند صحيح: أن أبا بكر قال للنبي «صلى الله عليه وآله»: يا رسول الله قد شبت؟ قال: شيبتني هود والواقعة والخ..
وروى الحفاظ مثله عن ابن مسعود، وعن أبي جحيفة، قالوا: يا رسول الله، نراك قد شبت، قال: شيبتني هود وأخواتها 7.
وإذا كانت السور المذكورة مكية كما هو معلوم، فيستفاد من ذلك: أن الشيب قد بان فيه «صلى الله عليه وآله» في مكة على خلاف الطبيعة، وأسرع فيه، حتى صار الناس يسألونه عنه، وعما أثره 8 ولم يكن مجرد شعرات قليلة لا تلفت النظر، ولا يلتفت إليها.
وأما أن أبا بكر كان تاجراً يختلف إلى الشام، فقد تقدم: أنه كان في الجاهلية معلماً للأولاد، وبعد ذلك صار خياطاً، وكما كان أبو بكر يختلف إلى الشام، فقد كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» أيضاً يختلف إلى الشام، وكان التعرف عليه أدعى وأولى، بملاحظة ما كان له من الشرف والسؤدد في قريش والعرب، وكان له في أهل المدينة قرابة أيضاً.
هذا، عدا عما أسلفناه من أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يعرض دعوته على القبائل التي تقدم مكة لعدة سنوات.
وأيضاً: فإن صفات النبي «صلى الله عليه وآله» كانت تدل عليه، وقد وصفته أم معبد لزوجها فعرفه.
أما أبو بكر، فقد تقدمت صفته عن عائشة وغيرها في بعض الفصول.
وأخيراً: فإن ركوب النبي «صلى الله عليه وآله» وأبي بكر على ناقة واحدة لم نجد له ما يبرره، بعد أن كان لدى كل منهما ناقة تخصه كما تقدم.

رأي العلامة الأميني

ويرى الأميني «قدس سره»: أن قضية: أنت أكبر مني وأنا أسن منك تنقل عن النبي «صلى الله عليه وآله» مع سعيد بن يربوع المخزومي، الذي توفي سنة أربع وخمسين عن مئة وعشرين سنة.
ويرى أيضاً: أن حجة أبي بكر يوم السقيفة على مخالفيه قد كانت كبر سنه، فحاول محبوه تأييد هذه الدعوى بما ذكرنا من كونه أسن من النبي «صلى الله عليه وآله» والنبي أكبر منه، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان شاباً، بل غلاماً، لا يعرف!! وأبو بكر كان شيخاً يعرف!! 9 10.

  • 1. راجع: الندير ج7 ص258.
  • 2. الثقات لابن حبان ج1 ص131، ودلائل النبوة ج2 ص233، ووفاء الوفاء ج1 ص255، عن التاريخ الصغير للبخاري، والسيرة الحلبية ج2 ص52، والسيرة النبوية لدحلان هامش الحلبية ج1 ص325، وتاريخ الخميس ج1 ص326.
  • 3. إرشاد الساري ج6 ص214.
  • 4. المعارف لابن قتيبة ص75، مدعياً الاتفاق على ذلك، وأسد الغابة ج3 ص223، ومرآة الجنان ج1 ص65 و 69 ومجمع الزوائد ج9 ص60 والإصابة ج2 ص341 ـ 344، والغدير ج7 ص271 عمن تقدم وعن المصادر الآتية: الكامل لابن الأثير ج1 ص185 وج 2 ص176، وعيون الأثر ج1 ص43 والسيرة الحلبية ج3 ص396 والطبري ج2 ص125 وج 4 ص47 والإستيعاب ج1 ص335، وقال: لا يختلفون أن سنه انتهى حين وفاته ثلاثاً وستين سنة، وسيرة ابن هشام ج1 ص205.
  • 5. الغدير ج7 ص270 عن الإستيعاب ج2 ص226، والرياض النضرة ج1 ص127 وتاريخ الخلفاء ص72 عن خليفة بن خياط، وأحمد بن حنبل وابن عساكر.
  • 6. فتح الباري ج7 ص195، وراجع الغدير ج7 ص260 و 261.
  • 7. مستدرك الحاكم ج2 ص343 وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة واللمع لأبي نصر ص280 وتفسير ابن كثير ج2 ص435، والغدير ج7 ص261 عنهم وعن تفسير القرطبي ج7 ص1 وتفسير الخازن ج2 ص335 وعن جامع الحافظ الترمذي، ونوادر الأصول للحكيم الترمذي، وأبي يعلى، والطبراني، وابن أبى شيبة.
  • 8. الغدير ج7 ص261.
  • 9. الغدير ج7 ص271.
  • 10. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، سنة 2005 م. ـ 1426 هـ. ق، الجزء الرابع.