حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
السبيل إلى الإصلاح الحضاري
من أين بدأت بإصلاح المجتمع أو إصلاح الحياة ، فإنك لابد أن تصل إلى سائر الأبعاد ، لأن في الحياة عوامل متكاملة متفاعلة وذات تأثير متقابل .
ترى من أين نبدأ عملية الإصلاح الحضاري في الأمة ؛ من الفرد لإصلاح المجتمع ، أم من المجتمع لإصلاح الفرد ، وهل نبدأ من المجال الاقتصادي أم السياسي أم الاجتماعي ؟
للجواب على ذلك نقول : إنّه ليس المهمّ تحديد نقطة الانطلاق في عمليّة الإصلاح الحضاري ، فجميع مساعينا في هذا المجال تصبّ في قناة واحدة ؛ فإن أصلحنا الفرد فإنّه سيكون الّلبنة الأولى لبناء صرح المجتمع ، وسيبث روحاً جديداً فيه . وإذا بدأنا بإصلاح المجتمع فإن قوانين هذا المجتمع وديناميكية نظامه ستؤثّران بشكل مباشر في إصلاح الفرد أيضاً ، وإذا أصلحنا الاقتصاد فإن السياسة هي الأخرى سينعكس عليها الإصلاح ، وإذا أصلحنا الأخلاق أثّر هذا الإصلاحمباشرة على الثقافة .
وبناءً على ذلك ؛ فإننا نستطيع من خلال بيان هذه الحقيقة أن نحسم الجدال الذي استهلك جهود وأوقات الكثير منالخبراء والعلماء حول تعيين منطلق عملية الإصلاح الحضاري ، بل إنّ هذا الجدال جعل البعض منهم يعيش ضمن دائرة مفرغة لا يعلم من أين يدخل فيها ، ومن أين يخرج منها ، فالمهمّ ليس معرفة هذا البعد أو ذاك بقدر ما هو الانطلاق والمبادرة .
ونحن ـ كمسلمين ـ نصاب في بعض الأحيان بشلل الإرادة ، وقد ينعكس هذا الشلل في تأخير اتخاذ القرار ؛ متذرّعينبأنّنا لا نعرف من أين نبدأ عملنا ، وكيف نتحرك ، ومن الذي سيساعدنا . . في حين أنّ من الواجب علينا أن نتوكّل في هذا المجال على اللَّه تقدّست أسماؤه ، الذي يقول : ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... ﴾ 1.
وثمة سؤال لا يصح التغافل عنه ؛ ما هو السبيل إلى إنشاء مؤسسات اجتماعية حضارية فاعلة ، وكيف نحوّل مساجدنا إلىجامعات ، ومنتديات علمية ومراكز اجتماعية و خدماتية . . ؟
من أجل أن نقوم بكلّ ذلك وغيره ، علينا أن نتّبع الخطوات التالية :
إسقاط الحواجز
1 ـ لابد أن نسقط الحواجز بيننا كأفراد ؛ فنحن نعيش فيما بيننا سواء في الأسرة ، أم في المسجد أو حتى في التنظيماتالسياسية ، ولكن هذا التعايش هو تعايش مادّي بحت ، أمّا الأرواح فإنها متنافرة ، فكل واحد منّا يعيش في وادٍ ،والآخرون في وادٍ آخر .
ترى كيف السبيل إلى إسقاط هذه الحجب ، وتجاوز هذه الحواجز والعقبات ؟ من أجل العثور على إجابة شافية على هذا السؤال ، لابد أن نعود إلى كلمة نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي يقول فيها : ( إنما بُعثت لأتمّم مكارمالأخلاق ) 2 ، إلا أننا عادة لا ننظر إلى التعاليم الأخلاقية باعتبارها قضايا أساسية . فنحن قليلاً ما نتأثّر بالنصائح والمواعظ الأخلاقية ، فالكثير منّا عندما يجلس في مجالس الوعظ والإرشاد فإنّه يسمع المواعظ والإرشادات بإذن ليخرجها من الأذن الأخرى ، فترى كل واحد ينظر إلى ساعته ليرى متى ينتهي المجلس ، في حين أن هذه الدقائق محسوبة عليه ، وهذه المجالس نحن مسؤولون عنها يوم القيامة ، فلعلّ حديثاً نسمعه في هذا المجلس أو ذاك من شأنه ـ إذا لم نطبّقه ـ أن يقف أمامنا يوم القيامة ليمنعنا من دخول الجنّة ، فهذا الحديث يعتبر بالنسبة إلينا نذيراً وبشيراً . صحيح أنالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس بيننا ، ولكن كلامه ما يزال بيننا ، فالخطيب إنما يتحدث إليك بالنيابة عن القرآن وعن النبيصلى الله عليه وآله وسلم ، وعندما لا يترك فيك هذا الحديث الأثر المطلوب فإن هذا يعني أنك لم تأت لكي ترتفع ، وتحدث تحوّلاً حقيقياً فينفسك ، وتتغيّر تغيراً جذرياً ، ولذلك فإن الحديث سوف لا ينفعك ، ولا ينفذ إلى أعماقك لأنك لم تكن مستعداً له من الناحية الذهنية والنفسية .
إن التربية الأخلاقية تمثّل عملية متطورة ، وهي بإمكانها أن تحدث قفزة هائلة في حياتنا ، ونحن إذا أردنا أن نتمسك بتعاليم النبيصلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام الخلقية ، فإننا نحتاج إلى عزيمة تشبه عزيمة الإنسان الذي يريد أن يقتلع جبال الهملايا من جذورها ، والسبب في ذلك أن نفس الإنسان بتجبّره متكبرة ، طاغية ، كما أن الوساوس الشيطانية ، والثقافة الجاهلية ، وغفلة الإنسان وشهواته تزيد من تلك الصفات السلبية في النفس .
إن الحواجز التي تفصلنا عن بعضنا لابد وأن نهدّمها لكي نبني المجتمع الحضاري من خلال تصوّر أن هذه الحواجز ستمنعنا أولاً من دخول الجنة لقول الإمام موسى الكاظمعليه السلام في وصيته لهشام بن الحكم في إطار بيانه للأثر الذيسيتركه في يوم القيامة حاجز من تلك الحواجز : ( وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم ) 3 ، فالكلمة الواحدة من الممكن أن تهوي بالإنسان في نار جهنم سبعين خريفاً ، ولكننا ـ للأسفالشديد ـ ترانا نجلس لنخوض مع الخائضين ، ولنوزّع التثبيطات يميننا وشمالاً ، في حين أن الكلمات المثبطة التي نتفوّه بها من الممكن أن تصبح بالنسبة إلى الطرف المقابل بمثابة فرامل توقف مسيرته . فقد تكون هناك عشرات البرامج في ذهنهذا الإنسان يريد أن يطبّقها ، ولكنّ تلك الكلمات أوقفتها .
هذا في حين أننا مسؤولون عن الكلمات التي ننطبق بها ، وسوف نحاسب عليها يوم القيامة حساباً عسيراً ؛ فالغيبة ،والتهمة ، والنميمة . . . كل ذلك نحن مسؤولون عنه ، وفي القرآن الكريم آيات عجيبة تتوفر على معالجة أمراض النفسشريطة أن يعي الإنسان هذا العلاج ، كقوله تعالى : ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ... ﴾ 4. ففي بعض الأحيان قد لا يغتاب الواحد منّا إنساناً آخر بشكل مباشر ، وقد يرتكب ذنوباً لفظية أخرى فتترك آثارها الضارة والسلبية على الآخرين دون دخولنا الجنة ، وتمنعنا بذلك من الوصول إلى أفضل ما نصبو إليه .
الصفات السلبية سبب المأساة
2 ـ لنتصوّر أن هذه المآسي التي تحلّ بنا ـ نحن المسلمين ـ بما فيها من فظاعة وآلام قد كان السبب فيها تلك الأخلاقيات السيئة التي نعاني منها ، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم .
ترى ما هي هذه الصفات السلبية التي تكّرست فينا وسبّبت هذه المآسي والأزمات ؟ لابد أن هناك أنواعاً أخرى منالذنوب ، ألا وهي الذنوب التي نستهين بها ونستصغرها والتي تعتبر أخطر الذنوب على الإطلاق ، لأن الذنب الذي يستصغره الإنسان لا يمكن أن يغفره اللَّه جل وعلا ؛ فكلّ واحد منّا يتصوّر امتيازه عن الآخرين ببراءة خاصة ، فيقرّر أن جميع الناس كفار ، ومنافقون ، وأن عليه أن يحطّمهم . . ومثل هذا الإنسان سوف يعذبه اللَّه تعالى مرتين ؛ مرّة لأنه ارتكب ذنباً ، ومرّة ثانية لأنه استحلّ حرمة إنسان مؤمن .
وأنا أرى في هذا المجال أن الذنوب التي تنزل نقمات الرب ، وتحول بيننا وبين معالجة وإصلاح أوضاعنا ، هي نوع منالذنوب الخفيّة ؛ مثل سوء الظنّ ، والتكبّر ، والتفاخر ، والاستهزاء بالآخرين ، والحط من شأنهم .
فلنقرأ ـ مثلاً ـ سورة الحجرات ، ولنطبّقها على أنفسنا ، ولنتدبر في هذه الآية : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ... ﴾ 5. فكيف يحق لنا أن نقرّر أن جماعتنا هي أفضل من تلك الجماعة ، وكيف استطعنا أن نضمن خلاصنا من نار جهنم لكي ندخلالآخرين فيها ؟
إن هذه الصفات السلبيّة المذمومة هي حواجز بيننا كأفراد ، وهذه الحواجز تمنعنا من التعاون ، وعندما ينعدم التعاون سيوجد الذل والفقر وسائر الصفات السلبية الأخرى .
وللأسف ؛ فإنّني قد أرى اثنين من الإخوان المؤمنين الملتزمين بالتعاليم الدينية لا يستطيعان أن ينسجما مع بعضهما فيمشروع واحد ، رغم أن هذا المشروع هو مشروع دينيّ ليس من ورائه مصلحة شخصية ، في حين أن الأعمال الحضارية هي ـ عادة ـ أعمال جماعية ، ومثل هذه الروحية لم تنمُ فينا بعد ، لأنّنا نعاني من تلك الأخلاقيات السلبية ، وقد يكونالواحد منا اكتسب هذه الأخلاقيات منذ الطفولة .
توظيف الاختلاف في التكامل
إن القرآن الكريم يقول صراحة : ﴿ ... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ... ﴾ 6، ولكن الواحد منّا لا يريد أن يعمل مع الآخرين بحجّة أنه لا ينسجم معهم! في حين أن القضية ليست قضية هوى نفس ، فالأيادي لابد أن تتلاحم مع بعضها ، والتجارب والخبرات لابد أن تتجمّع مع بعضها . صحيح أن اللَّه تقدست أسماؤه قد خلق كل إنسان علىشاكلة معيّنة ، وأن الاختلاف من طبيعة كل إنسان ، ولكنّ هذا الاختلاف يجب أن يُوظّف لمصلحة التكامل ، من أجل أننشكل به المجتمع الواحد المكتفي من خلال ذلك الاختلاف اكتفاء ذاتياً . فاللَّه تبارك وتعالى لم يخلقنا مختلفين لكي نتنافر ونتصارع مع بعضنا ، فهو يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... ﴾ 7.
وعلى هذا فإن الحكمة من الاختلاف هو الوحدة ، والتكامل ، والتفاعل . أما أن نتمسك بالاختلاف الذي بين نفوسنا وطبائعنا ، وأن يبغي كل واحد منا أن تكون له مؤسسة خاصة به لا يدخل فيها عليه أحد ، فإن هذه الظواهر هي منصفات المنافقين الذين يعصون من فوقهم ، ويظلمون من تحتهم ، فلا يستطيعون التوحّد والانسجام مع من هو أعلىمنهم ، ولا مع من هو أصغر منهم .
إن علينا أن ننتزع هذه الصفات السلبية من نفوسنا ، وعندما نتخلّص منها فإننا سنستطيع أن نبدأ مسيرة الحضارة .
وكذلك الحال بالنسبة إلينا فإن من الواجب لكي نصل إلى تلك المستويات الرفيعة أن نلتزم بجميع الأخلاقيات الإيجابية ، وأن لا ندّعي أننا مبرّؤون من الآثام والذنوب ؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك بعضاً من الذنوب تصدر من العقل الباطن ، ومن بعض المؤثرات غير الشعورية دون أن نحس بها ، ومثل هذه الذنوب يجب أن نتخلص منها وأن لا ندّعي إننا منزّهون عنها .
حسن الخلق في الروايات
وفيما يلي سأنقل للقراء الكرام بعض الروايات التي تتحدّث عن فضيلة حسن الخلق ، هذه الفضيلة التي تقود إلى أعلى المستويات الحضارية :
ـ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق ) 8 .
ـ وقال الإمام جعفر الصادقعليه السلام : ( أربع من كنَّ فيه كمل إيمانه ، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينقصه ذلك وهي : الصدق ، وأداء الأمانة ، والحياء ، وحسن الخلق ) 9 .
ـ وقال عليه السلام : ( ما يقدم المؤمن على اللَّه عز وجل بعمل بعد الفرائض أحبُ إلى اللَّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه ) 10 .
ـ وقال رسول اللَّهصلى الله عليه وآله وسلم : ( إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم ) 10 .
ـ وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( . . وأكثر ما يدخل به الجنة ، تقوى اللَّه ، وحسن الخلق ) 11 .
ـ وقال الإمام جعفر الصادقعليه السلام : ( إن الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد ) 10 .
ـ وقال عليه السلام : ( إن اللَّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطى المجاهد في سبيل اللَّه يغدو عليه ويروح ) 12 .
ـ وقال عليه السلام : ( إذا خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك عليه العليا فأفعل ، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة ، ويكون له خلق حسن ، فيبلّغه اللَّه بخلقه ، درجة الصائم القائم ) 13 .
وهذا يعني إن الأخلاق الحسنة تسدّ ، وتكمل النواقص الموجودة في أعمال الإنسان .
فالتمسك بالأخلاق الحسنة ، وطرد الأخلاق السيئة ، وخصوصاً الاجتماعية منها ، من شأنه أن يرفع ويحطّم الحواجز بيننا ،تلك الحواجز والعقبات النفسية التي تحول دون سيادة حالة التكافل والتعاون والانسجام والحضور الضرورية لتشييد صرح الحضارة الشامخ . فمن دون أن نتسلح بالأخلاقيات الحضارية التي تقف الروح الجماعية في مقدمتها سنظل نرسف في أغلال الجهل ، والتخلّف ، والانحطاط ، وسنبقى تابعين لغيرنا 14 .
- 1. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 69، الصفحة: 404.
- 2. بحار الأنوار : 16 / 199 .
- 3. بحار الأنوار : 1 / 150 .
- 4. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 120، الصفحة: 143.
- 5. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 11، الصفحة: 516.
- 6. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 2، الصفحة: 106.
- 7. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
- 8. بحار الأنوار : 7 / 249 .
- 9. بحار الأنوار : 64 / 295 .
- 10. a. b. c. بحار الأنوار : 68 / 375 .
- 11. بحار الأنوار : 67 / 288 .
- 12. بحار الأنوار : 68 / 377 .
- 13. بحار الأنوار : 68 / 395 ـ 394 .
- 14. من كتاب : الحضارة الإسلامية ـ آفاق و تطلعات ، الفصل الثالث : في البناء الحضاري .